الكيمياء… إصلاحها بات ضروريا

تنكبّ هذه الأيام المدارس العليا على إصلاح مناهجها التعليمية. وقد وقَعَت هذه المدارس قبل سنة في خطأ جسيم يتمثل في تقزيم دور الكيمياء أكثر مما كان مقزّما. وذلك بإزالة قسم الكيمياء وضمه إلى قسم الفيزياء تحت مسمى “العلوم الفيزيائية”… رغم أنف وصرخات الكيميائيين. وتحجج القوم عند الإقدام على هذا القرار بكون مرحلة التعليم الثانوي تعرف هذا التوجه حيث أن هناك مادة يدرّسها أستاذ واحد تشمل مادتي الفيزياء والكيمياء تحمل اسم “العلوم الفيزيائية”. وفي ذلك ظلم كبير للكيمياء وأهلها ولمستقبل البلاد. فمن المعلوم أم الفيزياء متغلبة عن الكيمياء في هذا المسمى المشترك. والتوجه العام عندنا في الجزائر منذ الاستقلال -ونحن نقلّد في ذلك فرنسا- هو تغليب الفيزياء على الكيمياء في التعليم الثانوي.
لماذا نتبع ضلال النموذج الفرنسي؟
أدى هذا الخيار الذي أكل عليه الدهر خلال العقود الماضية إلى ميول الطلبة في المدارس العليا للأساتذة إلى اختيار نيل شهادة من قسم الفيزياء وليس من قسم الكيمياء. وصار أغلبهم يحملون هذه الشهادة مقارنة بحملة شهادة الليسانس في الكيمياء. وبطبيعة الحال، فتداعيات ذلك خطيرة إذ نجم عنه إهمال لمادة الكيمياء ضمن تدريس مادة “العلوم الفيزيائية” فضلا عن التوجه الأعرج للمناهج السارية المفعول.
في فرنسا -كما هو الحال عندنا- يقوم أستاذ واحد بتدريس مادتي الفيزياء والكيمياء في المرحلة الثانوية. لكن هذا النموذج ليس شائعًا عالميًا، بل العكس هو الصحيح، حيث تعتمد معظمالدول -خصوصًا في العالم الأنكلوساكسوني، وأوروبا الشرقية، وآسيا وأمريكا اللاتينية- نظاما يفصل بوضوح بين تدريس الفيزياء والكيمياء يقضي بتدريس كل تخصص من قِبل أستاذ متخصص. من هذه الدول نذكر كندا، الولايات المتحدة، بريطانيا، ألمانيا، هولندا، السويد، النمسا، سويسرا، إيطاليا، بولندا، رومانيا، روسيا، البرازيل، الأرجنتين، المكسيك، الصين، اليابان، كوريا الجنوبية، سنغفورة… بل كثير منها يفصل بين المادتين ويعيّن أستاذا لكل مادة منذ المرحلة المتوسطة.
من المفيد أن نشير إلى أن “برنامج التقييم الدولي للتلاميذ” (PISA) اختبار عالمي ترعاه منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) مرة كل 3 سنوات، ويهدف إلى تقييم كفاءات التلاميذ البالغين من العمر 15 سنة في ثلاثة مجالات رئيسية (القراءة، الرياضيات، العلوم) وقياس مدى قدرة التلميذ على تطبيق ما تعلمه في المدرسة. كما تتم مقارنة المنظومات التعليمية عالميًا من حيث الفاعلية والجودة، مع تقديم إرشادات وبيانات تساعد صانعي القرار في إصلاح السياسات التعليمية في كل دولة. وتشارك في هذا الاختبار أكثر من 80 دولة، منها بعض البلدان العربية. ولا يقيس هذا الاختبار مستوى الحفظ أو التلقين، بل يركز على التفكير النقدي، وما يعرف في التعليمية بحل المشكلات، والفهم والتطبيق.
أظهر هذا التقييم في سنة 2022 أن فرنسا حصلت على487 نقطة في العلوم، وهو رقم أعلى بقليل من المتوسط العالمي (الذي يعادل 485)، بل أظهر تراجعًا مقارنة بعام 2018 حيث حصلت فرنسا آنذاك على 493 نقطة. ومقارنة مع دول غربية أخرى، نجد فرنسا بعيدة جدا مثلا عن بريطانيا وألمانيا وفنلندا وبولندا. هذا يعني أن فرنسا متأخرة مقارنة بعدة دول أوروبية وأمريكية في مجال العلوم.
ويؤكد هذا التأخر اختبار “الاتجاهات الدولية في دراسة الرياضيات والعلوم” (TIMSS) الذي يُجرى كل 4 سنوات لتقييم التحصيل العلمي في الرياضيات والعلوم لتلاميذ السنة الرابعة من المرحلة الابتدائية والثانية أو الثالثة من المرحلة المتوسطة، إذ صنّف فرنسا عام 2023 في المرتبة الأخيرة بين دول الاتحاد الأوروبي، وقبل الأخيرة بين دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، متقدمة فقط على دولة تشيلي. هذه النتائج تُبرز مشاكل هيكلية عميقة في نظام التعليم الفرنسي، خاصة في تدريس العلوم ومنها مادة الكيمياء.
تشير هذه النتائج إلى أن فرنسا تواجه تحديات كبيرة في تدريس العلوم على مستوى التعليم الثانوي. ومن بين أسبابها الظاهرة اعتماد أساليب تدريس تقليدية غير مناسبة. ولتحسين الوضع، تُوصَى فرنسا بتعزيز تكوين الأساتذة المتخصصين في العلوم، وتحديث المناهج لتكون أكثر تفاعلية وتجريبية، والاستثمار في الموارد التعليمية والمختبرات الحديثة.
ولهذا كله نتساءل ما هو مبرر الجزائر في مواصلة الاقتداء في مجال المناهج العلمية بالنمط الفرنسي الذي يشكو فشله أكثر فأكثر؟
إعادة الاعتبار للكيمياء في مناهجنا التعليمية
إن نظرة سريعة على المكانة التي تحظى بها الكيمياء في الدول المتقدمة -إذا استثنينا النمط الفرنسي الشاذ- يؤدي بنا إلى الاقتناع بأن من واجبنا في الجزائر إعادة النظر في تدريس مادتي الفيزياء والكيماياء في المرحلة الثانوية.
ومن التوصيات التي يراها الخبراء -على ضوء مايجري في معظم البلدان المتقدمة- نذكر وجوب أن يكون هناك أستاذان متخصصان لمادة العلوم الفيزيائية، أحدهما في الفيزياء والآخر في الكيمياء. فمن مزايا النموذج الذي يعتمد على أستاذين متخصصين مختلفين تَمكُّن كل أستاذ من متابعة التطورات الخاصة بمجاله وتقديم محتوى أكثر دقة وحداثة. كما يسمح هذا النمط باتاحة فرصة إبراز خصوصية كل مادة: تختلف الفيزياء والكيمياء في منهجياتها التفسيرية والتجريبية، وفي نماذجها التمثيلية.
وعلينا ألا ننسى بأن الأستاذ المتخصص والحريص على حسن تدريس مادته (فيزياء كانت أو كيمياء) سيكون أكثر قدرة على تحفيز التلاميذ وتشويقهم إلى المادة المدرسة، خصوصًا في المرحلة الثانوية. ويرى الخبراء أن أبرز المحاور التي ينبغي التركيز عليها في منهاج الكيمياء في المرحلة الثانوية هي: أ) تنمية ثقافة كيميائية أساسية، ب) جعل التجريب في قلب عملية التعلم، جـ) إدماج قضايا العصر. ويتكون هذا المحور من 3 عناصر: 1) الكيمياء والبيئة (التلوث، معالجة المياه، الطاقات المتجددة، الكيمياء الخضراء)، 2) الكيمياء والصحة (الأدوية، الجزيئات النشطة، عمليات التمثيل الحيوي)، 3) الكيمياء والمجتمع (الأخلاقيات، الصناعة، المواد الجديدة). وهذا فضلا عن محور تنمية المهارات الخاصة بقراءة المعادلات الكيميائية وتفسير البيانات والربط بين المشاهدات.
إن ما ينبغي أن يدركه أصحاب القرار الموضوعي في وزارة التربية هو أن مادتي الفيزياء والكيمياء أصبحتا أكثر تعقيدًا، ولكل منهما محتوى ومنهجية وأهداف مختلفة. والأساتذة الذين يتم تكوينهم في “العلوم الفيزيائية” يكون لديهم غالبًا تخصص مهيمن (في الغالب تخصص الفيزياء) على حساب المادة الأخرى. ولذا فوجود أستاذ متخصص في كل مادة يضمن كفاءة أعلى وتحكمًا أعمق في المحتوى العلمي، خاصة في المسارات العلمية والتقنية.
ومن ثمّ نضمن جودة التعليم العملي لأن الكيمياء تتطلب مهارات تجريبية خاصة. ولا شك أن وجود أستاذ متخصص في الكيمياء سيتيح تقديم تعليم مخبري فعّال وآمن، وفقًا للمعايير الدولية، ويساعد ذلك على تهيئة أفضل للتلميذ عندما ينتقل إلى التعليم العالي. فطلبة الاختصاصات العلمية والطبية يحتاجون إلى إتقان المفاهيم، والمنهجيات الخاصة بكل مادة.
ولا ينبغي أن ننسى بأن الأستاذ مطالب في كل مراحل التعليم بتحديث معلوماته في اختصاصه، والأستاذ المتخصص سيكون أكثر قدرة على تحديث معارفه العلمية والاندماج في التكوين المستمر وتطوير أساليب تدريس ملائمة لمادته. وهذا يؤثر على التحصيل العلمي للتلميذ.
إذا ما تبنت وزارة التربية هذا النمط، وهذا ما ندعو إليه، يمكن أن تطبقه بشكل مرن وتدريجي بعد مراجعة المناهج بالشكل المعمول به عالميا. فمن بين أساتذة مادة العلوم الفيزيائية هناك من يحمل شهادة في الكيمياء (من المدارس العليا أو الجامعات). تستطيع الثانويات أن ترى مدى إمكانية التصرف محليا وتعيين أستاذ للفيزياء وأستاذ آخر للكيمياء حسب مخرجات تكوين كل أستاذ. على أن يتواصل هذا السعي تباعا. وهذا لا يتطلب إعادة هيكلة جذرية، بل هو بمثابة عملية إعادة ضبط في التكوين والتوظيف بناءً على الحاجيات المستقبلية. نتمنى أن يجد هذا النداء آذانا صاغية.