الفكر المصلح والصالح
رائع جدًا ما فشلت فيه دولتنا بميزانياتها، ومؤسساتها، وكلّ إمكانياتها، ونجحت فيه عين صالح، بزاويتها، وقرآنيتها، ومعلمي كتاتيبها، ومعلماتها.
فشلت دولتنا في الحفاظ على ملتقى الفكر الإسلامي الذي كنّا نعدّه طيلة سنوات عديدة وسامًا تعلّقه الجزائر على جبينها، فيؤمها بسببه صفوة علماء الأمّة ومفكرو الإنسانية، لما كانوا يجدونه فيه من سموّ فكر، وحريّة رأي، ومنهجية تحليل، وتعليل للقضايا الإنسانية والإسلامية.
لقد سطا على ملتقى الفكر الإسلامي في ريعان شبابه في عدده الخامس والعشرين. سطا عليه أعداء الفكر الأصيل وأصحاب العلم الدخيل، فألغوه، بزعمهم، أنّه يخدم الإرهاب “كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً“ فمتى كان الشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي، والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، والدكتور عمار طالبي، والدكتور أحمد عروة، والدكتور سعيد شيبان، والدكتور محمد أركون، والدكتور أبو القاسم سعد الله، وغيرهم من أقطاب الفكر الإسلامي، متى كان هؤلاء دعاة إرهاب، وفتنة، وعنف، وسفك دماء؟.
ويأبى الله إلا أن تشرق شمس الفكر الإسلامي التي غيّبوها في الشمال أن تشرق من جنوب الجزائر، ومن دائرة عين صالح، هذه المدينة الجميلة ذات المعلم التاريخي التي وصفها أحد سياسيينا الظرفاء بأنها حاضنة معركة “أُحُد” الجزائرية أي معركة الدغامشة التي لا يزال شهداؤها مخضبي الأيدي بالحناء استعدادا لعرسهم في الجنّة.
فقد احتضنت“زاوية فقارة الزوَى” وهي واحة خصبة تبعد عن عين صالح بأربعين كيلومترا، احتضنت ملتقى فكريًا إسلاميًا منذ خمسة وعشرين سنة، يقام بمناسبة ذكرى الوليّ الصالح الشيخ “سيدي عبد القادر بن محمد” وكانت الفكرة بمبادرة من العالم الصالح المصلح الشيخ محمد الزاوي، طيّب الله ثراه، الذي ظلّ ينفخ في روح هذا الملتقى منذ دورته الأولى، وها هو يعقد دورته الخامسة والعشرين في نوفمبر 2014م.
لم يكن المرحوم محمد الزاوي يملك ميزانية وزارة الشؤون الدينية أو وزارة الثقافة في حكومتنا، ولا ميزانية أيّ حزب من الأحزاب ولا حتى عدد سكان حي المرادية أو حيدرة، وإنّما كان يملك رأس مال علمي أثيل، وإرادة شعب توات الأصيل، وثقة سكان عين صالح، و“فقارة الزوى” الراسخة المتينة، فاستطاع أن يضمن البقاء والازدهار لملتقى الفكر الإسلامي، الذي كان ولا يزال قبلة فكرية يتوّجه إليها أقطاب الفكر الإسلامي في جزائرنا الحبيبة، فهو ملتقى يعبق بالفكر النّقي، والتديّن التّقي، والعمل الإسلامي الوفي، والفقه الديني النّدي، يقوم بتأطيره زبدة من العلماء في الجزائر من أمثال الشيخ محمد الهادي الحسني، والشيخ محمد الشريف قاهر، والدكتور محمد بن رضوان، والدكتور محمد إيدير مشنان، والشيخ أبو عبد السلام، والدكتور مبروك زيد الخير، والدكتور سعيد معول، والدكتور مبروك المصري، والدكتور زيطوط، والشيخ محمد مكركب، وكاتب هذه السطور، وغيرهم من علماء الجنوب والشمال.
ويكفي أن يلقي الإنسان نظرة على مواضيع دورات الملتقى الذي يؤمّه المئات من الناس بل والآلاف، كلّ سنة من كلّ أنحاء الجزائر عموما وتوات خصوصا ليدرك سرّ نجاح الملتقى وبقائه مشعًا إلى دورته الخامسة والعشرين في هذه السنة
(11–12 نوفمبر 2014م).
خصصت دورات ملتقى الفكر بعين صالح لمواضيع بالغة الأهمية مثل “القرآن الكريم وأثره في إصلاح الفرد والمجتمع“.
2– السيرة النبوية وأثرها في إصلاح الفرد والمجتمع.
3– فقه الأسرة وأثره في ترقية الفرد والمجتمع.
4– التصوّف وأثره في إصلاح الفرد والمجتمع.
5– المواطنة والمواطن الصالح.
6– القيم الدينية والوطنية ومكانتها في ترقية الفرد والمجتمع.
7– العمل وأثره في ترقية الأمّة.
8– الوعظ الديني، تصوّر وآفاق.
9– الأمّة الإسلامية بين الواقع والمتوقع.
وجاء موضوع ملتقى هذه السنة يحمل عنوان “دور المسلم وواجبه الوطني في ظلّ طغيان المادية، وتكالب العلمانية“.
إنّ هذه العيّنات من عناوين ملتقى الفكر الإسلامي بعين صالح، لتلقي الضوء على التوجّه السليم الذي يتسم به هذا الملتقى المسكون بالهاجس الذي يسكن القائمين عليه في إصلاح الإنسان الفرد، والمجتمع، بالمنهجية الفكرية الصحيحة، فإذا أضفنا إلى الجوّ الفكري الذي يتسّم به الملتقى كلّ سنة، الجوّ القرآني الذي يميّزه باحتضان الزاوية بجموع الحفاظ الذين يقومون بختم القرآن جماعيا في المسجد، أدركنا أي دور لزاوية “فقارة الزوَى” هذه الزاوية القائمة على القرآن، وعلى الفهم الصحيح للقرآن.
إنّ هذا الانجاز الفكري الديني الجليل الذي تقوم به “فقارة الزوَى” بعين صالح ليسائل ضمير كلّ عالم، وكلّ مسؤول في الجزائر حول ضرورة التكفل بالملتقى، ومدّه بالعون المادي والمعنوي، ليتواصل في تألقه وإشعاعه.
كما يستنطق القائمين على الشأن الديني والثقافي في وطننا من ضرورة التساؤل: ألا يحقّ وطنيا وثقافيا، وإسلاميا العمل على عودة ملتقى الفكر الإسلامي الموؤود إلى استئناف دوراته، وإعادة الوسام إلى جبين وطننا، ومحاولة إعلاء قيمتنا وقيّمنا بالفكر الإسلامي الصحيح، ومساهمة العلماء المسلمين الجزائريين بالعمل على إعادة ترتيب الأولويات وتصحيح المفاهيم، عسى تستطيع الجزائر أن تضع في مقابل“الربيع العربي” الضبابي “الربيع الإسلامي” الواضح المعالم، الذي ينبذ التطرّف والغلّو والعنف والإرهاب في محاولة لتقليص المخاطر وطمأنة الخواطر.
وأختتم كلمتي هذه ببيتين من قصيدة طويلة لأحد شعراء بملتقى عين صالح وهو أحمد بن الشيخ محمد، رثى بها مهندس الملتقى الشيخ محمد الزاوي –رحمه الله– يقول في افتتاحيتها:
أيا بلدة هلا جبلت بنسمــــــــة تحاكي فقيد العلم جبرا لجرحنا؟
ألا فاحبلي، إنّ الجراح تكاثرت لعلّ دورنة التاريخ ترحمـــــــــنا