-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حالٌ لا يرضاها الله

سلطان بركاني
  • 1884
  • 0
حالٌ لا يرضاها الله

مرّت العشر الأُوَلُ من ذي الحجّة سريعا، كما تمرّ الأيام والمواسم الفاضلة، وفرح من فرح في يوم العيد بفضل الله ورحمته وتوفيقه للأعمال الصّالحة في أفضل أيام الدّنيا، بينما فرح آخرون بأضاحٍ ليس لهم منها إلا ما يأكلون.. من واجب كلّ مسلم أن تتطلّع نفسه ليكون من الصّنف الأوّل، ويخشى عليها أن تكون من الصّنف الثّاني، من الذين ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾.. لعلّ قلوب كثير منّا بسبب قسوتها استوت عندها الأشهر والأيام والليالي والسّاعات؛ فكلّها ساعات لهموم الدّنيا.. وهذا من أشدّ أنواع الحرمان الذي ابتلينا به؛ أن تمرّ الأيام الفاضلة المباركة على العبد كما تمرّ سائر الأيام؛ يسعى خلف حظوظ الدّنيا ولا يكاد يفوّت حظّا منها، وإذا سمع بفرصة يضاعِف فيها أرباحه ويزيد مداخيله سارع وزاحم وحرص، لكنّه عندما يتعلّق الأمر بالمواسم التي تضاعف فيها الحسنات وتعتق الرقاب، كأنّ الأمر لا يعنيه، قلبه لا يتحرّك ونفسه لا همّة لها في الأعمال الصّالحة.
هذه الحال التي رضي بها كثير منّا، يبغضها الله ولا يرضاها، يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾، ويقول جلّ شأنه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾.
الله تبارك وتعالى لا يحبّ لعبده المؤمن أن يكون دنيويا، قلبه مسجون في الدّنيا، ونفسه أسيرة للدّنيا، بل ويبغض سبحانه من لا همّ له ولا همّة في الآخرة، يقول النبيّ المختار -صلّى الله عليه وسلّم-: “إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب بالأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بالدنيا جاهل بالآخرة”.
نحن في زماننا هذا، لا نغبط من يحافظ على صلاته في بيت الله، ولا ننافس من يحفظ كلام الله، ولا نغار ممّن صلحت له ذريته، إنّما تتّجه قلوبنا وعيوننا وتتحدّث ألسنتنا عمّن نراه ناجحا في دنياه، ولو كان تاركا للصّلاة، ونجعله قدوة لنا.. واللهُ -جلّ وعلا- يأمرنا أن نعرض عمّن هذه حاله، فيقول سبحانه: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْم﴾.
هذه الحال، لن تبلّغنا سعادة الدّنيا ولا الآخرة، وينبغي أن نتحوّل عنها قبل أن يطبع على قلوبنا.. والتحوّل لا يعني بالضّرورة ترك الدّنيا والزّهد فيها، إنّما يعني ترتيب الأولويات في حياتنا، وتسخير الدّنيا الفانية للآخرة الباقية.. هذه الدّنيا زائلة فانية، ولن نأخذ منها معنا إلى قبورنا دينارا ولا متاعا، إنّما سنأخذ معنا أعمالنا التي يراها الله وتحصيها الملائكة وتدوّن في صحائف لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها.
كثيرا ما نسمع في سورة النّجم قول الله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى *وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾.. سعي كلّ واحد منّا يُرى؛ يراه الله سبحانه ويطّلع عليه.. يرى سبحانه أعمالنا القليلة المنقوصة وهو الذي ما خلقنا إلا نعبده، ويرى معاصينا وتقصيرنا وغفلتنا كلّ يوم.. يرى ساعات أيامنا الخالية من أيّ طاعة.. يرى صلاتنا التي نصليها مسرعين وننقرها لنتخلّص منها ونتفرّغ لدنيانا.. يرانا وقد نسينا الصّيام بعد رمضان.. يرى مصاحفنا التي هجرناها حتّى علاها الغبار.. يرى ويسمع ألسنتنا التي تتحرّك بالدّنيا وبهمومها وتغفل عن ذكر الله وشكره.. يرى أقدامنا التي تسعى كلّ يوم إلى الأسواق والمقاهي ذهابا ومجيئا، ولا تتحرّك إلى بيوته إلا قليلا.. يرى أيدينا التي تبذل الأموال كلّ يوم في المطاعم والمشارب، ولا تَبذل في إطعام الفقراء والمساكين وبناء بيوته قليلا ولا كثيرا.. يرى عيوننا الزّائغة التي تنظر إلى الحرام، ولا تنظر في كتابه ولا تتأمّل ملكوته ولا تبكي من خشيته…
هذا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- يبيت الليل قائما بين يدي ربّه، ويعيش نهاره زاهدا في الدّنيا مقبلا على الآخرة، ومع ذلك يبكي ويقول: “آه من قلة الزاد وبعد الطريق”، فماذا نقول نحن؟! أحد الصّالحين كان يقول: “لو عُرضت أعمالنا على سباطة ما قبلتها”، أي: لو عرضت أعمالنا على المكان الذي ترمى فيه النفايات والأوساخ ما قبلتها؛ فماذا نقول نحن؟!
إنّنا نعيش مهلة قد لا تطول، وكلّ من أمهل ومتّع بالصحّة والعافية فهو في نعمة.. رحمة الله وفضله ومغفرته لا يخلو منها زمان ولا مكان؛ فلنعلن التوبة إلى الله، وليعزم كلّ واحد منّا أن يقلع عن غفلته وتقصيره وذنوبه، عن إضاعة الصّلاة واتّباع الشّهوات، وليبيّت النية على أن يري الله من نفسه خيرا فيما بقي من عمره، لعلّه سبحانه يريه من هدايته ومغفرته ورحمته وفضله ما يدهشه: ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا﴾.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!