هل يشهد الغرب صحوة إسلامية؟ !
استوقفتني كلمة للسيد “ولفرد هوفمان” سفير ألمانيا السابق في الجزائر، والذي اختار بعد إسلامه اسم “مراد هوفمان” جاء فيها “إن الغربيين بحثوا المادة فوجدوا الروح وبحثوا الروح فوجدوا الصدفة ولما بحثوا الصدفة وجدوا الله !..”.
قال هذه الكلمة خلال حديثه عن رحلة الإيمان، رحلة الذات التائهة التي خرجت بإذن ربها من الظلمات إلى النور وعن تجربة الإنسان الغربي الذي يسلم وجهه لرب العالمين!
ولاشك أن الاستماع الشارد لهذه الكلمة التي استوقفتني طويلا قد يعطي صاحبه انطباعا عاجلا هو أنها أقرب إلى الصور الشعرية منها إلى شيء آخر، بينما هي عصارة فكر وخلاصة تجربة ووصف علمي دقيق وأمين للمراحل الكبرى التي قطعها العلم في الغرب ليصل إلى المرحلة التي حطم فيها هو بنفسه أسطورة العلم!
إن العلم اليوم أصبح يقتفي آثار الدين ويستنير بحقائقه بعد أن تأكد له عجزه عن اجتياز “الوصف إلى التفسير” في تعامله مع الإنسان والكون، وبعد أن اعترف بأن ما يستطيع أن يعلمه عن الكليات إنما هو نسبي لا يخضع لأي ضابط أو مقياس!
لقد صحا العلم من غروره وتضاءل، وظهرت مؤلفات علمية تؤكد هذه الصحوة وتشير على هذا المنعطف الجديد في تاريخ العلم الحديث مثل “موسوعة الجهل” الإنجليزية و”حدود العلم” لسوليفان، كما نجد هذه الحقيقة مبثوثة في الاعترافات الصريحة التي تحتويها مذكرات العلماء الذين “كفروا” في أخريات أيامهم بقدرة العلم المطلقة على تفسير كل شيء، بعد أن تفطنوا إلى أن العلم لا يزيد على توسيع دائرة السؤال وتعميمه، أما الإجابات التي يقدمها في كشف أسرار المادة فإنها لا تتجاوز وصف القوانين المتحكمة فيها إلى حقائقها الكلية، وقد آمن هؤلاء العلماء بأن الدين “حقيقة علمية” بالمفهوم الواسع لكلمة العلم!
قال صاحب نظرية النسبية أنشطاين: “إن الشعور الديني الذي يستشعره الباحث في الكون هو أقوى وأنبل حافز على البحث العلمي!“.
وقال وليام جيمس “إن الذي يدعم شجاعة الباحثين ويقويها هو ما في مُثلهم وأخلاقهم من قوة الإلزام والإيجاب، وذلك وصف حق للروح العلمية، فهل تختلف في الجوهر عن الروح الدينية؟!“.
إن إدراك كون الدين “حقيقة علمية” هو آخر مرحلة من مراحل تطور العلم وارتقائه، وهناك إشارات كثيرة إلى أنه قد آن أوانها! يقول المفكر وحيد الدين خان في هذا المعنى وهو يتساءل عن مدى مردود جهود الدعاة المسلمين الذين ينشطون في الأوساط الغربية “إن الداعية المسلم الذي يخاطب الغربيين فينفق طاقته الفكرية في حشد الأدلة على أن القرآن الكريم لم يكن من الممكن أن يأتي به سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من عنده وإنما هو وحي من الله إليه، فيبدأ بالتأكيد على أنه كان أميا، ثم يستعرض مختلف مناحي الإعجاز في القرآن وما إلى ذلك، هذا الداعية لا يملك “تفكيرا عصريا” لأنه يفترض في الإنسان الغربي المخاطب أنه يؤمن بفكرة النبوة أصلا، ولكنه ينكرها على سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، بينما هو إنسان لا يؤمن بالدين ولا بالوحي ولا بالأنبياء والرسل، أي كل ماهو غيب، لأن ما لا يخضع للتجربة العلمية عنده هو خرافات وأباطيل، “والتفكير العصري” يقتضي أن يبرهن هذا الداعية أن الوحي ظاهرة ممكنة وأن الدين حقيقة علمية!“.
إن مأساة إنسان الحضارة المادية المعاصرة أنه لم يدرك بعد أن ثنائية القانون الطبيعي والقانون المادي ليست سوى افتراض من خياله القاصر، والسبب هو أنه تجاوز اختصاص العقل الذي هو الكون والطبيعة والتحكم في قوانينها إلى الدين والأخلاق، فتاه وضاعـ لأن العلم مجرد حصيلة تفاعل العقل مع الكون والطبيعة، فهو جزء ناقص لا يستطيع أن يكون وحده منهجا كاملا شاملا للإنسان، عقلا وروحا وجسما وحسا ووجدانا، وإنما الذي يستطيع أن يفعل ذلك هو الدين… هو الوحي، فهو الكل الذي يخطط للجزء، ومن ثم فإن فصل العلم عن الدين هو وهم وخدعة يفندها العلم نفسه، بمفهومه الشامل الصحيح! قال تعالى مخاطبا رسوله الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: “ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير”.
إن هناك شهادات لعلماء ومفكرين غربيين ممن دقوا ناقوس الخطر وأعلنوا منذ العقود الأولى من القرن العشرين عن إفلاس الحضارة المادية المعاصرة منبهين إلى أن الخطأ الذي وقعت فيه هو اغترارها بالعقل والعلم وتنكرها للدين، ومن هؤلاء مثلا كولن ولسون الذي صرح بأن “حضارة تعتمد على العلم وحده دون الدين لا يمكن أن تعمر طويلا!“.
ووضع كتابا سماه “اللا منتمي” يصور فيه الظاهرة التي جاءت كرد فعل لما أفرزته الحضارة المادية من غربة وتوتر واضطراب، كما أكد في كتابه “سقوط الحضارة” أن الإلحاد تصوّر قاصر للإنسان ولرسالته على الأرض!“.
هذه القناعة نجدها كذلك عند برنار شو الذي يقول في مقدمته لمسرحية “العودة إلى ميتو شالح” (كنت أعرف دائما أن الحضارة تحتاج إلى الدين وأن حياتها أو موتها متوقفان على ذلك!).
هذه النتيجة التي توصل إليها كولن وسلون وبرنار شو نجدها بارزة بقوة في أعمال أدباء كبار من أمثال همنغواي في روايته “الشيخ والبحر” وأمثال أرثر كوستلر في روايته “ظلام في النهار” وكذلك في رواية “الساعة الخامسة والعشرون” للأديب الروماني الكبير كونسطان طان جيورجيو، ورواية “الدكتور زيفاكو” للكاتب الشهير بورس باسترناك !
عندما يقف الإنسان على مثل هذه الشهادات يتساءل: “ألا يكون صائبا ذلك الرأي الذي يرى أن الغرب مقبل على “صحوة إسلامية” لأن حضارته المادية قد استنفدت طاقتها واستكملت دورتها وبدأ صوت الفطرة فيما “يهمس” بأن لا خلاص إلا في الدين؟!
ولعل خير من صوّر هذا الصوت هو الكاتب المجري المسلم ليوبولد فايس الذي اختار بعد إسلامه اسم “محمد أسد” وذلك في روايته “الطريق إلى مكة” وهي عبارة عن رحلة نفسية مضنية من عالم الشك والظلام إلى عالم المعقول والاستقرار والأمن!..