الرأي

.. وماذا عن استعادة الأدمغة المُهاجِرة؟

حسين لقرع
  • 1304
  • 16
ح.م

لا ريب أنّ استعادة جماجم 24 شهيدا من المقاومة الشعبية الجزائرية، بعد 170 سنة كاملة من اختطافها ونقلها إلى فرنسا، هو مكسبٌ تاريخي سيبقى في ذاكرة الأجيال، في انتظار استعادة الجماجم المتبقّية، وعددها 512، لتُدفن جميعا في أرض الشهداء والمجاهدين، وكذا استرجاعِ الأرشيف المنهوب، وتسريع مناقشة مقترح قانون تجريم الاستعمار والتصديق عليه، ومواصلة الضغوط على فرنسا لانتزاع اعتراف رسمي منها بجرائم الاستعمار، والاعتذار عنها، والتعويض للجزائر.

لكنّ ماذا لو استكملت البلاد هذا المسار وسعت أيضا إلى استرجاع أدمغتنا المهاجرة؟ ألا يستحقّ الأمر بذل جهود مضنية، ولو دامت سنواتٍ عديدة كما حدث مع ملفّ جماجم الشهداء، لاستعادتها والانتفاع من علمها وابتكاراتها وخبراتها؟

عشراتُ الآلاف من العقول والإطارات المتخصّصة في شتى العلوم والمعارف هاجرت إلى بلدان عديدة متطوِّرة، وتقول إنها اضطرّت إلى الهجرة لتحسين ظروفها المادّية بعد أن تعرّضت للتهميش في البلاد بفعل نظامٍ ريعيٍّ لا يقدّر العلماء، ولا يثمِّن البحث العلمي، ولا يكترث بهجرة عالمٍ أو مخترع موهوبٍ ليفيد بلداناً أخرى بابتكاراته وأبحاثه وتجاربه، عوض أن يفيد البلاد.

طالما أثير هذا الملفّ خلال العقود الماضية، وانتُقِد النظامُ على صلفه واحتقاره للعلم والعلماء والباحثين، وعدم إبداء أيِّ اهتمامٍ حقيقيّ بتحسين ظروفهم وتوفير كل الإمكانات المادّية والمالية لهم ليتفرّغوا للبحث ويفيدوا البلاد والعباد. حتى بصيص الأمل الذي لاح في عهد الرئيس السابق بشأن تحسين وضعية الباحثين الجزائريين، سرعان ما خفت حينما عاد بعضُهم من ديار الغربة، ليصطدموا مجددا ببقاء دار لقمان على حالها، ويتأكّدوا بأنّ ما قيل بشأن بداية توفير كل الإمكانات للباحثين والأدمغة المهاجرة خاصّةً، لم يكن سوى لغة خشب تعوّد النظامُ أنَّ يلوكها، وأنّ البيروقراطية المتجذّرة فيه أعمقُ بكثير من خطاب حماسيّ ألقاه الرئيس السابق في لحظة انفعال، فكانت النتيجة عودة جلّ الأدمغة إلى الخارج مجدّدا بعد أن انكشف السَّرابُ سريعا.

هل من المنطقي أن يعود العالمُ والمخترِع الكبير بلقاسم حبّة من أمريكا فيجد نفسه يدرّس في جامعةٍ بالجنوب ويقطع مئات الكيلومترات يوميا ليصل إلى مقرّ عمله ويعود إلى بيته كل مساء، كما كشف بنفسه لـ”الشروق تي في”؟ كيف نهمِّش عالما مخترعا بلغ 1500 اختراع منذ أيام فلا نوفّر له ولو سكنا بقرب الجامعة لنمنعه من العودة إلى أمريكا؟ وهل جاء ليُفيد البلاد باختراعاته وبحوثه أم ليكتفي بالتدريس؟

النتيجة المؤلمة هي عودة هذا المخترع العظيم الشهير عالميا إلى أمريكا وفي قلبه حرقة على بلده الذي لم يوفّر له أدنى الإمكانات المادّية فضلا عن غياب مخابر البحث، أليست هذه جريمة بحقّ العلم والعلماء؟

ما قيل عن حبَّة ينطبق على الكثيرين في شتى التخصّصات العلمية والتكنولوجية، وفي كل البلدان المتطوّرة. لقد فقدت البلادُ منذ الاستقلال إلى الآن الكثير من العقول والكفاءات العلمية الرفيعة، ومع ذلك لم نلتمس بعد أيّ خطّة لاستعادتها لتخدم بلدها وتساهم في نموّه وتطوّه، أو على الأقلّ تفعيل الاستفادة منها عن بُعد بالنت، أليس البحث العلمي هو قاطرة تطوُّر أيّ بلد وبنائه اقتصادا تنافسيا قويا؟ هل تطوّرت أمريكا وأوروبا والصين واليابان وكوريا الجنوبية ونمور آسيا بريوع النفط أم بالبحث العلمي؟

لن تتطوّر بلادُنا إلا إذا أعدنا الاعتبار للعلم والبحث العلمي ورصدنا ميزانية سنوية معتبرة له، واسترجعنا من نستطيع استعادتهم من علماء ومخترعين وإطارات، ووفّرنا للباحثين رغد العيش ليتفرّغوا للبحث كليا، أليس من المعيب والمهين أن يتقاضى لاعبُ كرة قدمٍ شبه أمِّيٍّ مئاتِ الملايين من السنتيمات شهريا، ويُهمَّش الباحثُ والمخترع ويُرغم على مطاردة لقمة العيش المُرهِقة بمنحه راتبا زهيدا وكأنّنا ندفعه دفعا إلى الهجرة لتحسين الوضع المعيشيّ لأطفاله؟ أليس هذا طردا للأدمغة وجريمةً نكراء في حقّ الباحثين والكفاءات؟

مقالات ذات صلة