لبنان…
يقول العارفون بعلم الجيوبولوتيك أن للجغرافيا قوانينها المستبدة، ومعطياتها المتكررة.. وكما أنها تنتخب مهمات لأهلها، وتحدد لهم وظائفهم الإستراتيجية، فإنها أيضا تجعلهم خاضعين لأقدار فوق طاقتهم.. وللجغرافيا في المواقع الإستراتيجية في الكون خاصية ساحرة قاتلة، فهي بمقدار ما تمنحهم ألقا وحضورا، تجعلهم في دائرة الانتظار القدري لما يحدث في الإقليم والعالم..
يبدو ان هذا المدخل هو المناسب للحديث عما يجري بلبنان هذه الأيام، إذ أن مقتل الشيخ عبد الواحد وأحداث عكار وبيروت مع عظمه، إلا أنه يسير ضمن سياقات الاغتيالات المدوية التي برزت في تاريخ لبنان المعاصر لسياسييه وصحفييه ومفكريه وعلماء الدين فيه كأكثر سمة تطبع الحياة العامة اللبنانية، ولن يكون الشيخ المرحوم آخر من تمتد له أيدي الخفاء ..فلبنان الجزء المميز من بلاد الشام بتركيبته الطائفية القابلة للانفجار في أي وقت، يعتبر بلا شك ترمومترا للحالة السياسية والأيديولوجية للمنطقة، والصدى السريع لكل تحول فيها، حيث رماله تنزاح تبعا لريح الخارج من موقع لآخر.. ولقد أدرك أهل لبنان هذه الوضعية، واستبدادها، فانساحوا مع مقتضياتها، فجرت عليهم وبالا بعد وبال.. فعندما كانت الناصرية متألقة كان لبنان منبرا الناصرية بامتياز، وعندما كانت المقاومة الفلسطينية في أوجها كانت بيروت عاصمتها، وعندما انتصرت الثورة الإيرانية أصبحت ولاية الفقيه ورموز الثورة الاسلامية تغطي سماء بيروت والجنوب.. وهكذا فإن أردت ان تعرف وزن أية قوة إقليمية انظر الى انعكاسها في لبنان.
منذ عام ونصف، والحراك السياسي يعصف بالبلد المجاور سوريا.. انشق الموقف اللبناني تلقائيا، حزب الله وحركة أمل مع النظام، والأحزاب السنية وجمهور “أهل السنة” مع “الشعب” السوري.. صحيح أن لكل طرف مبررات لوجهة نظره، لكن مهما بلغ تنافرها كان ينبغي ان تظل مصلحة الوطن فوق اعتبارات المواقف، إلا ان اللبنانيين يتوزعون على أوطان من نوع آخر إنها الطوائف، فالطائفة هي الوطن، وزعيمها هو المرجع ذو الشرعية.. فيصبح التوجه للمواقف الحادة في تناقضها سلوكا لبنانيا غير مستهجن لاسيما في ظل ضعف الدولة المركزي لصالح مليشيات أو مراكز نفوذ اجتماعية وسياسية..
يتلاقى هذا الوضع الذاتي مع رغبة إسرائيلية غربية في تدمير معاقل المقاومة في لبنان، وقد اكتشف الإسرائيليون ان تدمير القلاع من الخارج عملية غير مضمونة فيصبح تفجيرها من الداخل الأسلوب الأجدى.. ويلعب العدو الإسرائيلي من خلال أصدقائه في المؤسسات السياسية والإعلامية المحلية والدولية على التناقضات بين المواقف اللبنانية، يضخمها، أو يحورها، أو يشوهها، مستغلا بعض مواقف لقوى سياسية في هذا الطرف، أو ذاك.
لقد دخل لبنان المعمعة، ومن غير المتوقع لسوء الحظ ان تكون العملية التي استهدفت الشيخ عبد الواحد آخر المطاف، بل ستكون زيتا إضافيا يصب فوق جمر يتقد تحت الرماد.. ولن يستقر الأمر ولو جزئيا في لبنان إلا بعد استقراره في سوريا لصالح أحد الفريقين..
لبنان كما فلسطين ليست مقررة لسياسة المنطقة، ولكن لبنان ليست كفلسطين في كسبها إجماع العرب.. فذكر لبنان لا يكفي كما لو ذكرت فلسطين، فهنا لا بد ان يلحق بها الهوية الطائفية، مما يجعلها دوما تواجه قدرها المرهق في دفع الفواتير.. ولسوء حظ البلد ان كل طائفة لها رؤيتها وأجندتها..
الآن بلد الشام في كرب شديد ويقف في مرحلة بين مرحلتين، ولئن كانت فلسطين والأردن ستتأثران بعمق بنتائج ما يجري في سوريا، فإن لبنان ستشترك فيما يجري في سوريا على قدم وساق.. ستدفع فاتورة التناحر السوري، ولكنها ستتبع نتائج هذا التصادم.
سيظل لبنان هكذا حتى تنتهي حالة التوزع الطائفي فيه، وهذه لا يمكن ان تنتهي إلا بأن يصبح لبنان عضويا جزءا من بلاد الشام الواحدة بما فيها فلسطين والأردن.. ان حل المشكلة اللبنانية بتوحدها في بلاد الشام.. فمتى تختصر المسافات؟