-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بعد سقوط الأسد.. سوريا إلى أين؟

بعد سقوط الأسد.. سوريا إلى أين؟

لاشكّ أن سقوط النظام العلوي في سوريا لم يكن أمرا مفاجئا بمعايير السنن الحضارية للاجتماع الإنساني، بالنظر إلى الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها عائلة استبدادية، تمثّل أقلية محدودة جدا ضمن النسيج الاجتماعي والسياسي، لكنها احتكرت السلطة بالحديد والنار أكثر من نصف قرن، مستندة إلى تحالفات طائفية وأخرى دوليّة ضمن موازين لعبة صراع الأمم في المنطقة.
لم يكن نظام عائلة الأسد، وكل نظام عربي شبيه لها من قبل، يستحق البقاء جاثما على صدر شعبه المقهور، يقطع أنفاسه وأشواقه على طريق التحرر من نير الظلم، وهو يتطلع إلى عصر جديد من الحرية والازدهار.
غير أن ذلك لا يعفي المراقب الموضوعي من فتح عينيه على حقائق أخرى مرتبطة ارتباطا وثيقا بالحدث الكبير، تتصل خاصة بالتوقيت وطريقة الانهيار ودور الفاعلين الدوليين والإقليميين والتزامن مع “طوفان الأقصى” وانسحاب روسيا وإيران و”حزب الله” من المعركة، وغيرها من المؤشّرات التي تطرح علامات استفهام بارزة، تحيل المتابع إلى مساحات رمادية واسعة، يصعب ملؤها في الوقت الحالي، بل تبقى في حاجة إلى أخذ مسافة زمنية لقراءة المشهد بشكل سليم، مثلما عرفته التجارب التاريخية والجغرافية في كل الوقائع المفصلية من هذا النوع “الفوق-دولتي”.
لأجل ذلك، يصبح من الواجب العقلاني الآني، ومسؤولية الشعب السوري وفصائل المعارضة وكل المتحمسين لمشروعها والمتبنين لها، تحقيق التوازن الإلزامي بين كره الأسد وحبّ سوريا، لأنّ شعرة الميزان بينهما دقيقة جدا، والتجارب العربية المريرة التي رافقت الثورات والانتفاضات الإقليمية تبعث الهواجس المشروعة، وقد لا تكون أرض الشام استثناء معجزا في ذلك، بالنظر إلى مؤشرات ميدانية متعاضدة.
اليوم صار الأسد ونظامه جزءا من ذاكرة المعاناة السورية، ورحيله غير مأسوف عليه، بل إنه كان، من حيث المبدأ، مبتغى كل الأحرار، لكن السؤال المشروع: إلى أين تتجه سوريا بعدهما؟
طرح السؤال الصريح ليس نوعا من الاعتراض المبطَّن على سقوط حاكم أذاق شعبه سوء العذاب، بل لاستشراف مصير بلد محوريّ ضمن كيان الأمة العربية، يظلّ، في الآن نفسه، محل استهداف وأطماع فواعل مركزية كبرى في العالم والإقليم.
لا نريد للشعب السوري أن يدفع ثمن صراع الثيران ومصالح الدول الإقليمية المتطاحنة خارج أراضيها، لتتحوّل سوريا إلى بؤرة نزاع مفتوح ودولة فاشلة، على غرار ليبيا واليمن وقلبهما العراق وأفغانستان، حيث ينقلب نشاط المعارضة إلى حرب أهلية نازفة حتى إشعار آخر، لأنّ وقوف هؤلاء الفاعلين خلف الفصائل المسلحة ليس لسواد عيونها ولا لنصرة المظلومين ولا دعما للديمقراطية، بل لهدف التخلّص من نظام الأسد وتغيير موازين المنطقة ثم التهيؤ لمرحلة الإعمار والاستثمار لاحقا في الاقتصاد السوري.
ستبدأ الآن المرحلة الأصعب في مسار الانتفاضة السورية، وهي إعادة بناء الدولة وتنظيم الحكم المؤسّساتي والانتقال السّلس للسلطة على أسس ديمقراطية، في بلد يضمّ تركيبة مجتمعيّة ملغمة، من ناحية المكونات الطائفية والعرقية والدينية، ناهيك عن ترسّبات نفسية عميقة موروثة عن عهد القمع والاستبداد منذ ستينيات القرن العشرين.
الاستحقاق خطير جدا أمام الفصائل السورية في الحفاظ على ممتلكات الدولة السورية أوّلا، خلال الأسابيع والأشهر الأولى من سقوط النظام، ثم استئناف إعادة البناء الوطني على قواعد القانون والمواطنة والعدالة والحرية والتعدّدية، مع مراعاة شروط المراحل الانتقاليّة الثوريّة ومقتضيات المصالحة الوطنية الجامعة والتنازلات الجماعية والمفاوضات السياسية، بعيدا عن منطق القوّة وروح الهيمنة أو الثأر والانتقام التي لا تليق بقادة الدول الجدد.
نحن هنا لا نقدّم دروسا وطنية لأحد، ولا شك أن النخب السورية واعية ومدركة تماما لمستوى الرهانات المقبلة عليها، لكننا لا نذيع سرّا إن قلنا إن كل الفصائل ترعاها دول إقليمية وتموّلها بالمال والسلاح وكل شيء، فهي غير معنية بمصالح الشعب السوري بل بأجنداتها الخاصّة، وهذا أكبر خطر يهدّد مصير الثورة، لأنه يضعها في حلبة التنازع المادي على سلطة البلد ومقدراته.
هذا هو المحك والامتحان النهائي الذي سيثبت انتفاضة السوريين على قائمة ثورات الحرية والديمقراطية والكرامة مستقبلا، أو يدرجها على خانة المؤامرة الكونية على دمشق، وهي المعادلة الحرجة التي ظلّت كل الأطراف تتقاذف بشأنها الاتهامات والتحليلات منذ 13 سنة، وكل فريق يدفع بحججه الدامغة على صواب موقفه، وكلاهما يحوز من الدلائل القوية ما يسند تحيّزه للنظام العلوي أو ضدّه، على خلفية تقاطعات كثيرة وتداخلات وقعت بين رغبات الثائرين وأطماع الخارجيين، وهو ما أجّل حسم الملف السوري إلى 2024، ولا ندري يقينا إلى أين تتجه الأمور الآن؟
بصراحة، الخطابات الأولية تطمئن المهموم بمآل سوريا على نهاية آمنة لمسار ثوري هو الأطول عربيا والأكثر تعقيدا في الساحة الإقليمية، لكن الواقع قد يكون مختلفا جذريا، لذلك، ستكون المسؤولية التاريخية ثقيلة في أعناق زعماء الفصائل وكل أطياف النخبة السورية، أما الأطراف الأجنبية، فلا يرتجى منها خير يخالف مصالحها الإستراتيجية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!