-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

وحْلُ السّلطة واللّغة

وحْلُ السّلطة واللّغة

قرأتُ قديما مقولة ذات دلالة عميقة للغاية تقول (من أتقن لغة قوم تأثّر بفكرهم)، وتحمِلُ هذه المقولة جانبا مُهِمًّا من العمق والحقيقة.
ولمّا سمعتُ أحد مثقفينا ممّن يتباهى بإتقانه للّغة الفرنسية يحاول إقناع متابعيه بأنّه يريد “جزأرة” اللّغة الفرنسية، حاولتُ أن أفهم قصده من ذلك، فتابعتُ كتاباته باللّغة العربية فوجدته يُفرنِس فكريا اللّسانَ العربي وليس العكس. وقد صدق شيخ المؤرخين الدكتور أبو القاسم سعد الله رحمه الله حينما قال “لقد ألبسوا ديكارت عمامة” يوم أن حوّلوا اسم الثانوية من (ديكارت) إلى (بوعمامة) من دون إدخال أيّ تغيير على منهج التعليم فيها والذي لم يكن يمتُّ بصِلة إلى ثوابت التربية والتعليم الوطني وهويتهما.
وفرْنَسة العربية لا يُقصد منها اللّسان والتعابير فقط، ولكن محمولَ اللّغة الفكري والحضاري هو الهدف والقصد.
أنا من الذين يؤمنون بأنّ من تعلّم لغة قوم سلِم مكرهم، لكنّي رأيت كثيرا من أبناء قومي ممّن يتقنون اللّسان الفرنسي يستورد مكرهم ويتّخذه نموذجا -كما يقول- للتّحضر والتّمدين، وعليه كانت مرجعيّته جون بول سارتر وجون جاك روسو، ونظرته نظرتهم للكون والإنسان والحياة.

اليابان، والصين، وكوريا الجنوبية، وكل نمور آسيا، وبعض الدّول الإفريقية، ودول أمريكا اللّاتينية تُطلعُنا كل وقت وحين بأنّ المستقبل لا يُصنَع إلّا بسواعد جادّة وحكامة راشدة وثقافة أصيلة.

نحن الشعوب العربية خاصة والذين ابتُلينا باستعمار غربي مادي وفكري منذ القرن التاسع عشر، وقعنا ضحية مجزرة فكرية وحضارية مُعدِمة ومُفسِدة ولم نستطع، بعد استرداد سيادتنا على أقاليمنا، أن نعيد الحياة إلى فكرنا ومعتقداتنا، لندخل في إعصار نتجاذب فيه بين تياري الأصالة والمعاصرة.
نظر بعضُنا إلى أنّ تيار الأصالة تيارٌ رجعي يريد أن يعود بنا إلى حياة تكره الانفتاح والتطوُّر، وتُفضِّل الانغلاق ضمن منظور أقرب إلى الأبوية والاستبداد، بداية من الخليّة الأُسرية الأولى إلى قاعدة السمع والطاعة على مستوى المجتمع السياسي المُنظَّم،
وهو نظام اجتماعي قاتل للإبداع الفردي، والتّحرر الفكري، والتّطور الاجتماعي، مكرِّس للاستبداد مُؤصِّل له، بل أكثر من ذلك مرتبطٌ ارتباطا عقديا بمفهوم صحّة المُعتَقد وسلامة الإيمان عند معتنقيه.
كما نظر بعضنا إلى أنّ تيار المُعاصرة هو تأصيل لأن يكون المُعتقد والإيمان حقا فرديا لا علاقة له بالتّنظيم الاجتماعي والنّظام العامّ إذ أنّه يجب أن لا يكون له أثرٌ في التّنمية الاجتماعية بمعناها الواسع على المستوى السّياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
وتبعا لهذا الفهم السّطحي لمفهومي الأصالة والمعاصرة دخلت الأجيال المُتعاقبة منذ منتصف الخمسينيات في دوّامة تجاذب لا نهاية لها، وبقيت دولنا ومجتمعاتنا تُراوح مكانها إلى يوم النّاس هذا.
أعلمُ يقينا أنّ هذا الموضوع أعمق من أن يُتناوَل بهذه المُقاربة العامّة والفضفاضة، كما أنّه يجب أن لا يُتناوَل بعاطفة جيّاشة له أو عليه، كما أنّ التّحديات التي تواجهها الأمّة قد تُقنع بعضنا بأنّ الأولوية اليوم تَنْصبُّ على حماية الوجود والوحدة من الزوال والتفرقة. وفي كل ذلك جانبٌ من الواقعية والصّحة، غير أنّ الوجود غير المؤصَّل وغير القائم على الجذور والثّوابت وجودٌ مهدَّد بالزّوال والتفكُّك.
ومن أجل معالجة شافية وجذرية، يمكننا الاستئناس بتجارب وخبرات أمم كانت قبل أربعة أو خمسة عقود تعاني ممّا نعانيه اليوم، وانكبَّت على معالجة ذاتية أهَّلتها اليوم لأن تكون قوّة صاعدة وواعدة.
وفي الوقت الذي أصّلت لمعتقداتها وموروثها الثّقافي والعقائدي عمدت إلى كسب ناصية المعرفة ووظّفتها في خلق الثروة والإبداع الوطني وزاوجت بين المبدأين بإصلاح التعليم بلغاتها وانفتحت على الإبداع التكنولوجي بامتلاك ناصية اللّغات الأخرى فاغتنت وأغنت، ونافست وفرَضت وجودها وأصبحت مُهابة الجانب قوية الشّكيمة، آمنة مستقرّة، تأكل وتلبس وتعالج وتدافع ممّا تُنتِج وتُبدِع.
اليابان، والصين، وكوريا الجنوبية، وكل نمور آسيا، وبعض الدّول الإفريقية، ودول أمريكا اللّاتينية تُطلعُنا كل وقت وحين بأنّ المستقبل لا يُصنَع إلّا بسواعد جادّة وحكامة راشدة وثقافة أصيلة.
لا يمكن أن نتجاوز محنتنا إلّا إذا اقتنعنا يقينا أنّ السّلطة ليست إلّا وسيلة المجتمع في التّمكين لأصالته وخياراته، وليست مكسبا شخصيا أو فئويا. وما لم ندرك هذه الحقيقة، فإنّ خروجنا من دوامة تكرار الفشل ما زال بعيد المنال.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!