-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم

سلطان بركاني
  • 40080
  • 0
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم
ح م

تقول إحدى الفاضلات: كنت في المسجد الحرام فرأيت امرأة عجوزا تصلّي وتبكي وترفع يديها وتدعو بحرقة لم أرَ مثلها من قبل، فاقتربت منها وجلست بجوارها وسألتها: مالك أيتها الأم!، أراك تبكين بحرقة فما القصة؟ قالت العجوز ودموعها تنهمر: أبكي خوفا من عقاب الله وعذابه. قلت: لماذا؟ قالت: كان لي زوج أعيش معه في مودّة ورحمة، إلا أنّ الله لم يرزقني منه الولد، ما عكّر صفو حياتنا، فأشفقت على زوجي واقترحت عليه الزواج من امرأة أخرى، ولكنه رفض بشدّة، فألححت عليه أياما وشهورا حتى وافق، فتوجهت معه وذهبنا لخطبه إحدى النّساء، وتمّ الزواج، وما هي إلا أيام حتى بدأت نار الغيرة تضطرم في صدري، خاصّة أنّي أحسست أنّه يميل إليها أكثر منّي، وبدأ ميله يظهر أكثر عندما رُزق منها بطفل جميل. كظمتُ مشاعري في صدري إلى أن جاء ذلك اليوم الموعود، يوم أخبرني زوجي أنه سيذهب في سفر مع زوجته الجديدة، وأنه سوف يترك الولد معي، وافقت دون نقاش لأنه لا أحد غيري يعتني بالطفل

وفي يوم السفر الأول كان الولد أمامي يلعب في ليلة شتاء باردة، فأشعلت بعض الحطب كي أدفئ الغرفة. كان الولد يلعب، وكانت نار الغيرة تأكل قلبي، تقدّم الولد إلى المدفأة وأمسك بالجمر، فأسرعت إليه ولكنّي بدل أن انتزع يده من النار وضعتها فيها حتى احترقت، فهدأت نار قلبي ولكنها لم تنطفئ، ثمّ ما هي إلا ساعة حتى جاءني خبرٌ يا له من خبر!، زوجي وزوجته الثانية أصيبا في حادث وماتا معا. وجدت نفسي وحيدة ليس لي غير هذا الطفل مشوّه اليد. توالت السّنوات وعانيت ما عانيت، وكبر الطّفل، أحببته وأحبني وأصبح هو المسؤول عنّي، هو من يرعاني ويرعى طلباتي. كان يعاملني بلين ورفق ويراقب الله في معاملتي، كان يناديني يا أمي، وفي كل مرة يناديني أمي كان قلبي يعتصر من الحزن، وفي كلّ مرة أرى فيها يده المشوّهة ينخلع قلبي وأبكي ولا أعلم مِن دون هذا الطفل الذي صار شابا كيف ستكون حالي.

إنّها قصّة يختصر العبرةَ منها قولُ اللهجلّ وعلافي كتابه الكريموَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون؛ فكثيرا ما يستعجل الإنسان في هذه الحياة، وينسى أنّ لهذا الكون خالقا مدبّرا عليما حكيما، حنانا منانا جوادا كريما، يستعجل الإنسان ويرى في كلّ ضيق وبلاء ينزل به شرا محضا لا خير فيه، وتسوَدّ الدّنيا في وجهته، وربّما يقوده الشّيطان إلى التسخّط على قضاء الله وقدره.

ربّما يبتلي الله عبدا من عباده بالفقر، فيغفل عن حكمة الله في ذلك، ويظنّ أنّ الله حرمه ما فيه مصلحتُه وما فيه خير دنياه وأخراه،وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن، فيحزن ويغتمّ ويتنكّد عيشه ويظنّ السّوء بربّه الكريم، وهو لا يعلم أنّ الغنى سيفسد دينه ودنياه، ثمّ لا يزال يلحّ في طلب الدّنيا، فيفتح الله له بابا من أبواب الرّزق، ويغدق عليه، فينسى ما كان عليه من حال الفقر، وينسى شكر ربّه الكريم، بل ربّما يلهيه ماله عن الله وعن الصّلاة، ولربّما ينفق ماله في معصية الله، ولو بقي فقيرا صابرا لكان خيرا له من ذلك الغنى الذي أطغاه وألهاه. “وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُون“.

ربّما يبتلي الله عبدا من عباده فيحرمه الذرية والأولاد، فيتضجّر ويتبرّم، ويظنّ السّوء بربّه الكريم، وهو لا يعلم أنّ الله ربّما ما حرمه إلا لأنّه يعلم أنّ الذرية ستكون سببا لتعاسته في الدنيا وخسارته في الآخرة، لأنّه لن يحسن تربيتها وتأديبها.

ربّما يبتلي الله عبدا من عباده بالمرض، فيتحسّر ويتسخّط، وهو لا يعلم أنّ الله ابتلاه لأنّه علم أنّ الصحّة ستطغيه وتنسيه الموت وتلهيه، فإذا ألبسه الله ثوب العافية نسي ما كان فيه من بلاء، وسلّط نعمة الصحّة على معصية الله وعلى ظلم عباد الله. “وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّار“.

ربّما يبتلي الله عبدا من عباده ويفوّت عليه منصبا من المناصب، فيحزن ويغفل عن حكمة الله في خلقه، وينسى أنّ الله ربّما صرف عنه ذلك المنصب لأنّه سيكون سببا لفساد دينه أو دنياه. ثمّ ما يلبث العبد أن يفتح الله عليه منصبا آخر وييسّر له أسباب الوصول إليه، فيدرك حينها حكمة الله في تدبيره. “وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون“.

ربّما يدعو عبد من عباد الله ربّه بالنّجاح في امتحان من الامتحانات، ويلحّ عليه في الدّعاء، فيبتليه الله بالفشل في ذلك الامتحان، فيحزن ويتلمّظ وربّما يظنّ السّوء بربّه الكريم، وهو لا يعلم أنّ الحكيم الخبير صرف عنه النّجاح لحكمة يعلمها أو لخير يخبّئه له.

ربّما يبتلي الله عبدا من عباده فيؤخّر عنه خيرا أو يفوّت عنه فرصة من الفرص، فيحزن ويأسى وهو لا يعلم أنّ الله ربّما ادّخر له بتفويت تلك الفرصة خيرا عظيما أو دفع عنه بتفويتها بلاءً عظيما.

لأجل هذا ينبغي للعبد المؤمن أن يكون راضيا باختيار الله، مسلّما لقضائه، فرُبّ منحة في محنة، ومحنة في منحة، وربّ مرغوب في مكروه، ومكروه في مرغوب.

لا يدري العبد المؤمن أين يكون الخير وأين يكون صلاح أمره؟. في الشدّة أم في الرّخاء؟ في العافية أم في البلاء؟ لا تدري المؤمنة أين يكون صلاح دنياها وأخراها؛ في الزّواج أم في العنوسة؟ مع الزّوج الفقير أم مع الزّوج الغنيّ؟ مع الذرية أم مع العقم؟ وأيّ شيء في حياة العبد المؤمن لم يعجبه ربّما يكون هو أعظم خير في حياته. وأيّ شيء في حياته أعجبه واطمأنّ له ربّما يكون سبب بلائه في الدّنيا أو في الآخرة: “وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون“.

 

فعلى العبد المؤمن أن يسعى لتحصيل ما يراه خيرا ودفع ما يراه شرا، وأن يتوكّل على الله، ويقدّم ما أمكنه من الأسباب المشروعة لذلك، فإن وقع شيءٌ على خلاف ما يحبّ، فليتذكرْ هذه القاعدة القرآنية العظيمة: “وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون، ولْيُسلّم أمره لله وليرض باختياره، ولْيحسن الظنّ بربّه الكريم، ولْيصبر، وسيرى من ربّه الحنّان المنّان ما ينفعه ويرضيه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
  • بدون اسم

    ياو العرب تاع قصص ومروغات وخيانة لا غير وفي الخفاء الصفرة تربح. الرومي كافر بصح معندهش البروداج و القنون فوق الجميع-مجتمعنا بعيد بزاف لا دين لا اخلاق طاق على من طاق روح تلعب ياولدي خصنا العمل والتطبيق في الميدان مخصناش الفلسفة وقصص جحا

  • Marjolaine

    شكرا جزيلا لمن عقب علي ... أنا كنت لحظتها أحس بحزن كبير حيث رأيت قصة مشابهة نوعا ما لأناس نزعت الرحمة من قلوبهم ولم يقدروا النعمة الكبيرة التي أنعمهم الله بها (الأطفال) والتي يتمناها كثيرون. كما يقال: " واحد ما حفظش باه يصلي وواحد يلعب بالمصحف ".

  • بدون اسم

    لالا خو نحسن له وفي كل شىء هو الاول وأنا التانية وطلباته حاضرة في جميع المجالات ومتشبع من كل شىء ولكن أن أهديه إمراءة نو نو نجيبلو عقرب تشويه ولا مراءة هههههههههههه هي الحقيقة

  • azedine

    السلام عليكم
    إنها قصة رائعة دخلت قلبي لأنها كانت من الواقع و ليست من الخيال و من فوائدها إحسان المرأة لزوجها و خطبة المرأة لزوجها و هذا الأمر قل ما نجده في مجتمعنا و يا ليته يكون لعدة اعتبارات منها :
    *كثرة العوانس ، الأرامل ،المطلقات في المجتمع.
    *تفشي المناكر في المجتمع فالزوجة الثانية حصن للزوج إذا كانت الأولى غيرر قادرة على ذلك.
    *رعاية الأيتام يكون لها نصيب عند الزوجة الأولى إذا حثت الأولى على الزواج من أرملة.
    عسى يتيم يقربك من مجاورة خير البشر اللهم صل على سيدنا محمد

  • بدون اسم

    فعلا الملل دب الى قلوبنا وما أحوجنا الى مثل هاته المقالات وحتى تعليقاتك الدينية الرائعة لا نريدها أن تنقطع

  • ryad

    شكرا لكاتب المقال علي هته الأسطر القيمة , مقال شامل في المستوى وشيق للقراءة بارك الله فيك علي" النيفو" اشجعك لكتابة المزيد تحياتي

  • Marjolaine

    كنت أتصفح بملل ولا رغبة لدي في قراءة أي شيء إلا أن ساقني القدر الى هذا المقال الذي كان وقعه فيّ كالبلسم الشافي يحي القلوب( جزى الله كاتبه خير الجزاء )
    على كل هي الحقيقة التي نحن موقنون بها ولا يساورنا شك في وجودها لكن كثرة مشاغل الحياة ومتاعبها تطمرها برمال اليأس . والحق كما قال سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والتسليم: "عجبت للمؤمن أمره كله له خير، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له" أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

  • عبد الله

    مقالك في الصميم، بارك الله فيك ونفع الله بعلمك

  • بدون اسم

    بارك الله فيك.

  • بدون اسم

    هايل هايل الله لا يحرمك الجنة لا تحرمنا من تعليقاتك بارك الله فيك يا نور الدين

  • نورالدين الجزائري

    { إنا نراك من المحسنين } و لكن الله تعالى أخرجهم من السجن قبله ! و ظل هو بعدهم سنين ، فالأول أصبح خادم و الثاني قُتل صلبا . و يوسف إنتظر كثيرا ( تحت مطية : عسى ) لكنه خرج ليصبح عزيز مصر بعد عزيزها و مالك السجن ! ليلاقي أبويه و ليفرحا به و يسامح إخوته و ينقذ مصر من أزمة كادت تعصف بكل حيّ ! فلتكن أسوتنا في يوسف و رجاء الله تعالى لا يقنط منه عبدا عابدا و لنعلم أنه تعالى لن ينسانا أبدا فهو أكثر من رجاء و أعظم من عسى و نحن له عابدون !
    الشكر للمقال محترم جدا! و السلام على من إتبع الهدى إلى يوم الدين

  • abd elkader

    بارك الله فيك يا استاذ انها الحقيقة التى يجب ان يدركها المؤمن فيرضى بما كتب له ولا يقنط من رحمة الله

  • نورالدين الجزائري

    المفعول لتفيد العموم و منها ضعف الإنسان أنه أصلا فيه عدم العلم { و أنتم لا تعلمون }
    والآية الكريمة تحثنا كذلك على الرجاء بدون إنقطاع في كل ما تأزم علينا و صعب و شقى علينا ، { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم } 99 النساء . و لم يقل : فاعفا الله عنهم ، ليحثهم على رجاء عفوه و فرجه ، فإذا زلت بنا الأقدار و وقعنا في مكروه يؤلمنا نقول : عسى الله تعالى يأتي بخير و بهذا نعتمد على القدرة المطلقة من كريم قادر . و أي رجاء أقوى من رجاء إلهي العظيم !!
    عندما كان يوسف عليه السلام في السجن ، كان الأحسن بشهادتهم

  • نورالدين الجزائري

    حصول الشك من المستمع لا حصوله من القائل و على هذا فإنها لا تحتاج إلى تأويل ! و كلمة: عسى تأخذ معاني و أوضاع متعددة منها : الرجاء
    1 أن يقول العبد : عسى أن آتيك بخبر هنا رجاء
    2 أن يقول : عسى الله أن يأتيك بخبر سار هنا قوة في الرجاء لأنه رجى من الله تعالى .
    3 أن يقول سبحانه : { عسى الله أن ..} هي مرحلة القوى على الإطلاق و رجاء يقع منه تعالى لعباده هين و واجب التحقيق ، لأننا دخلنا في دائرة أوسع و أعظم ، إمتزجت بالغيب المستور ! { و الله يعلم و أنتم لا تعلمون } 216 البقرة . فالحق تعالى يعلم : خذف

  • نورالدين الجزائري

    ما أضيق العيش لو لا فسحة الأمل و الرجاء و هو حلم اليقظة !
    أتأمل إلى دقة الكلمة : فعسى أن تكرهوا ! فأنا أكره و قد أكون على حق أو باطل ، فالحديث عن الكراهية في أمر ما ، كأن الله تعالى إذا رأنا نعبده و لا نأتي باطلا و لا حرما و إنما أمر فيه ثقل على النفس و كرهٌ على المزاج فالنصبر عليه و كم من حالات كرهها الإنسان فتبيّنت له لاحقا أنها عين الحق ! لأنه ضعيف و لن يكون دائما دقيقا في كل أمور دنياه و آخرته .
    و تأملت ثانية في: عسى ! التي توهم الشك مثل لعل ، و هي من الله تعالى يقين لماذا ؟ لأنها تدل على

  • نوووها

    ورب الكعبة ما قلته عين الصواب الله يرزقنا الخير حيث كان ... ..ما نزوجوا ما نحرق يد الطفل واش داك ........

  • إسحاق

    جزاك الله خيرا عن هذا المقال الرائع.

  • حنان

    والله فلينظروا إلي فرعون و خاتمته كفى به واعضا و ليتذكروا بأن نهاية كل إنسان هي الموت ؟؟؟؟؟ فكفانا إراقتا للدماء حسبي الله و نعم الوكيل