-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

يا فرنسا:  لك ذاكرتُك ولنا ذاكرتنا

يا فرنسا:  لك ذاكرتُك ولنا ذاكرتنا

عجبت أشد العجب لفصيل من المحسوبين على البحث العلمي والتاريخي والجامعة ومراكز البحث والدراسات المتخصصة بالذاكرة والأرشيف.. أن ينزلقوا هذا الانزلاق المريع في التعامل والتفاعل مع تقرير المؤرخ اليهودي الجزائري (بنجامان ستورا)، إذْ هبت الأقلام والكتابات نحو تقريره الاستعماري بالقراءة والتحليل والفهم والردود ونحوها.

كأنّ هؤلاء كانوا ينتظرون بفارغ الصبر حتى يمنَّ عليهم أحدُ يهود الجزائر ممن حميناهم في ظل الحضارة الإسلامية وفي ظل الدولة الجزائرية الحديثة، التي كان من بين أحد أسباب تعرضها لاعتداء فرنسا الاستعمارية هي كثرة وإلحاح طلب الداي حسين (ت 1837م) على قنصل فرنسا بضرورة الوفاء بعهودها وإرجاع ديون التاجرين اليهوديين (بوشناق وبلبكري) لصفقة القمح التي ورَّداها لفرنسا أيام مجاعة الثورة الفرنسية 1786-1789م، والتي تسببت في ذريعة حادثة المروحة المشؤومة سنة 1827م، وكأنهم لم يقرأوا أو تعاموا عن مقال الشيخ عبد الحميد بن باديس 1889- 1940م بعد عودته خائبا يائسا وغير مصدوم والوفد المرافق له من مقابلة رئيس الحكومة الشعبية الاشتراكية من المؤتمر الإسلامي سنة 1936م من فرنسا حينما كتب على صفحات جريدة البصائر الغراء في سلسلتها الأولى (آن أوان اليأس من فرنسا)، لأن فرنسا الاستعمارية لن ولا يمكنها أن تقدِّم شيئا للجزائر والجزائريين سوى القهر والذل والاحتقار والنهب والسلب وشل الإرادة وإبقائها تابعة لها في الصغيرة والكبيرة.. عبر خوَنتها وسدنة مشروعها الاستكباري المستمرّ الذي يتولى كبره الكيدي السفير الفرنسي هذه الأيام باستقباله للأقليات الإيديولوجية الضئيلة والمعزولة والمسلوخة عن أصالة شعبها وأمتها الأبيّة الحرة والوفية لخدمة المخطط الاستعماري في الجزائر..

تاريخنا نأخذه من وثائقنا لا من وثائق الاستعمار، نحن نأخذ تاريخنا عن المؤرخين الآباء (مبارك الميلي ت 1945م، أحمد توفيق المدني ت 1985م، محمد علي دبوز ت 1973م، وعبد الرحمن الجيلالي ت 2010م، ومحمد قنانش، وزهير إحدادن، ومحفوظ قداش.. ) والأبناء (أبو القاسم سعد الله ت 2013م، يحي بوعزيز 2008م، موسى لقبال ت 2009م..) والأحفاد (يوسف مناصرية 1952- حي 2021م، محمد لمين بلغيث 1956- حي 2021م)..

ولعلني لم أكن من المتسرِّعين كغيري للرد على التقرير بعد قراءته كاملا، وقراءة بعض الملخَّصات عنه التي حوتها صفحات الجرائد والمجلات الورقية والإلكترونية، لكوني مؤمنا غاية الإيمان ومشبّعا غاية التشبع بقيم ديني الإسلامي ووطنيتي الجزائرية العربية الأمازيغية الأصيلة بأن تعليق الأمل في الكفار من اليهود والنصارى مخالف لمبادئ وأسس عقيدتي الإسلامية التي تُحرِّمُ علينا موالاة ونصرة واعتقاد الخير في الكفار والمشركين والمنافقين وعلى رأسهم اليهود والنصارى الحاقدين على الإسلام ولغته وثقافته العربية من جهة، ولماضي فرنسا الاستعماري المخزي والعفن في الجزائر إبان فترة احتلالها البغيض لبلادنا 1830-1962م من جهة ثانية، ولكوني مازلت وفيا ومؤمنا ومصدقا لحكايات وقصص جدتي (زهرة التبسية) وعماتي المجاهدات وسائر الجدات والعمات والخالات والأمهات والآباء لأصدقائي وزملائي في المرحلة الابتدائية سنوات 1963-1969م عن فظائع فرنسا وجرائمها في حق الشعب الجزائري الأعزل من جهة ثالثة، عندما كنا نقضي سهرات ليالي الشتاء البارد حول موقد الفحم ونحن نستمع لفظائع وجرائم الجيش الفرنسي المجرم في أبنائنا وبناتنا وشيوخنا وأطفالنا ورجالنا.. ما يندى لها جبين الإنسانية التي يتشدّقون بها كذبا ودعايةً.. حتى عندما تنتهي حكايات ذلك البيت ننتقل إلى بيت أصدقائنا في البيت الموالي لنسمع حكايات الفظائع والجرائم الأخرى التي لم نسمعها، وهكذا مضت طفولتنا قبل أن يُطلّ علينا جهاز التلفزيون سنة 1970م.. أفنترك حياتنا ووقائعها الحقيقية لنصدق تقرير اليهودي المأجور؟ وهذا من الجنون الذي وقع فيه الكثير ممن كان بعيدا عن أوار الثورة ولهيب نيران الاستعمار الفرنسي ومجازره.. وكان يتابع دراسته في المدارس الفرنسية، وربما كان والده موظفا في الإدارة الفرنسية.

والقراءة الأولية عندي بعد جمعي وقراءاتي لكل الردود والمقالات والأبحاث والقراءات.. التي تناولت تقريره الأسود مفادها: التعرف على دخيلة وحقيقة وتوجُّه المتصدين للتقرير قبولا أو رفضا والمعتقدين في فرنسا عكس ما ظنوا وحلموا وتوهّموا وراهنوا وما كتبوا أيضا.. لأنّ الموقف الاعتقادي من فرنسا المستعمِرة مبدأ ثابت لا يتغير إلاّ بتغيّر سياسة المستعمِر نفسه، وهو يتكيف بعدها وفق شروط شرعية واعتقادية أخرى ليس مقامها الآن.

ولأن الأصل الاعتقادي الأول والأساسي والراسخ في قلب وروح المواطن الجزائري العادي هو انتظار الشر الدائم من فرنسا الاستعمارية، وأن إيمان الجزائري العادي أنّ فرنسا دولةٌ معتدية ومستعمِرة ومتجبِّرة ومتسلطة وحاقدة على الجزائر ومقوِّماتها الأساسية (الأمازيغية، العروبة، الإسلام، وحدة التراب الوطني، السيادة، الحرية، الاستقلال، التنمية، الازدهار، التطوّر والتقدّم..).. إلى اليوم، ولكنها لم تجد الفرصة فقط لضرب وزعزعة استقرارها الداخلي، وهي التي لا تفتأ تثير القلاقل وتبعث المشكلات والأزمات داخل وخارج وعلى حدود الجزائر التي ضاعت منها وإلى الأبد إن شاء الله، فما بالك بالباحث الجامعي المتخصص والمؤرخ الوطني الغيور الذي وجب عليه أن تكون أداءاته الروحية وخلجاته الوجدانية وأنفاس مشاعره ودقات أحاسيسه إلى جانب قلمه وعقله ومنهجه البحثي التاريخي والتوثيقي في اعتقاد الخير والتوبة مثلا في فرنسا الاستعمارية وهو ما يجب أن لا يكون أو يصدر منه البتة.. لأن ماضي فرنسا الاستعماري، وسلوكها خلال العقود الستة الماضية يكشف لنا عن حقيقتها الاستعمارية التي لم ولن تتغير تجاه الجزائر والجزائريين الوطنيين.

والذي عزز رؤيتي وقواها تجاه الكتابة والرد على تقرير اليهودي الجزائري (بنجامان ستورا) هو أن الجيل العظيم من المؤرخين المعروفين الذين تربوا في مدرسة المؤرخ العظيم الدكتور أبو القاسم سعد الله (ت 2013م) صاحب مقولة: ((إن الأمة العظيمة ليست هي التي تلد البطل العظيم فقط، بل هي التي تلد المؤرخ العظيم ليسجل عظمة الأبطال))، قرأوا هذا التقرير بلغته الأصلية ولكنهم لم يعيروه أدنى عناية، ولم يلتفتوا إليه البتة، لأنهم خُلُوٌ من هوى فرنسا، وعُطْلٌ منوهم توبة المستعمِر القديم، ولأنهم يعرفون فرنسا حق المعرفة، ولذا نجدهم اعتبروا تقرير اليهودي الجزائري (بنجامان ستورا) لا شيء ولا حدث يحتاج للتعليق أو للرد، لأنه مجرّد دودةٍ صغيرة تلقّى للسمكة بغرض اصطيادها، وفكرة قاتلة ومميتة تُلقى للبلّهِ والمغفلين لينخدعوا بها، ويتطاحنوا فيما بينهم على مرأى من عيون ورقابة مراكز الرصد الاستعماري الفرنسي الماكرة.

وكان الأولى من وجهة نظري أن يديروا الظهر لذلك التقرير المسموم الأبتر.. ويتعمّقوا في إعادة قراءة مذكرات الثوار والقادة والمجاهدين والثوريين والمناضلين والسياسيين الذين كان لهم دورٌ ما في تحريك إرادة وعجلة الثورة التحريرية المباركة ضمن إطار الإرادة الجماعية للفعل الثوري الذي اضطلعوا به.. وغيرها من وثائق الثورة وما قبل الثورة وفترة الحركة الوطنية وفترة الكفاح المسلح وفترة الحكم العثماني للجزائر.. ففيها الغنى لتكوين الصورة الحقيقية للذاكرة الجزائرية الوطنية التي يحمل هذا المقال شطرا من عنوانها (ولنا ذاكرتنا)، لأن ذاكرتنا لا نستقيها من جلادنا وقاتلنا، بل نستقيها من معاناتنا وقهرنا وذلنا الذي عانيناه طيلة قرنين من الاستعمار والكيد.

وقد قدّر الله لي وأنا أعدّ رسالة الدكتوراة بجامعة الجزائر في كلية الشريعة الإسلامية سنوات 1994-2002م عن حياة وجهود الشيخ العربي التبسي الإصلاحية في إطار جمعية العلماء المسلمين الجزائريين المباركة، أن أطلع على أكثر من ألف مصدر ومرجع وكتاب وبحث ودراسة ومقال ورسالة علمية متخصصة فضلا عن الوثائق الوطنية والاستعمارية من مختلف مراكز الأرشيف الوطنية وعلى الروايات الشفوية والحوارات والملتقيات المتخصِّصة والمذكِّرات والسير الذاتية وغيرها من أن أُكوِّنً صورة صافية وواضحة وجلية عن حقيقة الاستعمار الفرنسي البشعة جدا.. والتي يريد تقريرُ اليهودي الجزائري ناكر الخير (بنجامان ستورا) أن يُخفيها ويعفو عنها ويزوِّر بتقريره حقائق التاريخ البشع لفرنسا المسيحية التي حولت مساجد الجزائر إلى كنائس واصطبلات ومخازن وثكنات عسكرية، حتى لم يبق في الجزائر العاصمة سنة 1930م بعد قرن من الاستعمار سوى خمسة مساجد وضريحين فقط، وهذا هو تآزر اليهود والنصارى وتآمرهم التاريخي.

وأود فقط أن أنبه القراء الأعزاء أن تاريخنا نأخذه من وثائقنا لا من وثائق الاستعمار، لأننا نعتقد أنه سيقدم لنا وثائقَ مزوَّرة ومكذوبة، ومن اعتقد غير ذلك كمن اعتقد أن يتحول الذئب والأسد والنمر إلى قط أو كلب أليف.. نحن نأخذ تاريخنا عن المؤرخين الآباء (مبارك الميلي ت 1945م، أحمد توفيق المدني ت 1985م، محمد علي دبوز ت 1973م، وعبد الرحمن الجيلالي ت 2010م، ومحمد قنانش، وزهير إحدادن، ومحفوظ قداش.. ) والأبناء (أبو القاسم سعد الله ت 2013م، يحي بوعزيز 2008م، موسى لقبال ت 2009م..) والأحفاد (يوسف مناصرية 1952- حي 2021م، محمد لمين بلغيث 1956- حي 2021م).. اللهم اشهد أني بلغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!