-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

وَهَمُ التغيير

وَهَمُ التغيير

إن من أهم مميزات الشعوب المتخلفة أنها شعوب ثرثارة، تتكلم أكثر بكثير مما تنجز من أعمال، لا تقبل أن تتحمل المسؤولية سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، ترمي بها دائما على الغير. شعوب لوّامة للآخر، تعشق الانتظار ولا تبادر إلى الأفضل إلا في المناسبات التي تتعاظم فيها الأنا، ولكي يشار إليها بالبنان. شعبوية طاغية، يغيب فيها التفكير الجاد والمثمر، لا تسعى إلى تدارك ما فات وتصحيح أخطاء الماضي والتعلم منها، تعيش بلا هدف ولا غاية، نشوتها أن تسير نحو المجهول وتسبح ضد التيار، تيار العلم والمعرفة وتجارب الشعوب المتقدمة.

المثقف فيها يكتب مقالات وكتبا ويقدم محاضرات وندوات ودروسا، معتقِدا بأنه قد أدى واجبه وقدم كل ما عليه. والقائمون فيها على شؤون الدين وتبليغ رسالة الإصلاح يكررون كلمات دون روح عند كل مناسبة أو دعوة يُدعَون إليها، كلمات بلغة فصيحة ونبرة صوت مرتفعة لكنها خاوية من كل إبداع أو تأثير في العقول، ثم يعتقدون بعد ذلك أنهم قد أدّوا الأمانة التي عليهم وأنّ دورهم قد انتهى.

سياسيون يخطّون البرامج تلو البرامج، ويمررون السياسات تلو السياسات، إلا أن النتائج فشلٌ وهزائم، ووضع الأمة يتأزم من شهر إلى آخر، هذا إن لم نقُل من يوم إلى آخر، إلاّ أنهم يعتقدون بأنهم قد أدوا ما عليهم، وأن ما يؤول إليه البلد وما يعانيه الشعب من متاعب هو خارج عن إرادتهم ولا ذنب لهم فيه.

مواطنٌ اختزل الفضاء المسؤول عنه في مسكنه وفقط، أما خارج المنزل فلا يراه بأنه ملكٌ له، ولهذا لا يهمه بتاتا ما يحدث من تخريب أو دمار في حيّه أو في مدينته، يتعامل مع الفضاء الخارجي وكأنه ملكٌ للآخر وليس للمجتمع الذي هو أحد أفراده، يرمي الأوساخ يمينا وشمالا من دون شعور بأي ذنب أو مسؤولية، لا يهتم لجمالية المكان أو لأهمية الطبيعة ولا يسعى للإصلاح والتغيير قدر المستطاع، ولا حتى يتساءل: كيف سيكون عليه مستقبلُ الأجيال أو من أين سيبدأون أمام هذا الخراب المنتشر في كل جهة؟!.

شبابٌ يملك من الطاقات الفكرية والعلمية والثقافية والرياضية والصحية ما يُحسد عليه من دول أخرى، دمرت شبابَها الانحرافاتُ والآفات، إلاّ أنه توقف به الزمن في محطة الانتظار، بسبب نشأة اجتماعية مغلوطة قاتلة للإبداع ومدمِّرة لأخذ زمام المبادرة بمشاركة كل المؤسسات دون استثناء، فأصبح ينتظر من الدولة أن تقدِّم له كل شيء، الشهادة والوظيفة والمرْكبة والسكن وربما حتى منحة للزواج، وعندما لا يجد ما ينتظر، يخرج إلى الشارع ليحتجَّ بالطريقة التي يراها مناسِبة دون أن يهتم لمصلحة الناس، وعادة ما تكون طريقة الاحتجاج خنجرا آخر في صدر هذا الوطن.

إداريون تشرّبوا خُلُقَ تعطيل مصالح الناس، بسبب بيروقراطية متخلفة مجحفة أضرّت بنفسية المواطن، أفقدته ثقته بمؤسسات دولته، حتى أصبح يراها بأنها عدوُّه اللدود وأنها جُعِلَت من أجل تعذيبه وتكسير إرادته والوقوف في وجه طموحاته، تحولت إلى كابوس أفقده نومه وراحته.

إن كل هذه النماذج، ونماذج أخرى عديدة في مجتمعنا تعمل بوعي منها أو من دون وعي على إنهاك هذا الوطن، مثل نموذج التاجر الفاسد الذي يحتكر السلع لبيعها في مناسبة أخرى أضعاف ثمنها الحقيقي، أو أولئك الذين يتحكمون في قطاع الخدمات فيُرهقون جيوب المواطنين عند الحاجة إليهم بالرغم من الخدمات الرديئة التي يقدمونها.. كل هؤلاء وغيرهم يجتمعون في منصات التواصل الاجتماعي الافتراضية، والأماكن العامة والمقاهي الشعبية وفي الملاعب الرياضية وربما حتى في المساجد، يشكو بعضُهم لبعضٍ حالة الوطن، يتذمرون من الأوضاع المزرية التي وصلوا إليها، يوهمون أنفسهم بأنهم بهذه الثرثرة يمارسون النقد الحقيقي الذي سيأتي إليهم بالتغيير المنشود، والحقيقة أنهم يعيشون في وهم لا حدود له؛ وَهَم النقد الذي يبدأ دائما من الآخر، ووَهَم التغيير الذي لن يتحقق أبدا.

إن طريق التغيير معلومٌ لمن يريد أن يسلكه، وهو كما أشار المولى عزّ وجلّ في كتابه الحكيم انطلاقته من نفس الإنسان، إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، من نفس كل واحد منّا، من نفس رئيس الدولة والبرلمانيّ والسياسيّ والقاضي والإداريّ والإمام المصلح والأستاذ والطالب والعامل والتاجر والعاطل عن العمل.. من نفس كل فرد مُكوِّن لهذا المجتمع. ومن هذه النقطة تحديدا  كانت انطلاقة الشعوب التي تتصدر الآن المقدمة في كل مجالات الحياة، لقد عرفت مشاكلها حق المعرفة، اطّلعت على مكمن الخلل فعالجته، ونظرت إلى معوقات التقدم فأزالتها، استثمرت في الإنسان لأنه الفاعل الحقيقي والضامن الوحيد لكل تغيير ايجابي، فكان لها ما طمحت إليها في بضع سنين.

وعندما ننظر إلى مراحل تطور المجتمعات وانتقالها من مرحلةٍ إلى أخرى، إلى غاية وصولها إلى ما يُعرف اليوم بمجتمع التكنولوجيا والمعلومات بسرعة مذهلة، نجد بأن الفاعل الأساسي في كل هذا، هي الديناميكية التي كانت تتميزت به هذه الشعوب، وقد كان وقود هذه الديناميكية واستمراريتها هم المفكرون والمثقفون، فلقد أبلوا بلاء حسنا، شجاعة في الطرح وتشخيص دقيق لعلل المجتمع حتى ولو خالف ذلك أهواء عامَّة الناس وما يُطرب سمع الجماهير، واستعانوا من أجل غرس هذا الوعي في شعوبهم ووضعها على السكة الصحيحة، بالأدب والفكر والعلوم والفلسفة والمسرح والفنون.. وبكل ما من شأنه أن يرفع من إدراك الإنسان لواقعه وما يزيد في منسوب تحضُّره وتحكُّمه في خيوط لعبة التغيير التي يعمل البعض على قطعها أو تعطيلها، ولم يكتفوا فقط بالمواعظ الدينية والكتابات المنمَّقة والخطابات السياسية الرنانة أو دفعهم للتعلق بأي كاريزما قد يستيقظوا بعد فوات الأوان بأنه سلك بهم كل الطرق إلاّ طريق التغيير الصحيح وحقق لنفسه كل ما رغب واشتهى من مصالح إلاّ مصلحتهم ومصلحة الأجيال من بعدهم.

إن طريق التغيير واضحٌ وضوح الشمس، إلاّ أنه لا يفصله عن وَهم التغيير إلاّ غشاءٌ رقيق شفاف قد لا ننتبه إليه في خضم هذه المعارك الطاحنة التي تندلع كل حين لتُشغلنا عن الأهم، وبدايات هذا الطريق أن يلتزم كل واحد بتأدية دوره والقيام بواجباته، أن نسعى إلى التغيير في اللحظة التي نعيش وفي المكان الذي نتواجد فيه، وأن نبتعد رويدا رويدا عن فلكلور وَهَم التغيير الذي طغى على تفكيرنا وممارساتنا وطريقة عرضنا لقضايانا ومشاكلنا. إن العيش في وَهَم التغيير ممتع للبعض لأنه غير مُكلّف، غير مسؤول، مميَّعٌ ومتاح للجميع، إلاّ أنه سيبقى وهماً، والاستمرار فيه يعني المزيد من الضياع والتخلف وبالتالي ضنك العيش وشماتة القريب والبعيد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • ياسين

    المجتمع الذي يفتقد إلى ثقافة العيش المشترك لا يمكنه أن يحدث التغيير في واقعه المتخلف ...بل يزداد التخلف ويتحول إلى تحلُّف ويصبح الناس يتنافسون على الفساد والإفساد بدل الإصلاح والتغيير نحو الأحسن؟؟؟ إنها سمات المجتمعات المتخلفة

  • جزاءري

    الانسان اما ان يكون صادقا مع نفسه ومع غيره او ان يكون منافقا حتى مع نفسه . الشعوب المتخلفة اغلبها شعوب منافقة . شعوب تتظاهر بالعمل ولكنها لا تعمل حقا . تتظاهر بالجدية ولكنها هزل . اذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد ان يكون صادقا مع نفسه ومع غيره وافضل من كل ذلك ان يكون صادقا مع خالقه .