-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الكتابات التاريخية الكولونيالية الأولى ومحاولات مسخ الشخصية الجزائرية

بقلم: د.ليلى بلقاسم
  • 722
  • 0
الكتابات التاريخية الكولونيالية الأولى ومحاولات مسخ الشخصية الجزائرية

من أحيا نفسا واحدة كمن أحيا الناس جميعا، فكيف بمن أحيا أمة كاملة فأحيا ماضيها وحاضرها، وهذا ما ينطبق على وجود الجزائر وإبراز معالم الشخصية الجزائرية في ما قبل التاريخ وفي القديم والوسيط والحديث والمعاصر، وهو عمل يتطلب أدوات تاريخية وفلسفية ونفسية… واستقراء دقيق لحوادث التاريخ ودراسة معمقة للشخصية الجزائرية، نظير التشويه والتزييف الذي نال هذه الأمة في محاولة لإلغائها منذ الإنزال الأول لجيوش دي بورمون (De Bourmant)  في سيدي فرج 1830. فالتاريخ أحد الأركان الثلاثة التي استعملها الاستعمار الفرنسي لفرنسة الأرض والإنسان معا إلى جانب محاربة الإسلام واللغة العربية، فلقد أراد أن يخضع تاريخ الجزائر كما أخضع أرضها بإلغاء الخصائص الوطنية للتاريخ وانكسار الجغرافيا عندما اعتبر البحر الأبيض المتوسط يشق أرض فرنسا كما يشق نهر السين مدينة باريس، وهذا ما جعل الاهتمام الفرنسي بالتاريخ منذ أن وطئت قدماه أرض الجزائر بإلغاء الحقبات التاريخية التي لا تخدم مشروعه الكولونيالي في الجزائر ومن ذلك العصور الإسلامية التي اعتبرها غوتيي (Goutier)  عصورا مظلمة.

فمن 1830-1880 وبعد الخراب الذي صاحب الغزو الفرنسي للجزائر الذي نال من السجلات والوثائق العثمانية والمكتبات العامة والخاصة ومن ذلك مكتبة الأمير عبد القادر 16 ماي 1843 اثرى سقوط الزمالة بطاقين، ما شكل قطيعة إلى يومنا هذا في الدراسات التاريخية بين الفترة العثمانية والاحتلال الفرنسي، لتجند الإمكانيات المادية والبشرية والمالية لتوظيف التاريخ وفق المنظور الكولونيالي-الفرنسي في الجزائر، حيث انكب المؤرخون العسكريون بالخصوص في صفوف الجيش الفرنسي على الكتابة والتأليف، وفي سنة 1837 أنشأت وزارة الحربية الفرنسية لجنة علمية سمتها لجنة اكتشاف الجزائر التي ترأسها بوري دو سانت فانسنت (Bory De Saint Vincent)، اهتمت بالأنثروبولوجيا والتاريخ والجغرافيا والآثار… ومن الباحثين العسكريين نذكر بيليسي (Pelissier) وكارت (Carette ) ودوماس (Daumas) وسانت ارنو  (Saint Anauld وتيرملي (Trumelet)  وران (Rinn)  ولموريسيار (Lamoricière ) وراندون (Randon)… التي عكستها مذكراتهم وصفحات المجلات والنشريات والحوليات.. لتتحول الجزائر إلى مشروع ضخم لاكتشاف الجزائر من خلال جمع المادة التاريخية والشواهد الآثرية.. وكان دافع اللجنة العلمية معرفة شعب وقع في قبضة الاستعمار وترويضه وجمع المعلومات عن الخصم من أجل السيطرة والاحتلال. وهذا ما أشار إليه غوستاف مارسيي: “إن البحث العلمي سار جنبا إلى جنب مع الاحتلال العسكري وان الاحتلال العلمي قد سار إلى جنب تلقيح الأرض.”

فمن العبث أن نعتقد أن احتلال الجزائر تمّ بقوة الحديد والنار فقط، وإنما بكل أدوات الغزو الفكري من المطبعة إلى الصحيفة إلى المستشرقين فكتب هؤلاء القادة العسكريين تعد برنامجا سياسيا وعسكريا ومشروعا استعماريا، بدليل انتقال هؤلاء إلى العمل والنشاط اليومي المرتبط بالاستعمار والقمع والسلب والنهب… ومن ذلك محاولات تفتيت المجتمع الجزائري وضرب وحدته بالخصوص بين العرب والبربر. فهذان العنصران وحدهما تعرضا لعمليات جراحية محكمة في مخابر السياسة الكولونيالية الفرنسية وفي مخابر الاستشراق الفرنسي، فتقطعت وصال وبترت أعضاء… فالمتمعن في قراءاتها يجد الأحكام الجاهزة والمتشابهة في معظم الدراسات لدرجة أنّ قارئها يتوهم أن كاتبها واحد وهي التي صارت تعج بها اليوم المكتبة الوطنية الفرنسية عبر موقعها الإلكتروني “Gallica “، إلى جانب عشرات المقالات في المجلات والدوريات والجمعيات التاريخية والأثرية والجغرافية على غرار الجمعية التاريخية لمدينة الجزائر 1956 بدعم من الحاكم العام جيل كابون  (Jules Cambon) والمجلة الإفريقية (La Revue africaine )  التي تأسست سنة 1856 تحت إشراف الماريشال راندون، أبرزها ما كتب باربيجي (Berbrugger )  الذي رافق حملات الجيش الفرنسي وكان كاتبا للجنيرال كلوزال  (Clauzel)ـ وكان شاهدا على احتلال مدينة قسنطينة 1937، الذي بلورت إيديولوجيته نمطا فكريا مغلوطا لحضارة الجزائر وإرثها الثقافي، بهدف إعادة رسم الخارطة الحضارية لمتوسط لاتيني-روماني مسيحي محض، وخلق بيئة إثنية عرقية حاضنة اجتماعية للاستعمار الفرنسي، ونشرتي المجلتين الأثريتين في قسنطينة ووهران، حيث إن مواضيعها تركز على مواضيع كلها تجسد إلغاء الجزائر وإنكارها وتمجيد الاستعمار الروماني والفرنسي بما يخدم مصالح الاستعمار، التي هي اليوم تعد مادة متاحة للباحثين عبر الكثير من المواقع في النت، الكثير من باحثينا ينقلها حرفيا بعيدا عن النقد العلمي والتاريخي، متناسيا أن الغاية من تتبع ثقافة الجزائريين بالاطلاع على عاداتهم ولغتهم ودينهم وقيمهم… حتى يتسنى للاستعمار ضرب تلك القيم والقضاء على الشخصية الجزائرية وخلخلة مقومات الأمة الجزائرية والتأسيس لكيان دخيل بما يمكن من شرعنته وضمان بقاءه ووجوده.

بهذا النمط، أعيد تشكيل الجزائر تاريخيا بما يتلاءم وهدف جعل الجزائر فرنسية واعتبر عهدها النوميدي إلحاقا رومانيا وعهدها الإسلامي اقتطاعا تعسفيا، واشتدت المعركة في القرن العشرين من القرن الماضي عندما سعى منظرو الاستعمار ومؤرخوه إلى فرنسة الأرض والإنسان التي تجعل الجزائري عاجزا عن الوقوف أمام المشروع الثقافي الفرنسي، وهنا كان التعليم الفرنسي أحد عوامل التزييف وتحقير التاريخ باستعمال الكذب المفضوح، تلك البرامج التاريخية التي كانت تقدم سقوط الجزائر سنة 130 على أنه فتح  (Conquête)، وفي صورة مهينة أن سكان العاصمة باعوا الجزائر للفرنسيين في مقابل قصعة زلابية مع رسم توضيحي يمثل مجموعة من الجزائريين وقد شكلوا حلقة حول قصعة الزلابية يتنافسون على أكل ما فيها.

واستمرت الحملة ضد طمس معالم الدولة الجزائرية والشخصية الوطنية ولأجل ذلك ظهرت الكتابات الكولونيالية التي اقترنت بمرور مائة عام على الوجود الفرنسي في الجزائر سنة 1930 وكلها كتابات تعزز المشروع الكولونيالي، حيث طبع 39 كتابا ضمن السلسلة الموسومة بمجموعة ذكرى الاحتفال بالمئوية، طبعت خلالها الحوليات والكتب ونظمت المؤتمرات الأكاديمية وصيانة الآثار الرومانية بالجزائر، ولأجل ذلك أيضا انعقد بباريس سنة 1930 المؤتمر الثاني وقبله الأول بالجزائر للعلوم التاريخية، وقد حضره مؤرخون أمثال ألزار (Alzar) وايسكار(Esquer)  ولسباس(Lespes)  ومارسيي (Marçais).. اجتمعوا كلهم لخدمة الإيديولوجية الكولونيالية الاستعمارية وربطها بفرنسا وهي للأسف نفس الكتابات المنشورة في الكثير من المواقع التي تغذي بعض العقول التي تفتقد الحس النقدي والموضوعي.

ومع ذلك، تبقى هذه الكتابات بأقلام كولونيالية كما قال المؤرخ سعد الله غنيمة حرب غير مرغوب فيها كونها غنيمة مسمومة، لهذا وجب اليوم بناء تاريخ معرفي لما بعد الكولونيالية يجتهد في كشف القطيعة والانفصال وينزل إلى الفاعلين الحقيقيين تاريخ يكون بأقلام جزائرية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!