الريّ الذكي.. نهضة زراعية في الجزائر

باتت مسألة المياه، في ظل التغيّرات المناخية والجفاف، في قلب التنمية المستدامة، فشح سقوط الأمطار الذي تشهده الجزائر في السنوات الأخيرة، على غرار المنطقة المتوسطية، تجعل من توفير الماء ضرورة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإنتاج الغذاء والسلامة البيئية والإيكولوجية.
ولأن التكنولوجيا أصبحت توفّر خططا وتدابير للحفاظ على البيئة، والتقليص من الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية، فقد أضحت ضرورة لترشيد السقي، والتقليص من هدر المياه، والجزائر مهتمة جدا بتوظيف التكنولوجيا الحديثة في تحقيق أمن الموارد المائية.
وفي هذا السياق، كشفت عدة جهات أجنبية ومحلية لـ”الشروق”، مهتمة بمشاريع الري الذكي واستعمال التكنولوجيات الحديثة في الحفاظ على الموارد المائية في الجزائر، عن خطوات أولية فعّالة، وآليات جديدة وصفقات، لبداية نهضة تكنولوجية في عالم الزراعة ومواجهة شح الأمطار وترشيد الري.
إعطاء الضوء الأخضر لمشاريع تكنولوجية واعدة
وحول هذا الموضوع، أكد مدير منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لشركة “لينسي”، المهندس، أنس شاهر برهم، لـ”الشروق”، أن الجهات الرسمية في الجزائر أعطت لشركة “زيماتك” إحدى شركات” لينسي”، الضوء الأخضر لبدء مشاريع استعمال التكنولوجيا في الجنوب وبعض المناطق الأخرى. وقال شاهر برهم، إن المشروع القديم لشركة “زيماتك” المتواجد في الصحراء الجزائرية بأدرار والمتعلق بالري المركزي المحوري، سيزوّد بتقنيات التكنولوجيا الجديدة، بينها غرف تحكم رقمي لترشيد مياه السقي في المساحات الفلاحية الشاسعة.
وأوضح أن هذا المشروع الفلاحي اسمه “النهضة”، وتوجد مشاريع أخرى صغيرة لذات الشركة في مناطق متفرقة من الجزائر، حيث تخضع كل هذه المشاريع حاليا للتطوير بالتقنية الذكية، تزامنا مع جهود جزائرية بتوفير تدفق الأنترنت والربط بالأجهزة المتطوّرة في المجال الرقمي والتكنولوجي.
وأكد أن مساحة كل جهاز ري، متحكّم فيه تقنيا عن بُعد، هي 30 هكتارا والعدد الإجمالي للأجهزة الخاصة بالري المركزي المحوري، المزوّد بالتكنولوجيا، هو 200 جهاز، مشيرا إلى أن شركة “زيماتك” سترسل، قريبا، فنيين وخبراء تقنيين إلى الجزائر، للكشف النهائي عن كل الاحتياجات والظروف المحيطة، ومن ثمّ، البدء في المشروع.
تقنيات حديثة لاقتصاد مياه السقي وترشيدها
وقال محدثنا، إن شركة “زيماتك” لديها براءة اختراع بتسجيل أول جهاز ري ذكي متكامل تم إطلاقه في الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا يبعث، بحسبه، عن التفاؤل بتحقيق الجزائر طفرة نوعية في مستقبل الزراعة الذكية.
وأضاف موضحا: “أن إدارة الري عن بُعد مرورا بآلات الري المحوري المركزي، هو توفير للماء والطاقة والجهد المبذول والمال”، والري الذكي هو ذلك النظام المطبّق لترشيد استغلال المياه وزيادة عملية المحاصيل، وتسمح أيضا بالتحكم فيه عن طريق الأرصاد الجوية وأجهزة الاستشعار، حيث ترصد العوامل المناخية كالأمطار والرياح والرطوبة والحرارة من خلال تقنيات هذا الري.
وقال إن التكنولوجيات الجديدة شجّعت الشباب على الزراعة خاصة بعد تطور تقنيات التحكم والمراقبة عن بُعد، حيث أن جهاز الري المحوري يمكن التحكم فيه بنقرة هاتف، أو باللوحة الإلكترونية، كما أشار إلى أن 30 هكتارا من المساحات الزراعية تأخذ جهدا كبيرا لإطفاء فقط الأجهزة في حال استعمال الري التقليدي، علاوة على ضياع 150 ألف لتر ماء لجهاز الري الواحد في الساعة، وبتكلفة 100 كيلواط لي الساعة.
ومن جهته، قال ممثل شركة “اتلونتيس” التركية، المدعو Ejder koku، إن منظومة الرش المحوري المركزي في الصحراء الجزائرية مثل تمنراست ووادي سوف، والمنيعة، ستفتح آفاقا واسعة في قطاع الفلاحة الجزائرية، وتوفّر الكثير من المياه التي كانت تهدر في أقل المساحات، مؤكدا أن للشركة التركية مشاريع مستقبلية لزيادة معدات الري الذكي في الجزائر.
ويرى أن أجهزة الري المركزي المحوري لشركة” اتلونتيس”، ستكون متوفرة مع قطع غيارها، مع توفير أجهزة التحكم عن بُعد، وتقنيات ذكية لدراسة كل الظروف قبل سقي المحاصيل في مساحات شاسعة.
هدر 8 آلاف متر مكعب في الهكتار سنويا في الري الفلاحي
وحول ذات الموضوع، أكدت الخبيرة والباحثة الجامعية في المياه، نوال باغلي مرابط، أن مستقبل الموارد المائية مرهون بعدة تحدّيات بينها استغلال تصفية المياه القذرة في الري الذكي، لتبقى تحلية مياه البحر موجّهة فقط للشرب، حيث حان الوقت، بحسبها، لاستعمال ما يسمى بـ”مستشعرات آلية” تتحكم في تقنيات توزيع مياه سقي المحاصيل حسب احتياجاتها ونوعيتها، والفترة الموسمية.
وأفادت أن 80 بالمائة من المياه القذرة المصفاة، والتي تبذل عليها أموال، تهدر ولا تستعمل بطريقة عقلانية في الري الفلاحي، “فالاقتصاد التدويري ليس معناه تضييع النتائج الأخيرة هكذا، دون استغلال كلي لما تحصلنا عليه”.
وفي السياق، أكد البروفيسور أحمد كتّاب، خبير دولي في الماء والبيئة، أن الدراسات والبحوث حول الموارد المائية، توصلت إلى أن 8 آلاف متر مكعب من المياه في الجزائر تضيع سنويا في الهكتار الواحد بسبب الري التقليدي، وأن 50 بالمائة من المياه المستعملة في الري “قطرة بقطرة”، تضيع ولا تستفيد منها المحاصيل.
وقال كتاب إن الـ81 سدا للماء الموزعة حاليا عبر مناطق جزائرية، مهيأة لسعة 9 ملايير متر مكعب من الماء، في حين أنها حاليا، مع شح الأمطار، لا تحوي سوى على 30 بالمائة من هذه السعة، مع العلم “أننا نحتاج، وحسب بعض الدراسات المتخصّصة في بحوث الماء، إلى 10 ملايير متر مكعب من الماء”.
وأشار أحمد كتاب، الذي يشغل أيضا منصب رئيس الأكاديمية الفرنسية للماء وعضو مؤسّس للمجلس العربي للماء بمصر، إلى أنه خلال الفترة ما بين 2024 – 2025، “ستنجز 5 محطات تحلية جديدة توفّر لنا 300 ألف متر مكعب في اليوم من الماء، أي بمجموع مليون ونصف مليون متر مكعب يوميا من الماء، وخلال الفترة 2025 و2030، تصبح 6 محطات لتحلية مياه البحر جاهزة، وكل واحدة توفّر 300 ألف متر مكعب في اليوم من الماء أي زيادة مليون و800 متر مكعب في اليوم، ومع مطلع 2030، يمكن توفير 5.6 مليون متر مكعب من المياه المحلاة في اليوم أو بمعدل ملياري متر مكعب في السنة”.
وأوضح محدثنا، أن كل هذه الأرقام حول الزيادة في كميات المياه المصفاة لا يعني أن مستقبل الموارد المائية مضمون، لأن هذه الإنجازات مرهونة بعتاد مستورد من 5 دول، فالأغشية الخاصة بتصفية مياه البحر والتي تحتاجها محطات التصفية، غير جزائرية الصنع وتستبدل من حين إلى آخر، “حيث يفرض علينا ترشيد الري الفلاحي تحدّيات تكنولوجية لتوزيع الماء بعقلانية”.
مطلب باستحداث مجلس أعلى للأمن المائي
وما يبعث، حسب كتاب، على التفاؤل، هو أن توزيع مياه البحر بعد تحليتها يمكن أن يصل على مسافة 300 كلم، مع العلم، بحسبه، أن المشاريع الأولية، تفيد بأن تحويل هذه المياه إلى مدن داخلية في حدود 150 كلم، حيث ستستفيد ولاية المدية، قريبا، من مياه البحر المصفاة، وكذلك منطقتي تنس وتيبازة.
وفي ذات السياق، جدّد الخبير الدولي، أحمد كتّاب، مناشدته للسلطات العليا لتحقيق مطلبه المتعلق بإنشاء مجلس أعلى للأمن المائي، وأن يكون تحت الرعاية المباشرة لرئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون.
وقال إن المساحات الفلاحية الخاصة ببعض المحاصيل مثل الطماطم وبعض الخضروات، في حاجة إلى المياه، وفي الكثير من الأحيان تضيع كميات كبيرة في أراضيها من خلال استعمال الري التقليدي للفلاحين وحسب مزاجهم، حيث أصبحنا، حسبه، ملزمين بتحقيق الحفاظ على الأمن المائي من خلال استعمال التكنولوجيات الحديثة، في كل الجوانب المتعلقة بهدر المياه.
مزارع نموذجية ذكية للتقليل من هدر مياه الري
وإلى جانب الجهود المبذولة للحفاظ على الموارد المائية، بدأت تنتشر في الجزائر فكرة المزارع الذكية والنموذجية، التي تقوم على أساس عمليات ميكانيكية، تقلل هدر مياه الري وتوفّر نسبة كبيرة، وهو ما يسّهل عمل الأجيال القادمة.
ولمعرفة كيفية عمل هذه المزارع الذكية، أوضح الدكتور محمد عباس، مدير مركز تنمية الأجهزة الشمسية ببواسماعيل بولاية تيبازة، لـ”الشروق”، أن ملحقة المركز بشرشال خاضت أول تجربة للري بالتحكم الآلي عن بُعد، ومن خلال منظومة تعتمد على نظام الجدولة الآلية بواسطة أجهزة استشعار لرطوبة التربة، ويسمح هذا النظام بمعرفة نسبة المياه التي تحتاجها التربة استنادا إلى نسبة الرطوبة في التربة ومعرفة احتياجات الري للمحصول الزراعي، وبحسب المواسم، ونوع المحصول عبر مجسات لا سلكية تراقب درجة الحرارة، ورطوبة التربة وكمية المياه المطلوبة.
مستقبل واعد للجزائر في التكنولوجيات الزراعية الحديثة
وأكد محمد عباس، أن المزرعة الذكية بالحمدانية بشرشال، أنجزت من طرف باحثين يمكن التحكّم فيها عن بُعد عن طريق الهاتف النقال أو اللوحات الإلكترونية، وهي نموذجية لا تتعدى مساحتها الهكتار الواحد.
وتحتوي المزرعة الذكية، بحسبه، كمرحلة أولى، على محطة للطاقة الشمسية، وبيت بلاستيكي لأشجار مثمرة مثل الليمون، وتراقب من بعيد عن طريق غرفة التحكم عبر إدخال آليات الذكاء الرقمي.
ويرى أن الجزائر ذاهبة نحو إمكانات كبيرة في التكنولوجيا الحديثة في مجال القطاع الفلاحي، والموارد المائية، وهي كفيلة، حسبه، بأن تقود التنمية المحلية في القطاعات المتجدّدة، وموازنتها بين القطاع الفلاحي والطاقات المتجدّدة، كحتمية وطنية ودولية لمواجهة تقلبات المناخ.
وكشف أن هناك مرحلة جادة وحاسمة سيخوضها مركز تنمية الأجهزة الشمسية ببواسماعيل، لتكرار عدة نماذج للمزارع الذكية، وذلك بالشراكة مع باحثين من ألمانيا، وهو هدف تعميم قيمة مضافة للفلاحة والطاقات المتجدّدة في الجزائر، مؤكدا أن هناك أبحاثا كثيرة للمركز حول المساهمة في التنمية المستدامة، خاصة أن الجزائر من بين الدول الفاعلة في تحقيق توصيات الأمم المتحدة للتنمية المستدامة .
وعلّق مدير تنمية الأجهزة الشمسية ببواسماعيل، قائلا: “عندما تكون الأمطار قليلة، فإن الري الذكي يعتمد على صورة كاملة للتنوع عبر العملية الخاصة بالمزارع من خلال اتخاذ قرارات أفضل، قصد تحسين التجانس ووضع الماء في المكان الذي يناسبه”.
للإشارة، فإن الري يستهلك 70 بالمائة من المياه العذبة عالميا، وفق منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “الفاو”، وبالمقابل، فإن حوالي 2.2 مليار شخص يفتقر إلى مياه الشرب الآمنة، وفق الأمم المتحدة.