يوم العلم بين “النباهة والاستحمار”
ونحن نحتفي بالذكرى السنوية ليوم العلم المصادفة لـ16 أبريل ونعمل كالعادة على استحضار بطولات وأمجاد أعلامنا الفكرية والدينية ونكرم بحفاوة بعض الرموز والشخصيات الثقافية والعلمية الذين نعطي لهم الفرصة ليحدثونا عن أهمية العلم في بناء الحضارات والدول، عدت مرة أخرى لقراءة كتاب المفكر الشهيد علي شريعاتي”النباهة والاستحمار”، وهذا لما له علاقة بأوضاعنا المأساوية التي نعيشها اليوم على مستوى المؤسسات التربوية والعلمية والثقافية وحتى الدينية.
وللنخبة في هذه الأوضاع مسؤولية عظيمة، فشريعاتي يفرّق بين العلم والنباهة، ويرى بأن الكثير من العلماء والمهندسين لا قيمة لهم ما لم يشعروا بالمسؤولية تجاه حركة التاريخ، وهذه الميزة قد نجدها عند الأمّي الذي يمتلك الشعور الراقي في معرفة الزمان والمجتمع وبذلك يكون قد جاوز المتعلم المنفصل عنهما.
وقريب من هذه المعاني، تحدث المفكر المرحوم مالك بن نبي عند تناوله لمسألة ميلاد المجتمع وأهمية الزمان والمكان أو التراب والإنسان، ولكن السؤال المطروح وبعد مرور كل هذه العقود من التحذير والتنبيه لخطورة تضييع الوقت– الزمان في حياتنا الخاصة والعامة: ألا يمكن القول بأننا دخلنا من حيث ندري أو لا ندري في طور الاستحمار الذي تحدث عنه علي شريعاتي؟
يشترط شريعاتي على أمتنا حتى يمكن لها التقدم والرقي، حالة من الشعور بالنقص الفكري وبارتباط المجتمع بهدف عال متسلحا بالإيمان والوعي الشخصي والاجتماعي وبوضوح الطريق، وإلا سنبقى عبيدا تابعين ومجرد مستهلكين لحضارة الغير، مستسلمين لسلطان اللذة والشهوة، ونتيجة ذلك هي أن قيمة الإنسان تزداد دمارا بمرور الأيام ولا خلاص من هذا المصير سوى إدراك لذة التمرد والرفض والنباهة والرغبة في التغيير نحو الأفضل، كما أراد لنا الله ذلك وهو يأمر منذ بداية الخلق ملائكته الكرام الأطهار بالسجود لآدم الذي سقط في تجربة الالتزام الرباني أمام الرغبة– اللذة.
ولكن بالله عليكم: كيف يمكن الاقتناع بهذه المعاني والمُثل وفي نفس الوقت أعتبر نفسي من المؤمنين بمقولة المفكر علي الوردي حينما قال بأن المعصية كذلك تساهم في بناء الحضارة، وهذا ما لم يدركه أبناء تيار الإسلام السياسي الذي فشل في إدراك الحلقة الوسطى بين الطاعة والمعصية؟.
يعرّف شريعاتي الاستحمار الذي سخرت له وسائل حديثة كمناهج التربية والتعليم ووسائل الإعلام والعلوم الإنسانية الحديثة، بأنه تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره الذاتي والاجتماعي ومصير هذا المخطط الذي يوضع لنا هو السقوط في العبودية والوهن أمام العدو.
وأمام هذه المخاطر يحذرنا صاحب النباهة بالقول “إنك إذا لم تكن حاضر الذهن في الموقف.. فكن أينما شئت، واقفا للصلاة أو جالسا للخمر، فكلاهما واحد” وهذا بحق ما جاء في الحديث الشريف بما معناه: “ليس لك من صلاتك سوى ما عقلت، وفي هذا المقام يسوق لنا صاحبنا حكمة بليغة لعلاج مرض“فقر النباهة“، لا بأس أن ننقلها للفائدة، حيث يقول“عندما يشب حريق في بيت، ويدعوك أحدٌ للصلاة والتضرع إلى الله، ينبغي أن تعلم أنها دعوة خائن، لأن الاهتمام بغير إطفاء الحريق، والانصراف عنه إلى عمل آخر، هو الاستحمار، وإن كان عملا مقدسا.. وأي شيء نُشغل به في هذا المجال يفيد أن المسبب قد استعمرك..”.
هذا للأسف الذي يرسمه لنا الغرب من الخارج وما تقوم به أنظمتنا العربية الإسلامية المستبدة والمتحالفة مع المراجع الدينية التي هيمن عليها في زماننا هذا المد السلفي الوهابي الذي أضحى سلاحا مدمرا للنباهة وآلة لصناعة الاستحمار.
وفي الماضي البعيد يقول شريعاتي بأن النخبة في زمن الدولة العباسية التي انصرفت للعلم وللفنون والفلسفة لتأخذ مقابل ذلك ما يزنها ذهباً وغابت عنها الدراية النفسية والاجتماعية، هي التي جعلت المغول يكتسحون ديار الإسلام ويقضون على الخلافة العباسية ويُغرِقون الأنهار بأطنان من الكتب التي لم تكن كلها ذات قيمة وفائدة كالتي تملأ رفوف مكتباتنا اليوم من روايات وقصص جنسية وحميمية يدّعي أصحابها بأنهم يعكسون بذلك الواقع اليومي الذي يعاني منه بعض الأفراد والجماعات من كبت وحرمان، وهو في حاجة لكسر الطابو لعلاج الداء، وهذا كذلك نوع من الاستحمار بواسطة الرواية التي لا تعمل على بناء ملَكة النباهة بقدر ما تشغلها عن عظيم الأمور، وهكذا ومثله من يريدون منا الانشغال بالأدعية والأوراد وإلى تطليق الدنيا والاشتغال بالزهد بدعوى“اعتزال الفتن“.
أرى بأن المفكر علي شريعاتي لم يجانب الصواب في تحذيرنا من مخطط الاستحمار؛ فلقد شبّه الله تعالى الذين فقدوا حاسة النباهة بأنهم كالأنعام بل هم أظل سبيلا، وفي ختام كتابه “النباهة والاستحمار” يضرب لنا مثلا في التبعية وتبليد الآخرين والمثل مأخوذ من أوروبا كما يقول، حيث يذهب الأوروبيون إلى الغابات لصيد القردة حية سالمة، فيضع الصيادون إناء مملوءً بالصمغ اللّزج تحت الأشجار، أو على ضفاف الأنهار في ممر القردة، وإناء آخر في زاوية أخرى، يشبه الإناء الأول، لكن فيه ماء ويجلسون إزاءه بانتظار مرور القردة.. وعندما تأتي وتقف بجانب الإناء المليء بالصمغ، يرفع الصيادون أيديهم، فترفع القردة أيديها، يغمس الصيادون أيديهم في الأواني المليئة بالماء، فتغمس القردة أيديها في الأواني المليئة بمادة الصمغ اللّزج، يُخرج الصيادون أيديهم، ويضعونها على جباههم كحالة التيمم، فتعمل القردة مثلها تماما، يمسح الصيادون بأيديهم على وجوههم وعيونهم، فتمسح القردة أيضا على الوجوه والعيون، يقف هؤلاء مقابل الشمس، فتقف القردة مقابل الشمس، وبعدها.. تجف تلك المادة على وجوه القردة، فتلصق أجفانها ويتعذر فتحها، وعندها يذهب الصيادون إليها ويلقون القبض عليها بسهولة.
نعم نحن في أمسّ الحاجة إلى مراكز لإشاعة ونشر ثقافة النباهة، وليس بالعلم وحده نتحرر من عبوديتنا ونتخلص من تخلفنا وتبعيتنا للآخر، وهذه مسؤوليتنا جميعا لتحقيق الأمن الفكري والإنساني بكل أبعاده أولاً.