-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
الدكتور بلقاسم ليبارير في ذمة الله

.. وسكت صاحب الدرس اللّغوي عن الكلام

.. وسكت صاحب الدرس اللّغوي عن الكلام

في شهر اللغة العربية الزكية، شهر ديسمبر، وعلى حين غرة، طوت مشيئة الله عمر الدكتور بلقاسم ليبارير(20 جوان 1946 ـ 23 ديسمبر 2022م)، وأوصلت زحف سفينته إلى نقطة النهاية، وأوقفت رحلة مسيرته في الحياة بعد أن قضى ما يزيد عن نصف قرن من الزمن مرابطا في نجوع التربية مربيا متمكنا في التعليم الابتدائي وأستاذا جامعيا مرموقا.
ولقد عاش بعقل وعى واقتنع أن التربية هي أقصر طريق للنهضة، وهي الوسيلة المثلى التي تصنع مستقبل الأوطان، وأن المدارس هي حضون وحصون كل تنشئة اجتماعية لا تذهب فيها الجهود الاستثمارية البشرية سدى، وأن في أجواف أقسامها يجري اكتساب الخلق القويم وشحذ العقول وترقية النفوس وإعداد المواطن الخادم لنفسه والنافع لوطنه.
توصل الفقيد إلى إعلاء شأن نفسه بين الناس، والرفع من مكانته إلى مركز عال، فلا يذكر إلا بكلمات الاحترام، ولا يرشق إلا بنظرات الإعجاب. فقد كرمته خصاله الحميدة حين إعلانها وحين إضمارها، وشرفته أفعاله التي أتقن صياغتها وزنا وشكلا، ومظهرا ومحتوى. ولم يختلف عارفوه في تقويم مسيرته والحكم على عشرته وصحبته إيجابا في حياته وبعد أن فاجأهم رحيله.
ارتضى لنفسه أن يعيش عيش الكفاف في كل شيء، وأن يرتدي لباس التواضع الفطري بعيدا عن التظاهر والتصنع. وكان الهدوء والصبر والرزانة والدعة والسكون واطمئنان القلب من علاماته الشخصية التي تقمصها عن رغبة. وكان من الذين وضعوا متاع الحياة الدنيا في أكفهم التي إن قلبوها لم يبق منها شيء من المغريات الملهيات أمام ما هو أرفع وأنفع، وأغلى وأبقى، وأرحم وأدوم.
أما الصمت، فقد عقد معه ميثاقا لم يُر يخل به في أي موقف من المواقف. فلم يكن يتحدث إلا قليلا. وكان يذهب بكلماته الشحيحة رأسا إلى صلب الموضوع المطروق بلا لف أو دوران، ولا يعقب على أحد إلا عند الضرورة القصوى. وكان يتحدث بصوت خافت، وبكلمات متباعدة، وكأنها يزنها قبل أن ينطق بها؛ لأنه ينفر من التجريح والاستفزاز. ولما يصوّب خطأ غيره، ولو من طلبته، يأتيه برفق من طريق تجعله شريكا في التصويب حتى لا يحرجه في نفسه وأمام الآخرين.
ذاق الدكتور بلقاسم ليبارير من قدح المرارة المطبوخ بالحنظل الذي أعده المستخرب الفرنسي البغيض، وشرب من كأس مائه الراكد والعفن. وعايش أطوار وصنوف الحرمان المبالغ فيه الذي مورس في حق الشعب الجزائري المستضعف.

* لقد عاش بعقل وعى واقتنع أن التربية هي أقصر طريق للنهضة، وهي الوسيلة المثلى التي تصنع مستقبل الأوطان، وأن المدارس هي حضون وحصون كل تنشئة اجتماعية لا تذهب فيها الجهودُ الاستثمارية البشرية سدى، وأن في أجواف أقسامها يجري اكتساب الخلق القويم وشحذ العقول وترقية النفوس وإعداد المواطن الخادم لنفسه والنافع لوطنه.

وعاصر سياسة نشر الجهل التي اكتوى بنارها، وحرمته من مواصلة تعليمه بصورة نظامية كبقية أنداده الآخرين الذين ضعف ذويهم أمام بريق المدنية الفرنسية المزيفة، ورضوا بالتقرب منها تزلفا واضعين على رؤوسهم قلانس الذل والهوان، ورضوا بالانسلاخ والمسخ. وامتلأت كأسه نقمة وبغضا لفرنسا من بعد أن أقدمت شرذمة من عساكرها على ترويعه في والده وفي عدد من أقربائه بتهمة مؤازرة الثورة التحريرية والوقوف إلى جانب المجاهدين، وتوفير المؤن والأمن لهم كلما حلّوا أو مرّوا بديارهم. وخلفت هذه الممارسات الرهيبة في نفسه الأبية حالة جاهزة لترقب مجيء لحظة الانتقام يوم تحين الفرصة المناسبة ولو طال الزمن.
لم يجد الدكتور بلقاسم ليبارير من وسيلة أحد للثأر من سياسة فرنسا الاستعبادية والتجهيلية إلا في ميدان التربية والتعليم. ولهذا، آثر البقاء في أقسام المدارس ومدرجات الجامعات كالناسك المتعبد، ولم يغادرها سوى لشهور قليلة قبل رحيلة. وظل يوقد قناديل الإضاءة ومصابيح النور في عقول تلاميذه وطلابه من أجل تخريج أجيال متسلحة بسلاح العلم الذي تعجز بقية الأسلحة من هزمه وإخراجه من دائرة المنافسة الوجودية، ويهيئهم للمستقبل. وفي نفس الوقت، يشفي غليله في نشر العلم الذي حرم منه طويلا. وبفضل هذه التضحية الجهادية، عاش محبوبا من قبل زملائه وطلابه، ولم يعرف له كاره أو مبغض إلا إذا كان من حساده المتلونين.
كثيرا ما كانت كليات وأقسام العلوم الإنسانية في جامعاتنا، وللأسف، أوكارا لنشر العصبيات العرقية وزرع الاختلافات الدينية والمذهبية وبذر التصنيفات القبلية. وكانت التكتلات والحميات والانتماءات والمبايعات لا تقوم على معايير علمية نقية. وهذا واحد من الأسباب التي عملت على تأخرها وانخفاض المردود العلمي فيها. ولكن الفقيد الدكتور بلقاسم ليبارير لم يكن يبذل ولاءه لأي طرف. واستطاع أن يسير وسط هذا اللهب دون أن يحترق بنيرانه؛ لأنه نأى بنفسه عن وضاعة الكثيرين ممن كانوا يغذونها، وينفخون في رمادها. وصنع لشخصيته حالة من التوازن العقلي والاعتدال النفسي الذي منعه من السقوط في الهوى أو الانجذاب إلى النداءات التي لا تخدم مصالح طلبة العلم. وكان يرفض الوقوف في صف فريق ضد فريق آخر، وأمسى عصيا من أن يكون أداة يستقوي بها فصيل بعد ضمه إلى صفه.
هناك تشابه من حيث درجة الصعوبة ومنزلة الحُزونة التي يواجهها من ينقب في مصارين الدرس اللغوي اللساني ومن ينبش ويفتش في طبقات الصخور الرسوبية، وما تخفيه في طياتها من أسرار للكائنات القديمة. ولما كان الدرس اللغوي اللساني جموحا وعويصا وصعبا ورافضا للتطويع، فلا مفر من منازلته والدخول معه في عراك من قبل كل من يقترب منه، أو يحاول مناوشته. إلا أن الدكتور بلقاسم ليبارير بحلمه وصبره وتركيزه ومتانة أسلحته استطاع تذليله، وفك عقد طلاسمه وإخضاعه حتى أصبح طوع لسانه في النطق ومنقادا أمام قلمه في الكتابة. بل لم تنكفئ أو يعجز عن تبسيطه وتفكيكه أمام طلابه، وكسر جموده، وتحطيم جدر استغلاقه إلى أن أصبح في متناولهم جميعا من حيث السهولة والوضوح، وقريبا من أذهانهم للفهم والامتلاك والحفظ والاستيعاب. ومع مرور الوقت، أصبح من المبدعين القلائل في الدرس اللغوي اللساني إلقاء وعرضا ومناظرة وأحد منظريه الذين يخوضون في إشكالياته بمهارة. وأصبح محاضرا مطلوبا للحديث أمام الطلبة في أغلب جامعات الشرق الجزائري.
أكمل الفقيد الدكتور بلقاسم ليبارير حفظ مابين دفتي المصحف الشريف قبل أن يبلغ اثنتي عشرة سنة من عمره مستعينا باللوح والدواة التي تحمل الصمغ العربي. ولم يتعلم في المدرسة الابتدائية إلا لسنوات قليلة. وبعد استرجاع الاستقلال، التحق بالتعليم الابتدائي في قرية ‘منبع الغزلان” (بسكرة)، ثم تحول إلى قرية “سريانة” (باتنة). ولما أن تحصل على الجزء الأول من شهادة الباكالوريا في الفرع الأدبي، سمح له بدخول ثانوية يوغرطة بقسنطينة أين أحرز على الجزء الثاني من نفس الشهادة. ومع منتصف سبعينيات القرن السالف، أتم الطور الأول من دراسته الجامعية، وضم إلى فريق أساتذة معهد اللغة العربية وآدابها. ويعتبر من المؤسسين الطلائعيين لجامعة باتنة التي التحق بها في سنة 1977م، وأمضى فيها خمسا وأربعين سنة، ولم يتقاعد إلا قبل شهرين من وفاته.

* ارتضى لنفسه أن يعيش عيش الكفاف في كل شيء، وأن يرتدي لباس التواضع الفطري بعيدا عن التظاهر والتصنُّع. وكان الهدوء والصبر والرزانة والدِّعة والسكون واطمئنان القلب من علاماته الشخصية التي تقمَّصها عن رغبة. وكان من الذين وضعوا متاع الحياة الدنيا في أكفِّهم التي إن قلّبوها لم يبق منها شيءٌ من المغريات الملهيات أمام ما هو أرفع وأنفع، وأغلى وأبقى، وأرحم وأدوم.

كان الدكتور بلقاسم ليبارير مثالا في السخاء والكرم والعطاء، وكان يكتفي بالقليل حتى عندما يجلس إلى مائدة الطعام. وفي اليوم الذي قصد الجامعة لجلب كتبه من مكتبه أبقى عددا من العناوين في الرفوف. فاستأذن منه ابنه البكر الذي كان في رفقته على حملها ظنا منه أنه نسيها، فرد عليه: تركتها قصدا حتى تبقى من الصدقات الجارية؟؟.
مايزال صدى كلمات الثناء التي سمعتها من الصديق المرحوم الدكتور عبد العزيز شوحة عن مؤطره الدكتور بلقاسم ليبارير ترن في أذني يوم ناقش أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه، والتي كانت أطروحة متميزة في موضوعها وفي متنها. ومازلت أذكر مدح مرافقته له مرافقة لينة أخذت بيده رغم ظروفه الصحية القاسية التي كادت أن تقف في طريقه عائقا مانعا، والأسلوب الذي عامله به. وكيف كان له طبيبا معالجا قبل أن يكون مشرفا عليه في عمله الأكاديمي.
في كل السنوات التي عرفت فيها الدكتور بلقاسم ليبارير، كنت أحمل له في قلبي محبة وودا بالغين، وسببها الآخر الغارق في الخصوصية هو أن صلة خؤولة حقيقية تجمع بين والدتي وأهله، وتجعل منها لحمة قرابة لم تنقطع ولم تنفصم. وكنت كلما قابلته إلا وتذكرت هذه العلاقة العطرة، وخاطبته بلفظ: خالي. وكانت تباشير وجهه تعكس لي سعادته بما سمع مني.
تقع المقبرة التي ووري في تربتها جثمان الدكتور بلقاسم ليبارير في الجهة الشمالية الغربية من مدينة باتنة، وهي مقبرة خاصة بأهله؛ لأنها تقع في أراضيهم. وتحمل اسم: “مقبرة الموحدين”، وتشغل حيزا في منتصف سفح قليل الانحدار، وتتكئ على هضبة صخرية تؤطرها من جهتها الجنوبية. وكم أحسن حفّار القبور فعلا لما اختار لرمس الدكتور بلقاسم ليبارير مكانا يتوسط الصف الأول من قبور من سبقوه للاستراحة فيها. ومن يرى مرقده يخيل إليه، ومع الصمت الذي يسود المكان، وكأنه واقف في منتصف قسم أو مدرج يلقي دروسا يؤنس بها من جاوروه في وحشتهم.
قد يتوهم متوهم أن الخطباء المؤبنون للفقيد العزيز من زملائه وطلابه قد وقفوا متزاحمين حول قبره، وتباروا نثرا وشعرا في رثائه بزفرات حرّى ودموع منسكبة تسفحها عيونهم. وفي الواقع، لم يحدث شيء من ذلك القبيل، ولم يسمع المشيعون مع كثرة نفيرهم سوى كلمة مرتجلة قصيرة أنقذ بها أحد طلابه الأوفياء الموقف. ثم تلاه أحدهم في كلمة وعظية دارجة لا تتناسب مع المودع. وهي من الوعظيات الفارغة التي يطلقها أصحاب الطبول الصاخبة. ولو عرف صاحبها مقام الرجل لاستحى من نفسه، وفضل الصمت عن الكلام.
رحم الله فقيد الجامعة الجزائرية الدكتور بلقاسم ليبارير، وجزاه خيرا عن كل حرف علمه لطلابه، وضاعف له في الميزان من فضل كرمه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!