الرأي

هكذا وصل الإسلام إلى بلادنا (2/2)

سلطان بركاني
  • 5595
  • 35

بدأت الفتوحات الإسلاميّة في الشّمال الأفريقيّ، في السّنة 21هـ، بقيادة عمرو بن العاص، الذي خلفه عبد الله بن أبي السرح، ثمّ معاوية بن حديج السكوني، ثمّ عقبةَ بن نافع الفهري الذي عزل ليقود الفتوح بعده أبو المهاجر دينار، هذا القائد المحنّك الذي أجرى الله على يديه فتح كثير من الأراضي التابعة للجزائر حاليا، وأمكنه بلين جانبه وحنكته أن يستميل كثيرا من القبائل إلى الإسلام.

عندما تولى يزيد بن معاوية الأمر سنة 60هـ، أعفى أبا المهاجر دينار من ولاية أفريقيا، وأعاد إليها عقبة بن نافع، سنة 62هـ، فتهيأ عقبة للفتح الكبير في بلاد المغرب، وجمع أبناءه في القيروان وقال لهم: “إنّي قد بعت نفسي من الله عزّ وجل… ولست أدري هل ترونني بعد يومي هذا أم لا، لأنّ أملي الموت في سبيل الله”، وأوصاهم، ثم قال: “عليكم سلام الله.. اللهم تقبّل نفسي في رضاك”.. انطلق عقبة بجنده من القيروان، يجوب البلاد لا يقف في طريقه أحد، حتى نزل بباغية التي تسمى حاليا بغاي بولاية خنشلة، وفيها وجد مقاومة عنيفة من الروم، ولكن الله أظفره بهم، ثم سار إلى مدينة تلمسان حيث لقي جيشا عرمرما من الروم والبربر، وهناك دارت معركة شديدة في يوم عصيب على المسلمين، قبل أن ينزل النًصر على المؤمنين، ويضطر الروم والبربر للتراجع إلى منطقة الزيبان.

حدث خلاف بين عقبة بن نافع وأبي المهاجر دينار الذي أصبح جنديا من جنود عقبة، حول السياسة التي ينبغي اتّباعها في تثبيت أهل البلاد على الإسلام؛ وبينما كان أبو المهاجر يرى أنّ اللّين أنسب، كان عقبة يرى في الحزم حلا أمثلَ، لذلك لم يعجب عقبةَ ما كان كسيلة يحظى به من إكرام وتقديم، فأخّره وجعله جنديا عاديا، فأضمر كسيلة في نفسه شرا لعقبة الذي اتّجه نحو تيهرت (تيارت)، وهناك استعان الرّوم بالبربر فأعانوهم، ودارت معركة حامية الوطيس اشتد فيها الأمر على المسلمين حتى ظنوا أنّها النهاية، ولكنّهم ظفروا بالنّصر بفضل الله.. ثم انطلق عقبة إلى المغرب الأقصى حتى وصل إلى طنجة في الشمال الغربي، ثمّ اتّجه جنوبا عبر سلسلة الأطلس إلى بلاد السوس في المغرب.. ثمّ سار غربا إلى المحيط الأطلسي، حتى وصل إلى جنوب أغادير، وبذلك يكون قد بلغ سواحل المحيط الأطلسي وحرر معظم بلاد المغرب، وهناك دعا ربّه دعاءه الشّهير فقال: “يا ربّ، لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك. اللهمّ اشهد أني قد بلغت الجهد، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بك، حتى لا يعبد أحد من دونك”.. ثم قفل راجعاً وعاد أدراجه، إلى المغرب الأوسط، بعد أن أذن لجنوده بأن ينصرف كلّ إلى سبيله، ولم يبق معه إلا عدد قليل من الجنود لا يتجاوز 300 جنديّ.. علم الروم بالأمر، فتواصلوا مع كسيلة الذي فرّ من جيش عقبة، وما أن وصل عقبة إلى سهل تهودة، قريبا من بسكرة، حتى فوجئ بحصار الروم وكسيلة في جيش قوامه 50 ألف مقاتل، وهناك نال عقبة ما تمنّاه، واستشهد هو ورفيق دربه أبو المهاجر دينار.. اهتبلها كسيلة فرصة من ذهب فاحتلّ القيروان واضطرّ زهير بن قيس البلوي للانسحاب إلى برقة، لتبدأ مرحلة سيطرة كسيلة على بلاد المغرب لخمس سنوات كاملة.

في عهد عبد الملك بن مروان، أرسل الأخير جيشا كبيرا إلى زهير بن قيس البلوي في برقة، فسار زهير سنة 69هـ في جيش من أربعة آلاف جندي عربي وألفين من البربر المسلمين، متّجها إلى القيروان. نشبت معركة حامية الوطيس بين جيش زهير وقوات كسيلة في منطقة ممس قرب القيروان، انهزم فيها البربر وقتل كسيلة، ولم يلبث زهير بن قيس بعدها طويلا حتّى قرّر الرّحيل إلى المشرق، ولكنّه قتل شهيدا في طريقه قرب طرابلس.

بعده، كلف عبد الملك بن مروان حسان بن النعمان، بمواصلة الفتوح في بلاد المغرب؛ فقاد حسّان في سنة 74هـ جيش الفتح إلى القيروان، ثم توجه إلى قرطاجة في الشّمال فحررها من الروم، ثم نحو بنزرت فحررها من الروم والبربر المنقلبين.. واستعد لمواجهة حاسمة مع الكاهنة في ضواحي أمّ البواقي حاليا.. التقى جيش المسلمين بجيش الكاهنة، بوادي مسكيانة التي تتبع حاليا لولاية أم البواقي، وانهزم جيش المسلمين وانسحب مرّة أخرى إلى برقة، لتسيطر الكاهنة على بلاد المغرب.

في سنة 78هـ، أرسل عبد الملك بن مروان الإمدادات إلى حسان بن النعمان الذي لم يتردد في السير مرّة أخرى لقتال الكاهنة، فحاصرها في مقرّها بتيسدروس -شرق تونس حاليا- لتهرب باتّجاه بئر العاتر بولاية تبسة حاليا، وهناك كانت نهايتها سنة 82هـ، وانتصر المسلمون، واستتبّ الأمر، وعاد حسان بن النعمان إلى القيروان، ثم تحرك نحو قرطاجة وأنشأ مدينة تونس بالقرب منها.

في سنة 86هـ عين عبد العزيز بن مروان أخي عبد الملك بن مروان، موسى بنَ نصير واليا على أفريقيا، وفور وصوله إلى القيروان انطلق لاستعادة منطقة زغوان شمال القيروان من أيدي المتمردين، وأرسل حملة بقيادة ابنه إلى تونس لحرب الروم الناكثين، ثم توجه موسى بن نصير نحو قبائل كتامة في ضواحي جيجل الآن، ثمّ إلى قبائل صنهاجة بين مسيلة وميلة، ثمّ قبائل زناتة في غرب الجزائر وشرق المغرب، وسار جنوبا حتى وصل سلجماسة في المغرب، وأرسل ابنه شمالا إلى طنجة، التي عين عليها طارق بن زياد.

هكذا وصلت رسالة الإسلام إلى بلادنا؛ لم يستتبّ الأمر في هذه البلاد إلا بعد حوالي 65 سنة من الفتوحات المتعاقبة، فاضت فيها أرواح عدد من الصّحابة وأعداد غفيرة من خيرة التابعين ومن أجدادنا الأمازيغ المسلمين الذين عرفوا الحقّ فاتّبعوه ونصروه.. الإسلام لم يصل إلينا في رسائل يحملها الحمام الزاجل، ولا في كتب يبعث بها الخلفاء والأمراء، إنّما وصل إلينا بدماء وأشلاء وجهود مضنية بذلها رجال كان حقا علينا أن نعرف قدرهم وندرس سيرهم وندافع عنهم في وجه الأكاذيب التي ينشرها المرجفون الذين يحنّون إلى الجاهلية وإلى العبودية للروم وأحفادهم.

لم يكن الفاتحون ملائكة معصومين، ولكنّهم كانوا من خيرة أهل ذلك الزّمان، وليس حراما أن نقول إنّ خطأً حصل هنا، وآخر هناك، لكنّ الحرام هو أن يتبنّى بعض المفتونين بيننا منهجا ذبابيا في محاكمة الفاتحين، فيقعوا على مواطن الجرح ويتركوا مواطن السّلامة، ويتشبّثوا بالوقائع الصّغيرة ويتركوا الأحداث الجليلة، ويغضّوا أبصارهم عن النّتائج والثّمرات.. يكفي أنّ ثمرات الفتوحات الإسلامية في بلاد المغرب كانت محتلّا روميا غاصبا اندحر، وحقّا مبينا انتشر، ومعاهدَ ومدارس أسّست، وعلماءَ ودعاة وفاتحين من الأمازيغ تكوّنوا وأخذوا على عاتقهم نشر رسالة الحقّ في بلاد أخرى، وخدمة الإسلام ولغة القرآن.

مقالات ذات صلة