-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

يوم النصر.. تاج المسار الوطني

يوم النصر.. تاج المسار الوطني

يعتبر عيد النصر (19 مارس)، من الأعياد الوطنية التي أنجبتها ثورة نوفمبر 1954م، وهو تتويج للمفاوضات العسيرة بين الثورة الجزائرية بقيادة جبهة التحرير الوطني، والدولة الفرنسية المحتلة، كللت بالنجاح في الجولة الأخيرة من مفاوضات إيفيان (من 7 إلى 18 مارس) التي جرت فوق التراب الفرنسي، قرب الحدود السويسرية، واعترفت فرنسا بموجبها باستقلال الجزائر استقلالا كاملا غير منقوص، في إطار وحدتها الترابية، ووحدة الشعب، والسيادة الكاملة.

 

التاج   الذي فقد توهّجه

ومن دواعي الأسف أن هذا العيد قد فقد بريقه -كغيره من الأعياد الوطنية- لدى جيل الاستقلال، جراء تغييب نظام الحكم لمعالم الدولة العادلة المرسومة في بيان أول نوفمبر 1954م، وبفعل سياسة التعتيم المفروضة على شريحة هامة من صانعي ملحمة الثورة، بسبب الصراعات الحادة حول السلطة، لسنوات عديدة. حدث ذلك في وقت كانت فيه الجزائر أحوج ما تكون إلى تحصين الشباب بالتربية الوطنية، قصد جعل حب الوطن فوق كل اعتبار، حتى ولو جار الحكام. ولا شك أن خفوت وهج قيم الثورة المظفرة لدى الجيل الجديد، بعد نصف قرن من استرجاع السيادة الوطنية، مسؤولية نتحملها جميعا، شعبا وحكومة، بطريقة أو بأخرى، بيد أن القسط الأوفر من هذه المسؤولية واقع على عواتق المجاهدين، الذين كلـّت أعينهم كمنظمة وطنية فاعلة -بعد تحرير الأرض- عن استكمال الشطر الثاني من بيان أول نوفمبر 1954م، ألا وهو “إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية .

وصارت منظمتهم من وجهة نظر شريحة هامة من الرأي العام، مجرد آلة لتبرير شطحات الحكام بدل تصحيحها، ولتغطية عوراتهم بدل دق ناقوس الخطر كلما ناءوا عن قيم نوفمبر. وأدى التفريط في مسار نضال أمة بناه الشعب بالنفس والنفيس، والتقصير في الحفاظ على ذاكرة الشهداء وفي نقل رصيد قيم الثورة العادلة إلى الجيل الجديد، وفي السكوت عن مصادرة سيادة الشعب باسم الشرعية التاريخية، أدى ذلك كله إلى  تشويه الرصيد النضالي للثورة المظفرة، حتى  صار جيل الاستقلال يختزل منظمات الأسرة الثورية -مع الأسف- في الهرولة نحو المغانم، والتواطؤ مع النظام الأحادي الفاشل للاستفادة من الريع.

لكن من باب الإنصاف أيضا أن أشير بنزاهة إلى الجهود العلمية التي يبذلها منذ سنوات قليلة المركز الوطني للدراسات التاريخية للحركة الوطنية وثورة نوفمبر، التابع لوزارة المجاهدين، بعيدا عن الأضواء، من أجل تدوين ملاحم الكفاح الوطني بالكلمة المقروءة والمسموعة والصورة المرئية، ستمكن لا محالة الباحثين والدارسين بما توفره من المادة التاريخية الخام، من نشر الوعي الوطني وكتابة تاريخنا كتابة نزيهة وموضوعية، تبرز حجم التضحيات الجسام التي بذلها الشعب نظير استرجاع سيادته المغتصبة.

 

قراءة في اتفاقيات إيفيان

 تعد اتفاقيات إيفيان انتصارا دبلوماسيا كبيرا في رصيد ثورة نوفمبر، أكد حصافة رأي قيادة جبهة التحرير وكفاءة الوفد المفاوض، الذي لم يتنازل قيد أنملة، عما سُطر في بيان أول نوفمبر من أهداف سياسية نبيلة. فقد ورد في هذا البيان استعداد قيادة الثورة لفتح باب التفاوض مع الدولة الفرنسية المستعمِرة، شريطة اعترافها بالسيادة الوطنية في إطار وحدة الشعب، ووحدة أرضه بشمالها وجنوبها.

ومن مظاهر عظمة بيان نوفمبر، اقتراح مبدأ التفاوض على الفرنسيين، وقد برهنت الثورة بهذا الاقتراح للعالم قاطبة، أن الثوار ليسوا قطاع طرق وفوضويين كما كانت تدعي فرنسا، بل هم يمثلون إرادة شعب أصيل متمدن، يؤمن بالحوار والسلم، لكن تعنت فرنسا واستكبارها، أرغمه على حمل السلاح من أجل تغيير موازين القوى، لإجبارها على الجلوس إلى طاولة التفاوض. كما أن رفع راية التفاوض بالتوازي مع العمل المسلح من البداية، قد جعل هذه الثورة تنسجم مع قيم المجتمع الدولي المتمخضة عن الحرب العالمية الثانية، والمتمثلة في تكريس الحوار كوسيلة لتفعيل حق تقرير المصير للشعوب المستعمرة، وبعبارة أخرى فإن التلويح بمبدأ التفاوض  قد ساعد على تدويل القضية الجزائرية. هذا وقد استطاعت الثورة الجزائرية منذ البداية تحقيق نصر دبلوماسي لا يستهان به، حين أعلن وزير الداخلية الفرنسي فرانسوا ميتران، عقب اندلاع الثورة الجزائرية، أن المفاوضات الوحيدة مع الثورة الجزائرية هي الحرب.

 

محاولة فرنسا فرض شروط التفاوض

أدركت فرنسا بحنكتها السياسية أهمية إضعاف خصمها عسكريا، قبل الشروع في المفاوضات، لذلك عملت حكوماتها المتعاقبة من أجل كسب انتصارات عسكرية تجعلها تفاوض من موقع قوة. وفي هذا السياق جيء بالجنرال ديڤول إلى سدة الحكم في شهر ماي 1958م، ليس من أجل إهداء الاستقلال للجزائريين على طبق من الذهب كما يعتقد السذج، بل من أجل خنق الثورة، عن طريق الترهيب أحيانا (تقوية الجيش، وغلق الحدود بالأسلاك الشائكة المكهربة، وعزل الثورة عن الشعب وحشره في المحتشدات، وخلق مناطق محرمة، وتقتيل الجزائريين وتعذيبهم، وتطبيق سياسة الأرض المحروقة)، والترغيب أحيانا أخرى (وضع مشروع قسنطينة القاضي بفتح باب التوظيف أمام الجزائريين، وتوزيع السكن والأراضي الزراعية لهم)، وبشن الحرب النفسية، بما اسماه سلم الأبطال، ثم مقترح “الجزائر جزائرية”، فتقرير المصير مع إدراج الحركة الوطنية MNA ضمن الوفد المفاوض باسم الشعب الجزائري.

 

انتصار منطق الثورة

في الوقت الذي ازداد فيه تعاظم الثورة، بفضل تلاحم الشعب مع جبهة التحرير، وجيش التحرير الوطني  اللذين استطاعا تحقيق عدة انتصارات دبلوماسية وعسكرية، كان الجنرال ديڤول يعاني من ضغط المعمرين والقادة العسكريين المتطرفين الذين حاولوا التخلص منه بانقلاب في أفريل سنة 1961م، ومن وطأة الحرب التي كانت ترهق كاهل الاقتصاد الفرنسي، وعليه كانت فرنسا قاب قوسين أو أدنى من الانهيار. وأمام تلك الوضعية التي كان ديڤول لا يحسد عليها، تشجع بدعم من الشعب الفرنسي الذي وافق على تمكين الشعب الجزائري من حقه في تقرير المصير، فقبل التفاوض مع وفد الحكومة المؤقتة بقيادة كريم بلقاسم، في حين قاد الوفد الفرنسي لوي جوكس وزير الدولة الفرنسية المكلف بالشؤون الجزائرية.

 

جوهر المفاوضات

نجحت الثورة الجزائرية بعد مفاوضات عسيرة، في فرض شروطها على الدولة الفرنسية المستعمرة، التي اعترفت صاغرة بالسيادة الجزائرية كاملة غير منقوصة، في إطار وحدتها الترابية. وبعد فشل محاولات فصل الصحراء عن الجزائر، ركز الوفد الفرنسي المفاوض على مصير المستوطنين، والمصالح العسكرية الفرنسية، خاصة قاعدة رڤان الخاصة بالتفجيرات النووية، والمصالح الاقتصادية أهمها استغلال الثروات الباطنية الموجودة في الصحراء.

     وأمام اعتراف فرنسا بالسيادة الجزائرية، فقد تصرف وفد الحكومة المؤقتة بحكمة وواقعية، إذ لم ير بدا من تقديم بعض التنازلات المؤقتة كبقاء بعض القواعد العسكرية لمدة خمس سنوات (باستثناء مرسى الكبير الذي نص الاتفاق على بقاء الفرنسيين فيه لمدة خمس عشرة سنة)، والتعاون في المجال التقني والاقتصادي والثقافي. هذا وقد أثارت هذه النقطة تخوف البعض من احتمال استمرار المصالح الفرنسية عبر “مبدأ التعاون” الذي أقرته اتفاقيات إيفيان. وإذا عدنا إلى السياق التاريخي، فإن الواقع يؤكد أن الجزائر لم تكن في وضعية تسمح لها بقطع الصلة مع فرنسا قطعا شاملا آنذاك، لأنها كانت في أمس الحاجة إلى مساعدة تقنية، لا تتوفر لدى الجزائريين لبناء الدولة.

 

محاولة إجهاض اتفاقيات إيفيان

ومن جهة أخرى، حاول المستوطنون المتطرفون إجهاض اتفاقيات إيفيان والعودة إلى الحرب، عن طريق منظمة الجيش السرية الإرهابية (OAS)، التي مارست تقتيل الجزائريين، بهدف جر جيش التحرير الوطني للاقتتال مع الجيش الفرنسي، ومن أبرز جرائمها قتل حوالي 200 جزائري يوم 2 ماي 1962 في ميناء الجزائر. ومارست أيضا سياسة الأرض المحروقة (تخريب المنشآت الاقتصادية وتدمير المدارس، ونهب البنوك…) لحرمان الجزائر المستقلة من بناء دولتها. وبعد فشل هذه المنظمة الإرهابية في تحقيق هدفها، التجأت في مرحلة لاحقة إلى إرغام المستوطنين الفرنسيين على الهجرة قصد حرمان الجزائر من كفاءتهم. والحاصل أن الأعمال الإجرامية لهذه المنظمة الإرهابية قد أدى إلى تسارع الأحداث وإلى هروب المستوطنين الجماعي، فتخلصت الجزائر من عبئهم، علما أن اتفاقيات إيفيان قد ضمنت لهم حق البقاء في الجزائر، على أن يختاروا إحدى الجنسيتين، الجزائرية أو الفرنسية.

 

استقلال الجزائر

أسندت مهمة تسيير الفترة الانتقالية (من تاريخ وقف إطلاق النار، إلى يوم تنظيم الاستفتاء) للمجلس التنفيذي الذي ترأسه عبد الرحمن فارس، وقد نجح في تنظيم الاستفتاء الخاص بتقرير المصير يوم 1 جويلية 1962م، وكانت الإجابة بنعم للاستقلال. واعترفت فرنسا به يوم 3 جويلية، لكن قيادة الثورة أرجأت إعلانه إلى يوم 5 جويلية، بغرض محو تاريخ استسلام الداي حسين الذي تم يوم 5 جويلية سنة 1830.

 

نهاية الحكومة المؤقتة المؤسفة

رغم نجاح الحكومة المؤقتة في المهام التي أنشئت من أجلها، فقد كانت نهايتها مؤسفة جدا، إذ لم تشفع لها انتصاراتها الدبلوماسية العديدة كان آخرها نجاحها في مفاوضات إيفيان. وكان من المفروض أن تستمر في أداء واجباتها، إلى غاية توفير الشروط الضرورية لبناء الدولة الجزائرية الديمقراطية. لكن -مع الأسف- عصف بها المتعطشون إلى السلطة، الذين لم يتورعوا عن استعمال السلاح للاستحواذ على سدة الحكم على حساب السيادة الشعبية المصادرة. ولعل الأمر المحزن أن قام حكام الجزائر المستقلة بإقصاء معظم المنتسبين إلى الحكومة المؤقتة، من المشاركة في بناء الوطن، رغم توفر عنصر الكفاءة لدى هؤلاء. ولا شك أن ما عانيناه طيلة نصف قرن من عمر الاستقلال من ضعف الدولة واستشراء الفساد وغياب الاستقرار والعدل، هو نتاج الانحراف عن القيم الديمقراطية الواردة في بيان أول نوفمبر، مباشرة عقب استرجاع السيادة الوطنية سنة 1962م.

ومما لا يختلف فيه اثنان أن الوقت قد حان لرأب الصدع والعودة إلى جادة الطريق، بالرجوع إلى قيم نوفمبر الديمقراطية، ليس لذر الرماد في العيون، بل من أجل إحداث نقلة سياسية نوعية يطمئن إليها الشعب.

 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • djamel

    ان من يحكموننا اليوم يرون بانهم يحبون وطنهم ويموتون من اجله رغم انهم يضر ونه اكثر مما ينفعونه و ما تطور العلم الا دليل على دلك لهدا و جب على الشباب الجزائرى اخد زمام الامور انتخب اقل من اربعين سنة الا قاطع