هل ماتت الأساليب البديلة لحل النزاعات؟
إلى حد الآن، مازلنا نُصر أن الأساليب الكلاسيكية وعلى رأسها العلم والنصيحة وإصلاح ذات البين، وغيرها لحل النزاع بين الفرقاء في الداخل لم تَعد مُجدية. وأنه لا بديل عن سياسة ليّ الذراع والضّغط والإصرار على الموقف لكي يَتراجع هذا أو يَرضخ ذاك للآخر. ويَصل الأمر بالبعض مِنّا إلى حد القول إن هذا الصنف من البشر المُتمسِّك بالحُكم إلى الأبد، لا تَنفع معه إلا القوة الخشنة لكي يعود إلى جادة الصواب…
هل فعلا ماتت الأساليب البديلة لحل النزاعات القائمة بيننا؟ أم نحن الذين لسنا في مستوى إحيائها؟
كثيرا ما سمعت هنا أو هناك عبارة تقول: لا بديل عن القوة لإفهام هذه السلطة بأنها على خطأ، ولا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تقبل بالحلول السِّلْمية لإيجاد حل للمشكلات العالقة أو للاستجابة لما تحمله الاحتجاجات الاجتماعية من مطالب، من التربية إلى السكن إلى المحروقات إلى الصحة، إلى كافة القطاعات التي لا شك تعرف مشكلات حادة وأحيانا مُزمنة، عجز المسؤولون عن إيجاد حلول لها. وكثيرا ما كان الحِجاج بالحلول السلمية فاشلا، من خلال ما يُقدَّم من أمثلة كثيرة عن عدم استجابة أصحاب القرار للمطالب المرفوعة إلا تحت الضغط، وأحيانا الضغط المباشر وفي عمق الأزمة.
نادرا ما كانت الاستجابة للمطالب قبل أن تتحوّل بهذا الشكل أو ذاك إلى احتجاج ضاغط. وأبدا ما كانت الاستجابة استباقية للحدث، أي قبل وقوعه بأشهر أو سنوات. هي ذي سمة أسلوبنا في التعامل مع التحوّل الحادث على كافة المستويات، من التحول على مستوى السلطة السياسية إلى التحول على الصعيد الاجتماعي والثقافي. وهذا نِتاج ضعف القدرة على الاستشراف من خلال معادلة الاستباق والاستحداث، ونِتاج طبيعة عَقلٍ مُشَكَّلٍ بطريقة الاستجابة فقط للضغط العنيف، وفي آخر اللحظات إن لم يكن في آخر الثواني، إن لم يكن بعد فوات الأوان.
لعلّنا اليوم نعيش هذه الحالة بطريقة أو بأخرى، نَنطلق من فكرة مسبقة، نكاد نصدّقها جميعا بأننا قوم لا نَستجيب إلا للضغط ولا تَنفع معنا إلا القوة. السلطة تعتقد ذلك، والمعارضة أيضا. السلطة تستعرض قوتها من خلال ما تَملك من أدوات قمع، والمعارضة من خلال ما تَملك من وسائل ضغط.
ولعلّنا اليوم نعيش هذه الحالة بطريقة أو بأخرى، نَنطلق من فكرة مسبقة، نكاد نصدّقها جميعا بأننا قوم لا نَستجيب إلا للضغط ولا تَنفع معنا إلا القوة. السلطة تعتقد ذلك، والمعارضة أيضا. السلطة تستعرض قوتها من خلال ما تَملك من أدوات قمع، والمعارضة من خلال ما تَملك من وسائل ضغط. وتكاد هذه الحالة تُصبح مُسلَّمة عندنا، هي التي تَحكُم سلوكنا وتُوجِّه فِعلنا وتَتَحكم في مصيرنا، في الوقت الذي مازال بإمكاننا فيه أن نسأل أنفسنا ما إذا كنا بحق قد استنفدنا كافة البدائل، وما إذا كُنَّا قد بادرنا إلى اختبار أساليب أخرى غير التي تَعرَّفنا عليها واعتدنا على ممارستها لدفع هذا الطرف أو ذاك للاستجابة لما نَطلب ونَعتقد أنه صواب.
غالبا ما نوصد هذا الباب، رغم المخاطر الكثيرة التي نَعرف جميعا أنها تأتينا من محاولة فتح الباب الآخر أو الإبقاء عليه مفتوحا على مصراعيه.
لقد بدا لي أنه من السهل أن ندعو إلى مؤتمر للخبراء حول الغاز الصخري، يَحضره مَن مع هذا المصدر الجديد للطاقة ومن ضده، لينقل حوارهم على المباشر إلى الجميع، ويستمع الناس إليه بأذن واعية، وبالتفصيل المفيد… وبدا لي أنه يمكن لكافة الجزائريين القادرين على الحديث في الموضوع وحتى على الاستماع حضوره وإبداء الرأي فيه… وبدل أن يكون الموقف من الغاز الصخري سياسيا أو بخلفية سياسية أو مُنطلقا من حسابات ضيّقة لهذا أو ذاك، يكون مَبنيا على تحليل علماء جيولوجيا وطاقة وسياسة واقتصاد وبيئة واجتماع وقانون ممن يَعرفون بعمق الجوانب التقنية والرهانات الإستراتيجية وما يُحاك خلف الستار بشأن هذا الموضوع… وإذا كانوا بحق علماء ـ ويوجد من هم كذلك فعلاـ فإنهم لن يُجاملوا السلطة ولا المعارضة ولن يتعاملوا إلا بما تُمليه الحجة العلمية والضمير الأخلاقي. وعندها سيُصَحِّح الناس مواقفهم، وسيوضَع كل أمام مسؤوليته…
لماذا لا نفعل ذلك؟ ما الذي يَجعلنا نمتنع عن مثل هذه الأساليب في التعامل مع قضايانا المختلفة؟
لعل المشكلة تكمن في النخبة العلمية بالأساس التي، إلى حد الآن، مازالت مُغيَّبَة عن الساحة أو تَشتغل في فلك السياسي تُبرّر سلوكه ورغباته بدل أن تَنصحه وتُوجِّهه إلى الطريق الصحيح.
بدون شك لو انعقد مؤتمر مثل هذا لوجدنا من يُدافع عن الغاز الصخري مثلا، أو عن هذا القرار أو ذاك بخلفية الدفاع عن السلطة أو بعض الأشخاص في السلطة، أو بخلفية تعزيز موقف المعارضة أو بعض الأشخاص في المعارضة، ولكن هناك من المختصين المخلصين الكثير من هم ليسوا مع هؤلاء أو هؤلاء، إنما يقولون رأيهم بكل موضوعية ووفق ما يقتضيه المنهجُ العلمي وقواعد التحليل الموضوعي.
لماذا نُلغي هذه الفرضية بالذات؟
وما ينطبق على الغاز الصخري ينطبق على الدستور وعلى المنظومة التربوية وعلى الشغل والسكن والصحة وغيرها. هناك تغييبٌ شبه كلي لدور العالم والخبير، أو وضع في خدمة السياسي كأجير يُبرر، بدل أن يفسر ويوجه ويَنصح ويُوفق بين هذا وذاك لتنتصر بلاده في الأخير…