الرأي

وإذا “الحرّاقة” سُئلوا بأيّ ذنب قُتلوا؟!

كمْ هو غريبٌ وعجيب أنْ تتوالى الأنباء عن إنقاذ “حرّاقة” جزائريين من الغرق المحقّق بعرض البحار مع فواجع الموت الذي سبق أحلام آخرين في بلوغ الضفّة الأخرى، إذ لم تمرّ أيّام العزاء في فقدان شابيّن تُوفيّا غرقًا في سواحل كالياري بجزيرة سردينيا، حتّى طالعتنا الصحف بإسعاف “حرّاقة” عالقين بالشواطئ الغربيّة للوطن.
أنْ تتزامن مصائب الموت مع مغامرات “الحرقة” فهذا أمرٌ في غاية الخطورة، لأنّه ينمّ عن مدى حجم اليأس الذي يستبدّ بقلوب الشباب الجزائري، إلى درجة لم يعد فيها الموت رادعًا عن شقّ عُباب البحر المتلاطم الأمواج.
مشكلة الهجرة غير الشرعيّة أضحت أزمة مركّبة في بلادنا، لكنّها ربّما تكاد تكون مرتبطة أكثر بحالة متفاقمة من وأد الأمل وتنامي القنوط في أفئدة الحالمين بحياة عزيزة في كنف الوطن الأمّ، أكثر ممّا هي انعكاسٌ واقعي لانكماش فرص الشغل أو العيش الكريم.
صحيحٌ أن بعض المغامرين بركوب زوارق الهلاك هُم ضحايا الأحلام الخادعة في نيل جِنان الفردوس الأوروبي، حيث ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعتْ ولا خطر على خيال “رعيّة” وافدة من مثلث التخلّف، أو هكذا يتوهّمون، بفعل المؤثرات الإعلاميّة وروايات السراب التي يتداولها اليائسون على قارعة الفراغ، ما يدفع بهم إلى التفريط في وظائفهم وأعمالهم الحرّة، بل وبيْع ممتلكاتهم، وأحيانًا مصدر رزقهم، من أجل تحصيل ثمن “الحرقة” لدى سماسرة الموت!
لكنّ الحقيقة في تقديرنا، أنّ هذه الشريحة الموهومة تبقى نسبيّة، أمّا الآلاف من الهاربين وأضعافهم من المعوّلين على الفرار من “جحيم” البلاد، فقد “طابْ جنانْهم” من الاتكاء على جدران البطالة الفعليّة والمقنّعة، بعدما طرقوا كل الأبواب الموصدة التي لا يفتح أقفالها سوى ذوي الجاه والنفوذ، وبعضهم جرّب حظوظه المثبَّطة عشرات المرّات، ليكسب لقمة الخبز متنعّمًا بدفء والديه وأهله وعشيرته الأقْربين، وما هَمَّ بترْكهم إلّا حين ادلهمّت به الخطوب، فلم يجد حيلة تُسعفه في إعالتهم إلا بالهروب عنهم، ولو مُخاطرًا بنفسه العزيزة، لأجل حياتهم المصادَرة تحت وطأة الفقر والحرمان.
لا يمكن أن تنطلي على أحد خطاباتُ التبرير التي تجعل الوقوعَ في شباك الأحلام الكاذبة حجّةً داحضة لتغطية كل مساوئ الواقع القاتم الذي يطبق كلّ آفاق المستقبل في وجوه شباب متطلع إلى البذل والعطاء والنجاح، كما أنّ الإلقاء باللائمة على شبكات دوليّة تقف وراء تفشّي “الحرقة” ليس برهانًا مُقنعًا عن مجازفة فتية في ريعان الشباب بأرواحهم عبر رحلات المجهول.
إنّ الثابت في المعادلة هو أنّ قتل الأمل في النفوس هو الخطر الفتّاك بقوة المجتمعات البشريّة، ولا تنفع شعبًا وفرةُ الثروات والخيرات والموارد إنْ فقد العزيمة على مواجهة الحياة، بحيث كَلَّ متنُه وخارتْ قواه النفسيّة، حتّى أضحى مشلول الإرادة والقدرة، مع كلّ ما حباهُ به المُنعم من أفضال، ولا نظنّ أنّ كثيرًا من شبابنا الزاحفين هذه السنوات على قوارب الموت إلّا عيّنة ماثلة للقانطين من رحمة الوطن ورأفة المسؤولين وعدالة الإدارة وشفافيّة التوظيف.
والأسوأ من اليأس الآني المتولّد عن قسوة الظروف المعيشية، هو حين يفقد الشباب الأمل في تغيّر الحال نحو الأفضل، لا في المستقبل المنظور ولا المتوسط أو البعيد، ما يعجّل بنفاد صبرهم على تكبّد المعاناة ويكرههم على الرّحيل مهما لاحت نُذر الهلاك في أعينهم.

مقالات ذات صلة