الرأي

وأنِيمْيا‮ ‬وطنية‮ ‬

في مثل هذا اليوم من السنة الماضية نشرت في هذا المكان كلمة تعمدت أن أختار لها عنوانا لافتا للنظر هو: “أنيمْيا إيمانية” وقد أوردت في تلك الكلمة تعريف الأنيميا، التي هي “حالة مرضية تنتج عن نقص في عند الكريات الدموية الحمراء، أو في محتواها في اليحمور ـ الهيموجلوبين‮ ‬ـ‮ ‬أو‮ ‬في‮ ‬كليهما،‮ ‬أي‮ ‬نقص‮ ‬كمي‮ ‬ونوعي‮.‬

فالإنيميا التي تسمى فقر الدم تصيب الأجسام فتُوَهِّنها، وقد ترديها إن لم يبادر إلى علاجها، ولاشك في أن للجوانب الروحية “فقر دمٍ” من نوع آخر سميناه “أنيميا إيمانية” باقتراح من الآخ الدكتور بشار صناديقي، لقد أكدت في تلك الكلمة على أن مكسوب الإيمان عند أكثرنا قد‮ ‬تدنى‮ ‬إلى‮ ‬مادون‮ ‬الصفر،‮ ‬والإيمان‮ ‬‭-‬‮ ‬كما‮ ‬هو‮ ‬معلوم‮ ‬‭-‬‮ ‬يزيد‮ ‬وينقص‮.‬

فإذا كانت أدنى شعبة من شعب الإيمان هي ـ كما صح عن رسول الله – عليه الصلاة والسلام – إماطة الأذى عن الطريق، فإن واقعنا يؤكد أننا بعيدون جدا عن هذه الشعبة الإيمانية الأدنى، وأما ما فوقها من الشُعَب فأخشى أن تكون المسافة بيننا وبين كل شعبة كالمسافة بين الثرى والثريا‭.‬

وقد استشهدت على فقرنا المدقع حتى في أدنى شعبة من شعب الإيمان – وهي إماطة الأذى – بذلك التقرير الذي نشرته إحدى المنظمات العالمية عن أقذر وأسوإ مائة وأربعين مدينة في العالم، وكانت مدينة الجزائر، ودكّا، وهراري، تتذيل قائمة تلك المدن (1).

فإذا‮ ‬كانت‮ ‬مدينة‮ ‬الجزائر،‮ ‬التي‮ ‬كانت‮ ‬توصف‮ ‬بالبيضاء،‮ ‬وهي‮ ‬أم‮ ‬مدننا‮ ‬توجد‮ ‬في‮ ‬الدرك‮ ‬الأسفل‮ ‬فكيف‮ ‬هي‮ ‬حال‮ ‬مدننا‮ ‬وبلداتنا‮ ‬الأخرى‮ ‬الأقل‮ ‬رعاية‮ ‬وعناية،‮ ‬والأضعف‮ ‬ميزانية،‮ ‬ولايسكنها‮ ‬أكابرُنا‮.‬

وأما الشعبة الأفضل والأعلى، وهي “قول لا إله إلا اللّه” فلايملك أكثرنا منها إلا الترديد دون التجسيد، وأخشى ما أخشاه أن يكون هذا الأكثر – بما اكتسب من الأقوال والأفعال ممن ينطبق عليه قول ربنا – تعالى جدُّه – : “وما يٌؤمنُ أكثرٌهم بالله إلا وهٌم مشركون” أعاذنا‮ ‬الله‮ ‬من‮ ‬الشرك‮. ‬

وقد ابتلينا في السنوات العشر الأخيرة، إضافة الى الأنيميا الإيمانية، بما يمكن تسميته “أنيميا وطنية” حيث صار كثير منا لايحسون بأدنى حب لهذا الوطن، ولا يشعرون بأقل غيرة عليه، ولا يتمجدون بالانتساب إليه، بل هم فيه من الزاهدين، ولو استطاعوا لشروه بثمن بخس دراهم معدودة، وقد أوردت جريدة الخبر أن كائنًا ينتسب إلى البشر وما هو منهم توسط لدى أعوان الجمارك لتسهيل المرور لفرنسي يقود سيارة محملة بـ165 بندقية صيد وكمية من الذخيرة، وألف خرطوشة، وكان ثمن هذا التوسط الرخيص- وإن غلا – هو “علبة شكولاطة و30 أورو” (2)،  فكان هذا‮ ‬الكائن‮ ‬العن‮ ‬ممن‮ ‬قيل‮ ‬فيه‮ ‬في‮ ‬أمثالنا‮ ‬الشعبية‮ “‬على‮ ‬كرشو‮ ‬يخلي‮ ‬عرشو‮”‬،‮ ‬لأنه‮ ‬لم‮ ‬يُخلِ‮ ‬عرشا‮ ‬فقط،‮ ‬ولكنه‮ ‬أخلى‮ ‬وطنا،‮ ‬وخان‮ ‬شعبا‮.‬

قد يقول أناس إن من فعل هذا هو من أراذلنا ومن بادي الرأي منا، ولايجوز التهويل، ولايصح أن يقاس عليه.. ولهؤلاء القائلين أقول: وماهو قولكم في جرائم خليفة، وسوناطراك، والطريق السيار، وسرقات البنوك، و.. و.. و.. التي لم يتورط فيها إلا الذين إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإذا تولوا سعوا في الجزائر ليفسدوا فيها، ويهلكوا الحرث والنسل؟ وماهو قولكم في ذلك الشخص “الكبير” رالذي نشرت صورته بالألوان في الصفحة الأولى من إحدى الجرائد الأسبوعية، وكتب تحت الصورة بأنه سرق 3000 مليار؟ ولم نقرأ تكذيبا لهذا الخبر من المتهم ولم نسمع أنه رفع دعوى ضد الجريدة، كما لم نعلم أن أية جهة رسمية تابعت القضية ليتبين خيطها.. من خيطها أو خيوطها.. فهذه الجرائم النوعية الدالة على انعدام الوطنية هي من فعل من يحسبهم الأغرار من الأبرار وماهم إلا أشرار ابتَلَتْنا بهم الأقدار.

لقد ذكر عبد السلام بلعيد، رئيس الحكومة الأسبق، في إحدى حلقات مذكراته التي نشرت في جريدة “الشروق اليومي” أن مسؤولا كبيرا ذهب إلى فرنسا ليستنبئ القوم الذين لهم سمّاعُون فينا عن مقدار ما تختزنه خزينة دولتنا من نقد أجنبي، وسواء صح هذا القول أم لم يصح، فإنه يدل‮ ‬على‮ “‬أنيميا‮ ‬وطنية‮” ‬حادة‮ ‬عند‮ ‬أحدهما،‮ ‬عند‮ ‬القائل‮ ‬إن‮ ‬كان‮ ‬متقوِّلا‮ ‬على‮ ‬صاحبه،‮ ‬أو‮ ‬عند‮ ‬هذا‮ ‬المسؤول‮ ‬الكبير‮ ‬إن‮ ‬كان‮ ‬قد‮ ‬فعلها‮ ‬حقا‮.‬

لقد أثيرت منذ بضعة أسابيع قضية عدم وقوف بعض الإخوة الأئمة عند عزف النشيد الوطني، وربما وٌسوِسَ لهم أن عدم وقوفهم عند عزف النشيد هو من تمام الإيمان، وربما اعتبروا الوقوف للنشيد هو من “مظاهر الشرك”، بتعبير الشيخ مبارك الميلي، رحمه الله.

كما‮ ‬أن‮ ‬الذين‮ ‬شنوا‮ ‬عليهم‮ ‬حملة‮ ‬وألحقوهم‮ ‬بتسعة‮ ‬رهط‮ ‬ربما‮ ‬اعتبروا‮ ‬القيام‮ ‬للنشيد‮ ‬الوطني‮ “‬قمة‮ ‬الوطنية‮”. ‬

وكم من زَاعمٍ للإيمان مُزَكٍّ نفسه ليس له من الإيمان إلا مظاهر خارجية، وكم مدع للوطنية مراء بها وهو ممن يخربون الجزائر بأيديهم، يؤمن بالوطنية وجه النهار ويكفر بها آخره أو يؤمن ببعضها ويكفر ببعضها.

أية‮ ‬وطنية‮ ‬عند‮ ‬من‮ ‬يضارُّ‮ ‬الجنسية‮ ‬الجزائرية‮ ‬بجنسية‮ ‬أجنبية،‮ ‬خاصة‮ ‬جنسية‮ ‬عدونا‮ ‬الأول‮ ‬والآخر،‮ ‬والظاهر‮ ‬والباطن؟

أية‮ ‬وطنية‮ ‬عند‮ ‬من‮ ‬يسرق‮ ‬مال‮ ‬الجزائر‮ ‬ويهرّبه‮ ‬إلى‮ ‬الخارج‮ ‬لينفقه‮ ‬في‮ ‬مزابل‮ ‬الغرب‮ ‬من‮ ‬حانات‮ ‬ودور‮ ‬بغاء؟

أية‮ ‬وطنية‮ ‬عند‮ ‬من‮ ‬يرتشي‮ ‬ليسمح‮ ‬بمرور‮ ‬سلع‮ ‬محظورة‮ ‬أو‮ ‬مواد‮ ‬فاسدة‮ ‬فيهلك‮ ‬بسببها‮ ‬كثير‮ ‬من‮ ‬الجزائريين،‮ ‬أو‮ ‬ليعفيها‮ ‬من‮ ‬الضرائب‮ ‬فيصيب‮ ‬اقتصادنا‮ ‬في‮ ‬مقتل؟

أية‮ ‬وطنية‮ ‬عند‮ ‬من‮ ‬يؤثر‮ ‬شركات،‮ ‬أجنبية‮ ‬أو‮ ‬محلية‮ ‬ـ‮ ‬بصفقات‮ ‬من‮ ‬غير‮ ‬إجراءات‮ ‬قانونية،‮ ‬لأن‮ ‬له‮ ‬معها‮ ‬مصلحة‮ ‬خاصة؟

أية وطنية عند من يحطم مؤسسة وطنية ليستولي على مقرها الكبير بدينار رمزي، ليمكن لأحد أقاربه أو معارفه لاستيراد أشياء بأسعار مرتفعة كانت تنتجها تلك المؤسسة الوطنية؟ إن من يتابع ما تنشره الصحافة عن سرقات “أكابرنا” وأهليهم وعما يقبضونه من إكراميات يجزم أن الوطنية‮ ‬قد‮ ‬حزمت‮ ‬أمتعتها‮ ‬وتركت‮ ‬الجزائر‮.‬

كم من شخص زايد علينا بوطنية تايوانية عندما كان يقتعد كرسي المسؤولية، فلما زُحزح عنه في إطار الصراعات الشخصية، أعرض عن الجزائر وانتقل إلى الضفة الأخرى ليستمتع بخلاقه، منتظرا تغير الأحوال ليعود إلينا قائلا: “لبيت نداء الوطن؟”

أجرى معي أحد الصحفيين حديثا بمناسبة عيد الاستقلال وكان مما سألني عنه الوطنية، فقلت إن الوطنية الحقيقية لم يعدلها عند كثير من الجزائريين لون ولاطعم، فبعضنا لايجد قوت يومه وبعضنا تهدر كرامته بما يسمى “قفة رمضان”. وبعضنا محقور رغم شعار، “ارفع راسك يابَّا” وبعضنا متخوم لأن أبواب الجزائر فتحت له، وهو يأكل تراثها أكلا لمًّا وهذا البعض هو علة الجزائر وداؤها، وإن لم يوقف هذا السرطان الذي تجسد بشرا ليٌكَوِنَنَّ سبب مهلكنا، فقد ذبح أحد هذا البعض مائة وخمسين خروفا في عرس، مما أصاب أحد الأجانب كان حاضرا بإغماء (3)، والله‮ ‬‭-‬‮ ‬عز‮ ‬وجل‮ ‬‭-‬‮ ‬يقول‮: “‬وإذا‮ ‬أردنا‮ ‬أن‮ ‬نٌهلك‮ ‬قرية‮ ‬أمرنا‮ ‬مٌترَفِيهَا‮ ‬ففسقوا‮ ‬فيها‮ ‬فحق‮ ‬عليها‮ ‬القول‮ ‬فدمَّرنَاهَا‮ ‬تدميرا‮”.‬

قاطعني‮ ‬الصحفي‮ ‬قائلا‮: “‬ألم‮ ‬تر‮ ‬كيف‮ ‬انفجرت‮ ‬وطنية‮ ‬الجزائرين‮ ‬بمناسبة‮ ‬تأهل‮ ‬الفريق‮ ‬الوطني‮ ‬إلى‮ ‬مونديال‮ ‬جنوب‮ ‬إفريقيا؟

فقلت له: إنه ليُحزنٌنِي أن تكون وطنيتا مٌناسباتيّة، وأن تكون وطنية أقدام لا وطنية أحلام، ولذلك ففيها من تخريب المحلات وانتهاك الحرمات، وكثرة السرقات، وتناول المخدرات، وفعل المنكرات أكثر مما فيها من مشاعر الوطنية الحقيقية..

إن عبد القادر، والحداد، وفاطمة نسومر، وابن باديس، وبيوض، وابن بولعيد لم يكونوا يراءون لا بإيمانهم ولا بوطنيتهم، ولكنهم كانوا مؤمنين صدقا، وطنيين حقا لا ادعاء.. ولهذا كتب الله عز وجل لهم القبول، فأٌشرِبنا حبَّهم، ورفعنا لهم ذكرهم، اللهم أرِنا الحق حقا وأرزقنا‮ ‬اتباعه‮.‬

 

‮(‬1‮) ‬‭-‬‮ ‬جريدة‮ ‬الخبر‮ ‬في‮ ‬30‮ / ‬6‮ / ‬2009‮.‬

‮(‬2‮) ‬‭-‬‮ ‬جريدة‮ ‬الخبر‮ ‬في‮ ‬17‮/ ‬7‮ / ‬2010‮.‬

‮(‬3‮) ‬‭-‬‮ ‬جريدة‮ ‬الخبر‮ ‬في‮ ‬19‮ / ‬7‮/ ‬2010‮. ‬

مقالات ذات صلة