الرأي

وا أسفا على يوسف

كان معلمنا في النصف الثاني من الخمسينيات هو سيدي مصطفى عبادة – رحمه الله – وكان في نهاية كل حصة يسأل: هل فهمتم الدرس؟ هل من سائل؟ نلتزم جميعا الصمت إلا زميلنا (يوسف. ر) يرفع إصبعه ليؤذن له بالسؤال، ولكن يوسف لا يطرح أي سؤال، بل يردّد في كل مرة جملة هي: “يا سيدي الفُوحَه”، أي الرائحة الكريهة، لأننا كنا ندرس في “قاراج”، له بابٌ واحد، وليس له نافذة، وكانت تنبعث منه روائح كريهة..

وكان زميلنا يستعجل بتلك الجملة معلمنا ليسمح لنا بالخروج إلى الشارع لنجدّد الهواء.. وكان ردّ معلمنا بِلاَزِمَةٍ أخرى هي: “وَا أَسَفَا على يوسف”. ولو كنا، نعقل، وأَمِنَ معلّمُنا بطشَ فرنسا الباغية لكان رَدُّه على يوسف هو: “اِلْعَنُوا فرنسا التي أجبرتكم على هذا النوع من “المدارس”، وحَرَمَتْكُم مما تَتَمَتَّع به حيواناتُها من اسطبلات “فخمة”، مقارنة بـ”مدارسكم”.

يُوسُفِي في هذه الكلمة ليس هو زميلي القديم؛ وإنما هو الشاعر العراقي سعدي يوسف (1934-2021) الذي أتاه اليقين منذ بضعة أيام في لندن، بعد ما لَبِثَ في هذه الحياة الدنيا ثمانين حَوْلاً وبضع سنين. ولا مِرْيَةَ في أنه سيُسْأل ذات يوم أمام “ملك يوم الدين”: “كم لبِثْتَ عددَ سنين؟”، وسيكون جوابُه وجوَابُ أمثاله كما جاء في القرآن الكريم: “لبِثْتُ يومًا أو بعض يوم”.

لا يهمني ما قيل عن شاعرية سعدي يوسف، وما قيل عن مدى إسهامه في المدرسة الشعرية التي انضوى تحت لوائها، وما هو موقعه فيها إن كان صدرا، أو وسطًا، أو ذيْلاً، لأن ذلك كلّه ليس بِنَافِعِهِ عندما تُنشر الصحائف، وتوضَعُ الموازينُ القسط.

الذي أهمني، وتَمَلَّكَنِي منه العجب العجاب هو كيف عاش إنسانٌ ثمانين حَوْلاً، ونال مبلغًا محترما من العلم والمعرفة، وقضى شطر حياته في بيئة “مسلمة”، ولو “إسلاما وراثيا” – بتعبير الإمام ابن باديس – ثم ينتهي إلى أنه “الماركسي الأخير” كما زعم؟

إن هذا التعبير نفسه يدلُّ على عدم رُشد قائله، وعلى عدم “نضجه” العقلي، ولو اشتعل رأسه شيبًا، وبلغ من الكِبَر عتيا.. وإلَّا فمَنْ أدراه، ومَن أنبأه بأنه سيكون “الأخير” زمانه في هذه النِّحلة، التي ضلّت، وأضلَّت جِبِلًّا كثيرا، ولم تستطع أن تحقق لمن آمنوا بها أهمّ ما دعت إليه وناضلت من أجله، وهو الأمن من الخوف والإطعام من جوع.. فما بالك بتحقيق الأمن النفسي، والاطمئنان المعنوي.

لقد وُصف جيل سعدي يوسف بأنه “الجيل الضائع”. (الخبر 14/6/2021 ص 23)، وما ضاع هذا الجيل، وكل جيل، إلا لأنه أضاع الإيمان. وقد قال الفيلسوف المؤمن محمد إقبال:
إذا الإيمان ضاع فلا أَمَان ولا دنيا لمن لم يُحيي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينا
فاللهم لا تَكِلْنَا إلى أنفسنا طَرْفَةَ عين ولا أقلّ من ذلك.

مقالات ذات صلة