يصنعون من لعبهم حياتنا ومن حياتنا لعبهم
حالة “الإمساك” المعنوي التي عاشها الكثير من الجزائريين، سهرة أمس الأحد، وهم يتابعون مباراة كرة بين ناديين إسبانيين، أقنعوا أنفسهم بأنها قمّة الأرض، وبأنها الحدث الأول والأخير في العالم، أكدت بأننا نرفع المطاريات فعلا، كلما سقطت زخات من المطر في القارّة العجوز. وإذا كان الجزائريون قد دخلوا ضمن أكثر من مليار نسمة، تابعوا هاته المباراة، ودفعوا الأموال وأحرقوا الأعصاب، وهم يتابعون تصادم فريقين إسبانيين، إما ترفيها عن أنفسهم، أو اقتناعا منهم بأنها مباراة في الرياضة، أو لمتابعة ما بلغته الأمم في مختلف المجالات، فإن السؤال المطروح، هو لماذا لا نأخذ من الأزهار دائما، سوى أشواكها ولونها الأحمر، بدليل أننا نتابع منذ سنوات آلاف المباريات الكروية، التي تبدأ وتنتهي بالروح الرياضية، وتقدم صورها مناظر باهرة لجمهور يذهب إلى الملعب للهروب من تعب العمل، ومازالت ملاعبنا عبارة عن تجمعات للمشاغبين لا يدخلها إلا من فرّط في حياته، وخاصة في أخلاقه.
ومن دون العودة إلى العصر الأندلسي الزاهر، والبكاء على أطلال قرطبة وإشبيليا، فإن إسبانيا، لم تكن إلى غاية سبعينات القرن الماضي، أحسن من الجزائر اقتصاديا، بعد أن عانت من الديكتاتورية لعدة عقود، ولكنها الآن صارت تسحرنا بسياحتها وبجامعاتها وباقتصادها، وبمستشفياتها، وخاصة بكرتها، فحوّلت لعبة ومباراة كرة إلى حياة قائمة بذاتها، لا تعيشها إسبانيا وحدها، بل يعيشها العالم، ونعيشها نحن معها، ولكن بطريقة جادة، قد تؤدي إلى الشجارات بين أفراد الأسرة الواحدة، بالرغم من أن دقيقة من المباراة، صارت بدولار، يخرج من جيب المتفرج عندنا، ويصب في حسابات هاته الاتحادات الكروية والفضائيات التلفزيونية وطبعا في حسابات هاته الأندية الكروية، التي تقوم بصناعة المال، وليس كما يحدث عندنا في احتراف، استنزاف المال العام والمؤسسات البترولية، مقابل شبه مباريات كرة، فيها كل شيء إلا الرياضة.
من حق الإسبان أن يسمّوا هاته المباريات الكروية، التي تجري على أرضهم، كما شاؤوا، ومن حق الفضائيات الفرنسية والألمانية والقطرية، أن تشترط المبالغ التي تشاء مقابل متابعة المباريات، ومن حق أي فرد في العالم أن يتابع المباريات حيثما وكيفما شاء، ولكن من واجبنا أن نأخذ من هاته المناظر الجميلة، التي يقدمها الإسبان من خلال مباراة ريال مدريد وبرشلونة، عطر احترام الآخر، ونظام الدخول إلى الملاعب، وفن التصوير وكيفية صناعة الاحتراف الحقيقي، وألا نبقى مجرد مُشاهد، له بصر يسافر من ملعب إلى آخر، وتعمى بصيرته عن الاقتداء بكل ما هو جيد، حتى صار لعبهم حياة بالنسبة إلينا، وكان دائما جدّنا وأمورنا المصيرية لعب بالنسبة إليهم.
قديما صاح طارق بن زياد وهو يدخل أرض إسبانيا: أين المفر البحر من أمامكم والعدو من خلفكم؟ فكان فتحا ونهضة مازالت آثارها شاهدة على ذلك، والآن لعب “طارقهم“: فكان فتحهم لنا اقتصاديا وثقافيا.. وحتى كرويا.