-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هكذا كانت العلاقات مع الدول الشقيقة أثناء ثورة التحرير

دحو ولد قابلية
  • 2407
  • 0
هكذا كانت العلاقات مع الدول الشقيقة أثناء ثورة التحرير

منذ اندلاع الكفاح المسلح في الجزائر، اعترفت جميع الدول العربية الشقيقة بجبهة التحرير الوطني ممثلا للشعب الجزائري الذي يكافح من أجل استعادة استقلاله، وكان المغرب وتونس وليبيا، الجيران المباشرين للجزائر، هم نقاط الارتكاز الأساسية الأولى للدعم والتضامن المتوقعين.

وسرعان ما وجدت جبهة التحرير الوطني دعما قويا في مصر إذ حافظ الرئيس جمال عبد الناصر على علاقات وثيقة مع أعضاء المكتب العربي لتحرير شمال إفريقيا الذي تم إنشاؤه بمبادرته في القاهرة عام 1952.

بعد مصر، حذت حذوها الدول العربية في الشرق الأدنى والأوسط، أولت السودان وسوريا والأردن والمملكة العربية السعودية والعراق واليمن اهتماما كبيرا لكفاح الشعب الجزائري، الذي اعتبرته جزءا من نضال الأمة العربية بأسرها من أجل الحرية والعدالة والكرامة. هذه المساعدات وهذا التضامن هو الذي سنتعرّض له في الأسطر التالية.

 تونس والمغرب ..وكفاح الجزائر

استقبل المغرب وتونس، اللذان يشكلان الامتداد الجغرافي للجزائر في أراضيهما، منذ البداية، آلاف الجزائريين سواء كانوا إطارات، أو قادة، أو مقاتلين، أو مناضلين، أو لاجئين، قدّم البَلدان لجبهة التحرير الوطني، ممثل الشعب الجزائري في الكفاح، مساعدة معنوية ودعما سياسيا دائما ومعتبرا.

كانت روح التضامن هذه متوقعة، لأنها كانت موجودة قبل فترة طويلة من انطلاق حركة التحرر المسلحة في الدول الثلاث، وذلك في ظل توافق المواقف السياسية المؤكَّدة للأحزاب الوطنية الثلاثة، وهي حزب الاستقلال (المغرب) والدستوري الجديد (تونس) وحركة انتصار الحريات الديمقراطية (الجزائر). هذه الأحزاب الثلاثة الممثلة في القاهرة ضمن المكتب العربي لتحرير شمال إفريقيا، تشترك في رؤية المستقبل المشترك للمغرب الكبير الحرّ والموحَّد، بعد تحرره من الوصاية الاستعمارية.

هل قاومت هذه الروح التقلبات التاريخية المرتبطة بحماية المصالح الخاصة لكل كيان؟ الجوار أنه لا يمكن تأكيد أي شيء، فبعد استقلال البلدين المجاورين عامين فقط من بدء الكفاح المسلح في الجزائر، سرعان ما وجد هذان البلدان الشقيقان نفسيهما في مواجهة خيارات صعبة، ومعقدة تجاه الشريك الجزائري بسبب تواصل الحرب واشتدادها في الجزائر، وآثارها على بلديهما.

كان عليهما، في المقام الأول، بناء دولتيهما الوطنيتين وتعزيز سيادتهما على السكان والأرض، مع إقامة علاقة سليمة سياسيا مع المحتل السابق. كما كان عليهما ثانيا، تجنب امتداد الحرب على حدودهما بسبب الدعم الكبير لجبهة التحرير الوطني، من خلال محاولتهما احتواءها، وذلك بالتحكم قدر الإمكان، في انتشارها ومراقبة نشاطاتها على أراضيهما. على الرغم من أن جبهة التحرير الوطني اعتبرت أن اندلاع الكفاح في  الجزائر كان عاملا حاسما في تسريع استقلال جيرانها، ولم تجعلها شرطا ضروريا للتضامن، ناهيك عن اعتبارها حقا من حقوقها.

إذَا كان قد ساد نوعٌ من التوازن والتوافق في حماسة خلال السنوات الأولى من استقلالهما رغم وقوع بعض الحوادث، والنزاعات الصغيرة، فإن المشاكل السياسية الرئيسية ستظهر مع نهاية سنة 1957 وبداية السنة التي تليها.

في المغرب، بقي تمركز الجيش الفرنسي في هذا البلد وانخرط علانية في الصراع الجزائري من خلال تدخُّل وحداته على الحدود، وقواته الجوية في نقاط مختلفة بالبلاد انطلاقا من قاعدته الجوية في القنيطرة قرب الرباط. لكن الخطر الأكبر كان يتمثل في مشكلة الحدود الموروثة عن المحتلِّ الاستعماري.

علال الفاسي ومساومة الثورة التحريرية

صرح علال الفاسي الزعيم القويّ لحزب الاستقلال في أوت 1957، خلال خطاب مدوي ألقاه في إموزار: “إن أفضل ردّ على الدعم المقدَّم لإخواننا الجزائريين، هو إعادة الأراضي الصحراوية التي ألحقت بالجزائر إلى المغرب”. في الشهر نفسه، قررت الحكومة المغربية إنشاء مديرية الشؤون الصحراوية.

يعيد علال الفاسي الكَرّة مرة أخرى في 20 ديسمبر 1957 بمدينة فقيق، وهي البلدة المتاخمة للحدود الجزائرية المغربية، معلنا: “إن تراب الصحراء ليس مجرد تعيين للحدود الإقليمية، إنه كيانٌ اقتصادي، ومصدر حيوي لازدهار بلادنا، إن حدودنا الطبيعية محددة بالخط الذي يوحد سان لوي (Saint Louis) بالسينغال إلى مليلة مرورا بموريتانيا، وتوات (أدرار)، والقرارة (تيميمون). ونتيجة لذلك، فإن بشار والقنادسة تدخلان ضمن وحدتنا الترابية”.

هذه الأطماع الإقليمية، رغم أنها صادرة من حزب الاستقلال، وضعت الملك محمد الخامس أمام الأمر الواقع. سوف تجد امتدادها داخل الحكومة التي يشرف عليها أحمد بلفريج، العضو الآخر المؤثر في هذا الحزب، الذي يعين لجنة وزارية مكلفة بإجراء اتصالات مع الحكومة الفرنسية لإعادة التفاوض بشأن مشكلة الحدود.

هذه الضربة الأولى التي تصيب تناغم العلاقات بين الإخوة والجيران، تلقتها جبهة التحرير الوطني بكل مرارة، ولم تردّ عليها بطريقة عشوائية، وذلك لسببين اثنين، الأول: أن الملك محمد الخامس لم يعلق على الموضوع، والثاني: أنه من المؤكد أن المسؤولين الفرنسيين لن يعيدوا فتح ملف الحدود احتراما للمبادئ التي سبق أن ذكروها، وهي أن الدول التي تحقق الاستقلال ستكون رقعتُها الجغرافية، داخل الحدود الموروثة عن الاحتلال الاستعماري.

 المخزن وورقة الترهيب

بدأت أعمال الترهيب الذي نفذها المخزن ضد جبهة التحرير الوطني عقب هذه الخطابات بإغلاق العديد من مكاتبها في بوعرفة وبوبكر وتافيلالت، واعتقال عشرات المناضلين واللاجئين في الجنوب الذين فرض عليهم الحصول على بطاقات التعريف المغربية، يزداد التوتر حدة عند وقوع اشتباكات دامية بين جيش التحرير الوطني وما يُسمى بالقوات المغربية “الخارجة عن السيطرة”، رغم أنه من المعروف أن هذه الأخيرة كانت تعمل بتحريض من السلطات في فجيج وبوعرفة. أمام تضاعف الأحداث، أرسل قادة جبهة التحرير الوطني في 8 أفريل 1958 طلبا إلى الملك محمد الخامس، الذي قرر، من أجل عدم رهن مؤتمر طنجة المقرَّر عقده في نهاية الشهر، إنشاء لجنة جزائرية مغربية برئاسة مدير ديوانه مسعود شيغير.

من أعضاء هذه اللجنة من الجانب المغربي، إدريس محمد وزير الداخلية، المهدي بن بركة رئيس المجلس الشورى، فقيه البصري عضو المجلس الوطني للمقاومة، ومن الجانب الجزائري معاشو عبد الجليل، حسين قديري، والشيخ خير الدين، وهم المسؤولون الثلاثة عن جبهة التحرير الوطني في المغرب. صدرت قراراتٌ لتهدئة الأوضاع منها: الإفراج عن المعتقلين، وقف التجاوزات ضد اللاجئين، رفع القيود والحواجز أمام تنقلات وحركة جيش التحرير الوطني على الحدود، إعادة الأسلحة والمُعِدّات والحيوانات المحجوزة. لم يتم الوفاء بهذه الوعود إلا أثناء فترة انعقاد المؤتمر.

.. الخيانات تتوالى

اندلعت حوادث أخرى خلال شهري جويلية وأوت 1958، انتفضت بسبب هذه الانتهاكات شخصياتٌ مغربية قامت بتعيين وفد منها، توجّه إلى تشكيل عامل إقليم وحدة وجدة يوم 5 أوت للاحتجاج ضد هذه الأعمال، وأعلنت شخصيات هذا الوفد عن استعدادهم لمعارضتها بالقوة إذ لزم الأمر. وقد هدأت الأمور من جديد بعد إنشاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في شهر سبتمبر 1958.

كان جهاز المخابرات والاتصالات للعقيد بوصوف قد سجَّل هذه الأحداث مرتَّبة ترتيبا زمنيا دقيقا منذ عدة أشهر، ليكون هذا التسجيل بمثابة قاعدة عمل للعقيد بوصوف، بعد تعيينه وزيرا للاتصالات العامة والمواصلات في هذه الحكومة، لإعداد تقرير مفصل حول العلاقات الجزائرية  المغربية يرسله إلى زملائه في الحكومة يوم 1 أكتوبر 1958.

 محمد الخامس ..الدعم المشروط

كانت الإدارة المغربية، التي يهيمن عليها حزبُ الاستقلال تحرص على عدم معارضتها لرأي الملك محمد الخامس، المؤيد لنضال الشعب الجزائري والمتمسك بدقة بالقيم الأسطورية لحسن الضيافة في المملكة. ومع ذلك، فإن هذه الإدارة تتباين، وتتغير مواقفُها بين الضغط السياسي المرتبط دائما بالمطالب الإقليمية، وبين الدعم المشروط، لاسيما في التسهيلات المقدَّمة في الموانئ والمطارات المغربية لعبور الأسلحة والمُعدّات الأساسية لجيش التحرير الوطني على الحدود، بالإضافة إلى إنشاء عديد المستودعات ومراكز التدريب والصيانة.

في تونس، كان الوضع أكثر غموضا بين عامي 1954 و1956، إذ كان لمجاهدي الأوراس الجزائري علاقات وثيقة مع مقاتلي المقاومة التونسيين، وكانوا يتبادلون المساعدات. كان هدف الرئيس بورقيبة عند استقلال تونس في مارس 1956 هو إخضاع مقاتلي المقاومة التونسيين الذين كانوا يؤيِّدون خصمه السياسي صالح بن يوسف، مع عزل العدد الكبير من المقاتلين الجزائريين الذين كانوا مشكَّلين في مجموعات متماسكة وقوية، بعضها على أساس طائفي وفوضوي بدرجات متفاوتة.

يرحب الرئيس بورقيبة بوصول العقيد أوعمران إلى تونس في جانفي 1957، بصفته مفوضا من طرف لجنة التنسيق والتنفيذ لجبهة التحرير الوطني من الجزائر، بهدف تأديب وتحييد هذه العناصر التي كانت تتصرف، وتدبر أمورها بنفسها، حيث كان معظمهم تحت رعاية أحمد محساس، النائب السابق لبن بلة، يعارضون مثله قرارات مؤتمر الصومام.

وقد تحصل العقيد أوعمران على موافقة السلطات التونسية باستدعاء الحرس الوطني للقبض على أكثر من خمسين منهم، ليتسلمهم على الفور العقيد أوعمران وتتم محاكمتُهم من طرف محكمة عسكرية تابعة لجيش التحرير الوطني.

بعد استعادة الاستقرار والأمن، يمنح الرئيس بورقيبة للقادة الجدد لجبهة التحرير الوطني، مع مراعاة الاحترام الصارم للسيادة التونسية، بعضَ الامتيازات والتسهيلات، من بينها حرّية تنقل الأشخاص، وحرية نقل الأسلحة والمُعدَّات، بشرط الحصول على تصريح من جبهة التحرير الوطني، أو جيش التحرير الوطني، وكذلك حرية الدعاية. لكنّ مع مرور الوقت، اتّضح أن هذه الحرية كانت بصفةٍ نسبية؛ إذ يتمّ وقف العبور الحرّ للأسلحة، ويُفرض على جيش التحرير الوطني وضعُ الأسلحة القادمة من الحدود الليبية في مخازن السلاح للجيش التونسي، حيث يتم حجز الأسلحة الثقيلة لفترات طويلة.

علاوة على ذلك، فقد أطلق ملك المغرب محمد الخامس دعوة لعقد مؤتمر يجمع بين الأحزاب المغاربية، ممثلة في حزب الاستقلال والحزب الاشتراكي للقوات الشعبية بالنسبة للمغرب، والحزب الدستوري الجديد بالنسبة لتونس، وجبهة التحرير الوطني بالنسبة للجزائر، بهدف تنسيق وجهات النظر والعلاقات بينها، وتطوير مستقبل التعاون والتضامن.

أعطت تونس موافقتها، بعد أن تعرَّضت بلدتها الحدودية ساقية سيدي يوسف لهجوم دموي من سلاح الجوّ الفرنسي في 8 فيفري 1958. من جانبها، كانت جبهة التحرير الوطني ترغب في ذلك على أمل الحصول على الدعم السياسي والمادي لصالحها، وبالخصوص الاستمرار في تسيير وإدارة شؤون ثورتها بكل حرية، ودون أي قيود.

 مؤتمر طنجة..المضايقات وتضرر المصالح الجزائرية

دفعت مجموعة من الأسباب الخارجية والداخلية القادة السياسيين للدول الثلاث إلى العمل معا لدراسة ومراجعة حالة العلاقات التي تسود بينهم، والمضيّ قدُما على طريق التكامل الحقيقي لمواجهة التحديات الكبرى، وتبني مواقف للتضامن السياسي والدبلوماسي، والدعم المادي للكفاح من أجل تحرير الجزائر. بمجرد أن تمت الموافقة على مبدأ عقد المؤتمر، راح كل طرف يدّعي أنه صاحب الفكرة؛ فالمغاربة يجعلون مرجعيتهم خطاب الملك محمد الخامس في مدينة وجدة، في شهر أكتوبر 1956، عشية اجتماع تونس الذي تم إحباطه بعد اختطاف قادة جبهة التحرير الوطني. أما التونسيون فيذكرون أن بلدهم كان سيستضيف نفس الاجتماع، ويضيف الرئيس بورقيبة أنه عقب عدوان الطيران الفرنسي على بلدة ساقية سيدي يوسف التونسية في فبراير 1958، سجلت بلاده تضامنها مع الثورة الجزائرية بدماء مواطنيها.

افتتح المؤتمرُ في طنجة يوم 27 أفريل 1958 في مناخ من التفاؤل. تضمّن جدول الأعمال آفاق النشاطات المستقبلية فيما يتعلق بالمساعدات التي ستُقدَّم لجبهة التحرير الوطني، وبناء الوحدة المغاربية وتصفية الوجود العسكري الفرنسي في المغرب وتونس، مما كان سببا في عدم التطرق إلى تبادل الاتهامات أو الشكاوي بينها. رغم أن الجزائر كانت الطرف الأكثر تضررا في مصالحها الإستراتيجية، ومع ذلك فقد احتفظت بورقة المضايقات التي تعرَّضت لها جاهزة لوضعها علانية على الطاولة عند الضرورة، مثَّل جبهةَ التحرير الوطني فرحات عباس، عبد الحفيظ بوصوف، أحمد فرنسيس، عبد الحميد مهري، ورشيد قايد، أما المغاربة فمثّلهم عن حزب الاستقلال علال الفاسي وعن حزب الاتحاد الاشتراكي والقوات الشعبية المهدي بركة، أما حزب الدستور الجديد التونسي فكان ممثّلا بالباهي لدغم وأحمد تليلي.

علال الفاسي والباهي لدغم و مسألة الحدود

بدأت أشغال المؤتمر يوم 27 أفريل 1958، وكان من المقرر الانتهاء منه يوم 30 من نفس الشهر. تم تناول النقاط المختلفة بهدوء، إذ طرح كل طرف أسئلته واقتراحاته، وإذ بجبهة التحرير الوطني تُفاجَئ بأن علال الفاسي والباهي لدغم، بمجرد الموافقة على مبدأ المساعدة المالية للجزائر، يطلبان بصوتٍ واحد إثارة مسألة الحدود، ليرد عليهما فرحات عباس بأن هذه النقطة ليست ضمن جدول الأعمال، وأن جبهة التحرير الوطني، الحزب الذي يكافح من أجل استعادة الاستقلال الذي لم يتم الحصول عليه بعد، لا يتمتع بالسلطات القانونية التي من شأنها السماح له بتقديم التزامات أخرى غير المبدأ. استغل علال الفاسي والباهي لدغم هذا الرد للإصرار على تسجيل هذه “الالتزامات من حيث المبدأ” في محضر قرارات المؤتمر، الأمر الذي رفضه فرحات عباس بشكل قاطع.

بعد فترة الركود، استُؤنفت أشغالُ المؤتمر، بالتأكيد بعد تلقيهم لتعليمات عليا، استمرت النقاشات في أجزاء أكثر هدوءا، واختتمت بالقرارات التالية:

– المساعدة المادية والمالية للجزائر.

– إخلاء القوات الفرنسية المتمركزة في تونس والمغرب.

– إدانة سياسة القمع في الجزائر.

– دعم تشكيل حكومة جزائرية في المنفى.

– إنشاء الهياكل الجماعية لمتابعة هذه القرارات: أمانة دائمة، ومجلس استشاري.

كان للجزائر كل الأسباب التي تجعلها سعيدة، لكن هذه القرارات، على الرغم من أهميتها، صادرة عن الأحزاب. لذلك لا يمكن أن يكون تنفيذها فعالا إلا إذا تم التصديق عليها من قبل الحكومتين التونسية والمغربية. وتحقيقا لهذه الغاية، تم تحديد موعد لمراجعتها في اجتماع قادم، يضمن المسؤولين التنفيذيين للبلدان الثلاثة في تونس العاصمة، خلال الفترة من 16 إلى 20 جوان 1958.

2- مؤتمر تونس

أطلِق عليه هذا الاسم، رغم أنه عُقد في الواقع بمدينة المهدية، بداية من يوم 16 جوان بمشاركة كبار المسؤولين الحكوميين.

وشارك فيه الباهي لدغم نائب رئيس مجلس الحكومة، صادق مقدم كاتب الدولة للشؤون الخارجية، الطيب مهيري كاتب الدولة للشؤون الداخلية من الجانب التونسي. أحمد بلفرج رئيس المجلس،عبد الرحيم بوعبيد نائب رئيس المجلس من الجانب المغربي. فرحات عباس، كريم بلقاسم، عبد الحفيظ بوصوف، عبد الحميد مهري، أعضاء من لجنة التنسيق والتنفيذ، أحمد فرنسيس، أحمد بومنجل أعضاء من الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني.

ترأس فرحات عباس أشغال المؤتمر (باعتباره الأكبر سنا)، وجرت في جوّ من التحفظ الواضح، يمكن تفسيره بتطورات الوضع في فرنسا، مع وصول الجنرال ديغول إلى السلطة في الأول من جوان الماضي. تمت مناقشة جميع البنود المدرجة على جدول الأعمال بنبرة حيوية للغاية، ولولا حكمة ومهارة رئيس الجلسة فرحات عباس، لكانت الأشغال قد توقّفت منذ اليوم الأول.

في المحصّلة، يجب أن نذكر أن المساعدة المالية لجبهة التحرير الوطني تمت إحالتها إلى الدراسة من طرف الأمانة الدائمة التي لم يتم إنشاؤُها بعد. كما رفض البَلدان إدانة سياسة الاندماج التي دعا إليها الجنرال ديغول في خطاباته الأولى، بحجة أنهما دولتان لهما سيادة مسؤولتان عن انتهاج سياسة تتضمن اختلافات وتباينات، وذلك لتجنّب الجنرال ديغول، ومنحه الوقت الكافي لتقدير الأمور بشكل سليم. على العكس من ذلك، فإنهما يطلبان من جبهة التحرير الوطني أن تعيد مراجعة موقفها بشأن الشرط المسبق للاستقلال، مع التأكيد على استعدادهما للقيام بمساعيهما الحميدة بين الأطراف المتنازعة للبحث عن حل مقبول من الجميع.

فيما يتعلق بإجلاء القوات الأجنبية من أراضيهما، فهما يصرحان بأن الترتيبات قد تم الاتفاق عليها بالفعل مع الجانب الفرنسي، ويرفضان إعطاء أي تفاصيل حول محتواها وحول الجدول الزمني المتفق عليه.

كما رفضا الموافقة -بناء على طلب المندوبين الجزائريين- على تسجيل موقفهما التصالحي تجاه الجنرال ديغول في محضر الاجتماع.

كريم بلقاسم يضع النقاط على الحروف

فيما يتعلق بنقطة تنسيق الجهود الدبلوماسية في الأمم المتحدة، كانت عبارة عن عموميات منها عن إستراتيجية ملموسة. أما النقطة الأخيرة المتعلقة بتشكيل حكومة في المنفى، والتي تم استعراضها في اليوم الأخير، فقد شهدت نقاشا حادا، وطلب الباهي لدغم وبلفرج من خلال استقرائهما لصيغة “التشاور المسبق” المسجلة في قرارات مؤتمر طنجة، من جبهة التحرير الوطني، أن تتحصل على موافقتهم حول جدوى التاريخ، واختيار المقر، وتشكيل الطاقم الوزاري. وقد ردّ كريم بلقاسم، نيابة عن جبهة التحرير الوطني بقوة: “من الواضح أننا قبل أن نعلن عن الحكومة، سوف نأتي إليكم ونتناقش، فإذا اقتنعنا، فهذا أفضل، وإذا لم نقتنع بحججكم، فسوف نتغاضى عنها، حينها لن يكون لديكم سوى حق واحد، وهو عدم الاعتراف بنا”.

على الرغم من أن المؤتمر أعاد التأكيد رسميا على حق الجزائر غير القابل للتصرف في استعادة استقلالها، وأن حكومتي البلدين الشقيقين تتعهدان بالعمل باستمرار في هذا الاتجاه، فمن الواضح أن موقفهما قد تغير جذريا مقارنة بما جرى في مؤتمر طنجة، تبدد الغموض حول الاتحاد المغاربي، ولن يتم إنشاء الأجهزة المخططة لجعله واقعا ملموسا، وهي الأمانة الدائمة والمجلس الاستشاري.

المناورة الاستعمارية.. وكسر الجبهة المغاربية

هذا الحدث المهم لم يكن له الصدى المطلوب في الصحافة التونسية، التي تحدثت عن اجتماع أمانة الأحزاب المغاربية، وليس عن المسؤولين التنفيذيين للبلدان الثلاثة.

هل كان هذا التراجعُ متفقا عليه؟ هل هو اختيار للتراجع عما تم الاتفاق عليه في طنجة؟ أم كان منحا للأولوية وتفضيلا للمصالح المستقبلية، على حساب كفاح الشعب الجزائري؟ هذه الفرضيات والمعطيات لا يمكن استبعادها؛ فقد قام الجنرال ديغول، منذ استيلائه على السلطة في أول جوان 1958، بتمديد المساعدة المخصصة لهاتين الدولتين، المنصوص عليها في اتفاقيات الاستقلال، والتي علّقها قادة الجهورية الرابعة بسبب دعمهما لجبهة التحرير الوطني. كما فتح لهما آفاقا لعلاقات اقتصادية وتجارية جديدة مع فرنسا.

ستكون تونس أول من يستغل ذلك، إذ وقعت في 30 جوان 1958 اتفاقية مع الشركة الفرنسية طرابسا (TRAPSA) لبناء خط أنابيب موجه لنقل النفط الجزائر من حقل إيجيلي (Edjelé) الحدودي عبر أراضيها على ميناء الصخيرات.

تقوم جبهة التحرير الوطني بالتنديد بهذه الاتفاقية من خلال لجنة التنسيق والتنفيذ التي ترسل مذكرة إلى الحكومة التونسية تعتبر فيها هذا الاتفاق بمثابة مناورة استعمارية تهدف إلى كسر الجبهة المغاربية المكرسة في مؤتمر طنجة، وعملا عدوانيا للحكومة التونسية تجاه الشعب الجزائري الذي هو في حالة حرب، وهو تجاهل لمصالحه الأخلاقية والسياسية والاقتصادية.

اندلعت أزمة خطيرة بين جبهة التحرير الوطني والحكومة التونسية التي حجزت الجريدة الإخبارية “المجاهد” اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني، كما زادت من الضغوط على جيش التحرير الوطني في الحدود، وقامت باعتقال العديد من المسؤولين، وانتهاك حرمة المباني الرسمية، وحظر تنقل القوافل اللوجستيكية.

وجَّه هذا التحول ضربة قاضية لقرارات مؤتمر طنجة، التي شكلت أكثر خطوة ملموسة لبناء الاتحاد المغاربي الذي كان حلم الوطنيين القدامى في البلدان الثلاثة.

اعتراف الجنرال ديغول والمنحى الجديد للعلاقات

إن تشكيل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في 19 سبتمبر 1958، وتنصيبها في القاهرة التي اعترفت بها مباشرة عشرون دولة، سمح لجبهة التحرير الوطني بتأكيد شرعيتها وإظهار تمثيلها. وأصبحت العلاقات متوازنة، واكتسبت القضية الجزائرية شعبية كبيرة بما فيها في أوساط السكان التونسيين والمغاربة. وازدادت سمعتها نموا في الخارج، وسجلت نقاطا في منظمة الأمم المتحدة. ولاستحالة توقيف عجلة الثورة، فقد وجد الجنرال ديغول نفسه مدفوعا إلى الاعتراف بحق الشعب الجزائري في تقرير المصير في 16 سبتمبر 1959.

ضاعف التونسيون، بعد أن شاهدوا استقرار الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في العاصمة تونس خلال نفس السنة، بدلا من القاهرة أو المغرب، من لطفهم تجاه هذا الضيف الذي كان حضوره حتى ذلك الحين ثقيلا عليهم.

صحيحٌ أنَّ العديد من الخلافات تمت تسويتها بالحوار أو باللجوء إلى أحكام الاتفاقيات الموقعة بين الوزراء الجزائريين والتونسيين من جهة والوزراء الجزائريين والمغاربة من جهة أخرى. لكن في حالة تونس، كان أكثر ما يُؤسف له هو رفض السلطات التونسية قبول إقامة العلاقات على قدم المساواة بين الدول، بعد تشكيل الحكومة المؤقتة التي اعترفت بها الحكومة التونسية رسميا، وذلك بحرمانها حقوقها القانونية والدبلوماسية المشروعة التي تسمح لها بممارسة سلطاتها على الجالية الجزائرية.

لقد تعودت تونس على الانتكاسات والتقلبات، وكانت جبهة التحرير الوطني في كل مرة هي التي تقدم التنازلات الأكثر أهمية. كان يتم فرض النظام على وحدات جيش التحرير الوطني بطريقة أكثر احتراما لسيادة هذا البلد، وكانت نشاطات جيش التحرير الوطني على الحدود تتم بطريقة لا تسبب أدنى مشكل لهذا البلد.

على صعيد آخر، فإن الاعتراف بمبدأ تقرير المصير ليس الطريق المضمون للاستقلال. حافظ الجنرال ديغول على سياسة التضليل لعزل جبهة التحرير الوطني عن حلفائها الطبيعيين. فيما يتعلق بالصحراء التي يرغب في الحفاظ عليها تحت سيادة بلاده، فقد اقترح فتح الأبواب أمام الدول المجاورة لإمكانية مساهمتها في الاستغلال المشترك للثروات الباطنية.

بورقيبة ومحاولة الاستيلاء على أراض جزائرية

كان الرئيس بورقيبة أول من سلك هذا الطريق، إذ ذهب إلى فرنسا والتقى بالجنرال ديغول في رامبويي (Rambouillet) في شهر فيفري سنة 1961 دون الحصول على ما كان يتمناه. بعد السلسلة الأولى من المفاوضات في إيفيان بداية من شهر ماي، شعر الرئيس بورقيبة بأن استقلال الجزائر قريب، فقام بالسير على نهج المغرب الذي أعاد ملكُه الجديد الحسن الثاني مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية فتح المناقشات بشأن مسألة الحدود، إذ طالب هو أيضا بإعادة فتح المناقشات مع حكومته، كما قال، لتسوية المشكلة قبل نهاية الحرب. ولم ينل ما طالب به، فقد دفع بمجموعات من المتطوعين التونسيين إلى داخل الأراضي الجزائرية، في 10 جويلية 1961، في محاولة للاستيلاء على جزء من الإقليم، المتمثل في العلامة 233 (233 Borne) التي كان يدّعي بأنها ملكه، وسرعان ما طردت القوات الفرنسية هذه المجموعات.

كانت مسألة الحدود مع الجزائر، طوال سبع سنوات من الحرب، نقطة محورية للمغرب وتونس؛ لقد ولّدت أزمات لم تقلِّل بأي حال من الأحوال من جهود جبهة التحرير الوطني للتغلب عليها، تماما كما أنها لم تؤثر على الالتزام الذي كان في كثير من الأحيان صادقا لهذين البلدين والشعبين والحكومتين جميعهم، في تقديم الدعم التكتيكي، على الرغم من النزاعات الشديدة المؤجَّلة، والمضايقات والإزعاج الذي تسبب فيه وجود جالية جزائرية قوية، يضاف إلى ذلك الاعتداءات والهجومات المختلفة من طرف المستعمِر السابق ثمنا لدعمهم وتأييدهم للثورة التحريرية.

 ليبيا.. الدعم اللامتناهي

أما في ليبيا، وهي الدولة الثالثة التي لها حدودٌ مشتركة مع الجزائر، فقد حمل ملكُها إدريس السنوسي وشعبُه كفاح الشعب الجزائري في قلوبهم، وانهالت المساعدات المالية مبكرا، بما يتناسب مع إمكاناتها المحدودة، لكن المساعدات المادية هي التي جلبت للثورة أكبر الفوائد. وضعت الحكومة الليبية مراكز الراح، ومزارع، والعديد من المخازن للأسلحة تحت تصرف الهياكل اللوجستيكية لجبهة التحرير الوطني. في هذا البلد الشاسع، كانت وسائل نقل أسلحة جيش التحرير الوطني تنتقل بين مصر وتونس بأكبر قدر من الحرية وبأقصى درجات الأمن.

في الختام، هذه خلاصة عرض موجز حول طبيعة علاقات جبهة التحرير الوطني مع الدول الشقيقة التي من المهم الإشارة على أن قادة جبهة التحرير الوطني وحكومتها ممتنُّون جدا لشعوب هذه الدول الشقيقة لدعمها الكبير والصادق والدائم، علاوة على ذلك، فقد تصرف قادة جبهة التحرير الوطني بذكاء وصبر كبيرين مع القادة المغاربة والتونسيين. كانوا يعلمون أنهم ضيوفٌ لدى هذه الدول، لذلك فقد بذلوا كل جهودهم لاحترام سيادة هذه الدول ومصالحها المشروعة. لقد امتنعوا دائما عن طلب أكثر مما يمكن لهذه الدول تقديمُه لهم، وذلك للمحافظة بشكل أفضل على حرية التسيير والتقرير والبلوغ لتحقيق الاستقلال بدون وصاية أحد، وبدون وسطاء، ودون التفاوض على أي شيء، أو التنازل عن المصالح المعنوية والسياسية والمادية للثورة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!