-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

 تحوّل فيتنام الاستراتيجي.. من لعنة الحروب إلى معجزة النمو والصادرات

سيف الدين قداش
  • 1963
  • 0
 تحوّل فيتنام الاستراتيجي.. من لعنة الحروب إلى معجزة النمو والصادرات
أرشيف
فيتنام

لُقِّبت أرضها بقاهرة الإمبراطوريات، فهي من أذلَّ الفرنسيين في معركة ديان بيان فو، وأخرجتهم خائبين من أرض الهند-الصينية في ربيع 1954، بعد هزيمة مرَّغت عظمة فرنسا في التراب، ولأن أحجار دومينو الشيوعية، كما روَّجت أمريكا، لن يوقفها سوى دعم جنوب – فيتنام المقسَّمة-، فقد بدا بعد ذلك أن الجبروت الأمريكي، الذي دخل أرض فيتنام برجليه، قد خرج صاغرا بسواعد رجال هوشي منه، الذي قضى جيشه المتسلِّح بعقيدة “الكاميكاز” على 58 ألف جندي أمريكي عالي التسليح، كادت بلادهم أن تستعمل السلاح النووي أمام الصمود والتحدي الأسطوري للفيتونج.

ولأن النصر على الأمريكيين عام 1974 كان كبيرا، فقد كانت كذلك مهمة الإعمار والإصلاح كبيرة، لبلد ضحّى من شعبه بين مليونين إلى ثلاثة ملايين شخص، ودُمّرت أرضه، ونال من اقتصاده الخراب والانهيار، بينما فرض وحدته بقوة السلاح عام 1975. لكن لا شيء يصعب على شعب يملك الإرادة، فقد قال نغوين فان لين، مهندس سياسة التجديد الاقتصادي في فيتنام “التجديد يجب أن يبدأ من مجال التفكير، وقبل كل شيء التفكير الاقتصادي، وتجديد التنظيم والكوادر، وأسلوب القيادة والعمل” فقد عادت فيتنام من الحرب والعزلة، جائعة ومحاصرة، لتصبح اليوم من بين أفضل وأقوى اقتصاديات آسيا والعالم، فكيف يا ترى صنعت فيتنام نهضتها من رماد الحرب؟

فيتنام من الداخل

عُرفت فيتنام عبر مراحل التاريخ الحديث بأرض الثائرين، فلم تتوقف البلاد عن خوض الحروب إلا خلال الأربعين سنة الأخيرة، حيث خُتمت بسحب قواتها من كمبوديا عام 1989، بعد تدخلها هناك عام 1978 لإسقاط نظام الخمير الحمر، حيث تتربع بلاد هو تشي منه والجنرال فون نغوين جياب على مساحة 331690 كيلومترا مربعا، وتُصنَّف في المرتبة الـ 66 عالميا من حيث المساحة، ويُقدَّر عدد سكانها بـ 101.6 مليون نسمة وفق بيانات هيئة الإحصاء الفيتنامية لعام 2024.

وتحتل فيتنام المرتبة السادسة عشرة عالميا من حيث عدد السكان، والمرتبة 32 في إنتاج النفط، بإنتاج يومي يتجاوز 154 ألف برميل في عام 2024، أما في مجال الغاز الطبيعي، فتأتي في المركز 45 عالميا، بإنتاج سنوي يبلغ نحو 6.32 مليار متر مكعب، أي ما يعادل 17.3 مليون متر مكعب يوميا، وفقا لبيانات رسمية.

كما بلغ معدل النمو الاقتصادي في فيتنام عام 2024 نحو 7.09 بالمائة، بعدما كان قد تراجع إلى حدود 2.9 بالمائة في عام 2020 بسبب أزمة كوفيد-19، وتمكنت البلاد من رفع مستوى الدخل الفردي بنحو 3.56 مرة خلال الفترة من 2002 إلى 2024، ليصل إلى نحو 4300 دولار أمريكي سنويا، وفق بيانات موقع “Trading Economics”.

ووصل الناتج القومي الإجمالي الاسمي لفيتنام في عام 2024 إلى نحو 476.3 مليار دولار أمريكي، وفق أرقام صندوق النقد الدولي. وتجاوزت صادراتها حاجز 405.5 مليار دولار أمريكي حسب البنك الدولي.

من رماد الحروب إلى أفق الإصلاح

خاضت فيتنام عدة حروب بلغت عشر حروب منذ عام 1940، ضد فرنسا واليابان، ثم الحرب الأمريكية التي خرجت منها جائعة ومكسورة وموحدة وقوية في نفس الوقت، لتدخل في حرب جديدة ضد الصين الشعبية، بعد مناوشات حدودية، عُرفت بحرب الهند الصينية الثالثة التي جاءت عام 1979 ردا على دخول فيتنام لأراضي كمبوديا عام 1978، والإطاحة بحكم الخمير الحُمر الذين كانت تدعمهم الصين، حيث شنت الصين حربا خاطفة داخل حدود فيتنام وسيطرت على مدن داخلها كحملة عقابية لدفع فيتنام للانسحاب من كمبوديا، لتقرر بعد ذلك بكين الانسحاب من مناطق حدودية تابعة لفيتنام، وتُعلن كلا الدولتين النصر، فيما جاءت العقوبات العسكرية والاقتصادية الأمريكية لتُكمل مسار الأزمات في بلد لم يُعالج جراحه بعد.

فقد كانت فيتنام تعتمد على تصدير الأرز، وأدى الحظر التجاري الأمريكي إلى تعميق أزمتها الاقتصادية، وعزز عزلتها دوليا مع السياسات التي اتبعها لي دوان (Le Duan)، زعيم الحزب الشيوعي الفيتنامي من عام 1960 وحتى وفاته عام 1986، الداعية إلى رفض كل ما يتعلق بتحرير التجارة وإقامة اقتصاد السوق الحُر.

واهتم دوان، وفق تقرير نُشر في The IUP Journal of Entrepreneurship Development بعنوان “جوانب ريادة الأعمال كمقدمة للتجديد الاقتصادي لفيتنام في عام 1986The Entrepreneurial Facets as Precursor to Vietnam’s Economic Renovation in 1986“، بتحسين معيشة الفيتناميين ورفع النمو الاقتصادي، من خلال خطته التنموية طويلة الأمد التي كانت تستهدف تحسين القطاع الزراعي والاقتصادي والجوانب العلمية والتقنية.

ونظرا للحكم المركزي، وفق ذات التقرير، أُجهِضت الإصلاحات الاقتصادية التي باشرها لي دوان جراء تنامي معدلات التضخم، العزلة، والعقوبات الاقتصادية التي تركت فيتنام تغرق في أزمة جوع وفقر خانقة، صُنِّفت خلالها البلاد ضمن قائمة أفقر الدول، ولم يتسنّ للنظام الفيتنامي الحاكم الاستمرار في ذات النهج، ليأتي توجه جديد لمراجعة الخيارات الاقتصادية والسياسية لفيتنام، بهدف تحقيق النمو الاقتصادي والانفتاح على ما يحدث في العالم، حيث كانت تجربة الصين الاقتصادية، التي تُوصف بـ “العدو التقليدي” لفيتنام، حافزا وتحديا نحو التحول، حيث حفزت عملية الانفتاح والإصلاح الاقتصادية الصينية، فيتنام نحو إطلاق مشروعها الإصلاحي ومسابقة الخطى لتحقيق التطور والنماء.

مؤتمر 1986.. السياسة تُراجع الاقتصاد

خلال شهر ديسمبر 1986، عقد الحزب الشيوعي الفيتنامي مؤتمره الذي يُشبه في نتائجه المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي الصيني، حيث اعترف القادة الفيتناميون بالفشل الاقتصادي للبلاد أمام التحولات الاقتصادية الدولية، وفتح المناضلون في الحزب باب النقد الذاتي سعيا لمعالجة الأخطاء والعيوب التي حالت دون تحقيق أي إقلاع اقتصادي.

وخلال المؤتمر ذاته، تم الإعلان عن سياسة التجديد والانفتاح المعروفة باسم “دوي موي- MoiDoi“، التي استهدفت إحداث إصلاح اقتصادي شامل، من خلال بناء اقتصاد متعدد القطاعات في سوق تُنظمها الحكومة، مع سعي حكومة هانوي إلى تجديد البيئة الإدارية والمنظومة القانونية، وتحسين فعالية مؤسسات الدولة التنظيمية والإدارية.

وقد أدى تبني الحزب الشيوعي الفيتنامي لهذه السياسة إلى خروج هانوي من دائرة الاقتصاد الاشتراكي المُخطط إلى اقتصاد تعددي، حيث تُعد فيتنام واحدة من أربع دول لا تزال تتبنى التوجه الشيوعي في نهجها السياسي، لكنها تبنت سياسات اقتصادية تتجه بشكل متزايد نحو اقتصاد السوق والرأسمالية.

كان الاقتصاد الفيتنامي حينها يعتمد أساسا على القطاع الفلاحي، وبخاصة زراعة وإنتاج الأرز، حيث بلغت نسبة القوى العاملة في الزراعة حوالي 70 بالمائة، وقد ساهمت العقوبات الأمريكية في تعميق عزلة فيتنام، مما دفع هذا البلد، الذي حارب قوى عظمى عدة، إلى الثورة على الفقر والجوع، بعد سنوات من الشلل الاقتصادي بسبب سياسات الزعيم لي دوان (Le Duan)، الذي رفض تحرير التجارة واعتماد اقتصاد السوق.

وقد مثّلت وفاة لي دوان نهاية مرحلة وبداية أخرى، إذ فشلت سياساته التقليدية في دفع عجلة التنمية، فيما وصلت معدلات التضخم إلى حدود كارثية بلغت 770 بالمائة، وظل الوضع الاقتصادي المتردي على حاله حتى تولّى نيجوين فان لين رئاسة الحزب الشيوعي عام 1986، وهو الحدث الذي عنّى تحولا جذريا في السياسات الاقتصادية الفيتنامية، خاصة بعدما أطلق خارطة طريق إصلاحية عُرفت عالميا باسم “دوي موي-Doi Moi“، وهي الحزمة التي دشّنت انطلاقة تجربة فيتنام الاقتصادية نحو التحوّل والسطوع.

“دوي موي”.. إصلاحات فان لين التي غيّرت وجه فيتنام

لم تكن الخطة الطموحة للتنمية التي أتى بها “فان لين” وأيّدها البرلمان الشيوعي الفيتنامي السبب الوحيد للطفرة الاقتصادية التي شهدتها فيتنام في النصف الثاني من عقد الثمانينيات، بل إنّ ميله إلى التحول التدريجي من حالة الركود إلى مرحلة النمو والرفاه قد وضع حجر الأساس لتنفيذ خطة تنمية شبه مُحكمة، قادها منذ توليه الحكم وحتى عام 1991، ومعها اعتُبر “فان لين” الشخصية الفيتنامية ذات النفوذ الأكبر حينها، وصاحب حجر الأساس في تحوّل الاقتصاد المحلي من النظام المركزي إلى اقتصاد السوق، والخروج من ربقة الاقتصاد المُخطط والمُحتكر من طرف الدولة، إذ كان “فان لين”، الملم بالنظريات الاقتصادية، يؤمن بأنّ قوة الاقتصاد لا يمكن أن تأتي من احتكار الدولة له، فتبنّى مزيجا من الحكم الشيوعي والاقتصاد الرأسمالي كتوليفة رئيسية للإصلاح.

إصلاح الأرض لتأمين الخبز

بدأ “فان لين” خطته بإصلاح قطاع الفلاحة لسدّ حاجة شعبه الغذائية بعد أزمة جوع مريرة، والمضيّ نحو تحقيق فائض إنتاج بغرض التصدير، وقد جرى ذلك من خلال إصلاح نظام تملّك الأراضي، حيث سمحت الحكومة الشيوعية لأول مرة للفيتناميين بتحديد ما يريدون زراعته وفق رغبتهم، واشترطت السلطات على الفلاحين أنه في حال أهملوا الأرض الممنوحة لهم أو تخلوا عنها، فسيواجهون عقوبة استرجاع الدولة للأرض، التي ستقوم بدورها بمنحها لمن يرغب في زراعتها، وقد مُنحت كل أسرة 3 هكتارات ضمن مخطط كبير لتوزيع الأراضي على الفلاحين، ما شكّل تحولا كبيرا بتخلي الشيوعية عن مبدأ اشتراكية تملّك الأرض واحتكار الدولة لها.

استمرت الإصلاحات الفلاحية بشكل دوري، حيث انتهت بإلغاء التعاونيات الجماعية للفلاحين عام 1988، والتي أُلغيت بشكل نهائي عام 1990، وبذلك خرجت الفلاحة تماما من يد الحكومة إلى أيدي الفلاحين، ونجحت فيتنام في غضون أربع سنوات من بداية الإصلاح التجديدي للاقتصاد، في أن تصبح ثالث أكبر مُصدر للأرز في العالم بحلول عام 1989.

من العزلة إلى جذب الاستثمارات

أدركت فيتنام أن أي تحول اقتصادي فعّال لا يمكن أن تنفذه الحكومة أو المواطنون وحدهم، دون وجود أموال وخبرات أجنبية تملك الرؤية والمعرفة والأسواق، لذلك، عمدت سياسة “دوي موي” إلى فتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية عام 1987 من خلال سنّ قانون جديد، ففتحت البلاد أبوابها من خلاله أمام تدفقات الاستثمار الأجنبي وتملّك الأجانب للأصول والأراضي للمرة الأولى، غير أن غزوها لكمبوديا والعقوبات الاقتصادية الأمريكية حالا دون تحقيق نتائج ملموسة في هذا الجانب.

إزاء ذلك، قررت هانوي الانسحاب من كمبوديا عام 1989، واتجهت نحو جعل أعداء الأمس أصدقاء اليوم، فبدأت مرحلة جديدة في علاقاتها مع واشنطن عام 1990، وتم رفع حظر السفر إلى فيتنام عام 1991، كما رُفع الحظر التجاري عام 1994، مع استمرار الحظر العسكري، وتمّت بشكل مرحلي عملية ترميم العلاقات بين واشنطن وهانوي، تكلّلت بانفتاح فيتنام على المجتمع الدولي، وفتح فصل جديد في علاقاتها الاقتصادية مع مختلف دول العالم، حتى يتمكن اقتصادها من إعادة ترميم كسوره وبناء نفسه من جديد، وفق رؤية وأهداف جديدة.

نجحت فيتنام تدريجيّا في سياسة الإصلاح والانفتاح التي انتهجتها بوضوح في تسعينيات القرن الماضي، حيث تمكّنت بفضل هذا التوجّه من جلب استثمارات أجنبية بلغت نحو 10 بالمائة من ناتجها القومي الإجمالي بحلول عام 1994، وبفضل هذا المخطط، تدعّم الاقتصاد الفيتنامي بإنشاء نحو 17 ألف شركة تابعة للقطاع الخاص، بعد إصلاح المنظومة القانونية، التي فتحت الأبواب على مصراعيها أمام المستثمرين الخواص لبناء مشاريعهم وتنميتها، وقد راجعت هانوي القوانين والتشريعات المنظمة لنشاط القطاع الخاص ابتداء من عام 1992، ليشقّ “النمر الفيتنامي” طريقه تدريجيّا للخروج من الفقر والتخلف، عبر الانفتاح على الاستثمار، الصناعة، والتجارة، بهدف التحوّل إلى مركز قوة مهم في الصناعة والتصدير.

الانفتاح على العالم

توجد فيتنام في منطقة هامة وحيوية، حيث يمتد موقعها قرب أبرز القوى الاقتصادية الكبرى في منطقة جنوب شرق آسيا، من اليابان والصين إلى الهند، مرورا بالنمور الآسيوية الصاعدة، كما توجد بالقرب من بحر الصين الجنوبي وممرات التجارة العالمية الهامة في آسيا، وبفضل ذلك استطاعت هانوي جعل نفسها قبلة للشركات والمصانع التي تبحث عن حلول أرخص من الصين وقريبة من ممرات التجارة في جنوب شرق آسيا.

فكانت الفرصة مواتية لفيتنام عام 1995 في الانفتاح أكثر على محيطها الإقليمي من خلال انضمامها إلى منظمة “الأسيان – ASEAN “، التي تضم حاليا 10 دول وأكثر من 680 مليون نسمة، وهو ما مهد الطريق لها عام 2001 لتوقيع اتفاقية تجارية متبادلة مع عدوها القديم وصديقها الجديد، الولايات المتحدة الأمريكية، فيما سبق ذلك إعادة العلاقات الثنائية بين البلدين عام 1995، وكانت علاقة العاصمتين المتوترة ببكين نقطة أخرى مهدت لرفع الحظر العسكري على فيتنام عام 2016، وأصبح متاحا بعد ذلك لهانوي أن تتسلح من واشنطن.

وفي عام 2007، وقعت هانوي اتفاقية عضويتها في منظمة التجارة العالمية “WTO”، حيث أبرمت فيتنام 16 اتفاقية للتجارة الدولية المتبادلة، تم فيها خفض قيمة التعريفة الجمركية على صادرات وواردات هانوي، كما جرى خفض متوسط الأجور وتيسير وفرة العمالة لتسهيل وجذب الاستثمارات الأجنبية.

نمو باهر

وبفضل هذه الاتفاقيات، أضحت هانوي من أبرز الوجهات الجاذبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة، التي باتت تُشكل نحو 90 بالمائة من قيمة صادرات الصناعات الفيتنامية، ونجحت فيتنام عام 2007 في أن تصبح ثالث أكبر بلد جذبا للاستثمارات الأجنبية بعد الصين والهند، وفق بيانات صندوق النقد الدولي.

ويُوجَّه معظم الاستثمار الأجنبي نحو منشآت التصنيع والبنية التحتية المرتبطة بها، ويأتي الجزء الأكبر من دول آسيوية مجاورة مثل كوريا الجنوبية، اليابان، والصين، حيث تساهم المعجزات الصناعية القديمة في ولادة معجزات جديدة في قلب الهند الصينية.

وفي ظل تراجع تدخل الدولة إلى دور المنظّم والمحفّز، اكتفت بتوفير البنية التحتية، ووضع التشريعات، وخلق بيئة تنافسية أقل بيروقراطية وأكثر جذبا، واستثمرت الحكومة نحو 8 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي سنويا في مشاريع البنية التحتية، التي شملت بناء الطرق والموانئ لتسهيل عمليات التصدير، فضلا عن المدارس والمعاهد لتكوين اليد العاملة المحلية المؤهلة، وقد أصبحت فيتنام تُسجل اليوم أعلى تصنيف في جودة البنية التحتية مقارنة بالدول ذات المرحلة التنموية المماثلة، وهي المرتبة 47 من 160 دولة على مؤشر البنك الدولي لجودة البنية التحتية.

وفيما يخص الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فقد ذكرت وزارة التخطيط والاستثمار الفيتنامية أن الخمسة أشهر الأولى من عام 2019 شهدت ارتفاعا بنسبة 69.1 بالمائة، وهي أعلى نسبة مسجلة منذ 2015، حيث تم إصدار أكثر من 1300 ترخيص استثماري بقيمة 6.4 مليار دولار، وقد استأثر القطاع الصناعي بنسبة 72 بالمائة من هذه الاستثمارات بما يعادل 10.5 مليار دولار، متبوعا بالقطاع العقاري بـ 1.1 مليار دولار.

وقد تصدرت هونغ كونغ لائحة المستثمرين بـ 5.08 مليار دولار (30 بالمائة)، تلتها كوريا الجنوبية، سنغافورة، الصين واليابان، وهو ما يعزز صورة فيتنام كـوجهة استثمارية آسيوية مفضّلة، وفي سنة 2018، كانت اليابان في صدارة المستثمرين الأجانب بـ 8.5 مليار دولار، ما يمثل 24.2 بالمائة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وحتى منتصف عام 2019، بلغ عدد المشاريع الاستثمارية الأجنبية المسجلة 28,600 مشروع بقيمة إجمالية تجاوزت 350 مليار دولار.

وقد تركزت أغلب الاستثمارات في القطاع الصناعي، الذي يُعد قاطرة النمو في البلاد، بمعدلات نمو مزدوجة الرقم على مدار العقد الماضي، بمتوسط نمو سنوي بلغ 10.6 بالمائة بين 2011 و2019، وقد كانت شركة إنتل الأميركية كانت من أوائل الشركات الكبرى التي آمنت بفيتنام، عندما استثمرت مليار دولار في مصنع رقائق إلكترونية في مدينة هوشي منه في 2010.

كما تبعتها شركات كبرى مثل “إلجي” و”سامسونغ” الكوريتين، اللتين استثمرتا 1.5 و2.5 مليار دولار على التوالي في مصانع للهواتف الذكية، وتُنتج “سامسونغ” في فيتنام واحدا من كل 10 هواتف ذكية تُباع في العالم.

وقد سبق اندفاع هذه الشركات الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، حيث كانت تبحث عن حوافز قانونية، ومنظومات لوجستية فعالة، ويد عاملة شابة ورخيصة؛ إذ أن أكثر من نصف سكان فيتنام (101.6 مليون نسمة) تقل أعمارهم عن 35 عاما، وتراوحت الأجور الشهرية بين 125 و180 دولارا، مقارنة بـ 143 إلى 340 دولارا في الصين، وكانت الأجور في شمال فيتنام أقل من ذلك.

وبين عامي 2004 و2024، تمكنت فيتنام من الحفاظ على معدل نمو سنوي يفوق 7 بالمائة، باستثناء فترات الأزمات مثل الأزمة المالية العالمية وجائحة كوفيد-19، وقد بلغ نموها الاقتصادي في العقد الأخير أكثر من 169 بالمائة بحسب صندوق النقد الدولي.

لكن الأرقام الأحدث تُظهر طفرة أكبر، فـ الناتج المحلي الإجمالي الاسمي ارتفع من 62.9 مليار دولار في 2004 إلى نحو 476.3 مليار دولار في سنة 2024، وفقا لأحدث بيانات صندوق النقد الدولي، أي بزيادة تجاوزت 656 بالمائة خلال عشرين عاما، حيث يعني هذا النمو التراكمي الهائل أن الاقتصاد الفيتنامي قد تضاعف بأكثر من 7.5 مرة في غضون عقدين فقط، ليُسجّل بذلك أحد أعلى معدلات النمو الاقتصادي التراكمي في صفوف الدول النامية خلال الفترة نفسها.

وقد شهد القطاع الصناعي في فيتنام خلال السنوات الماضية نموا سنويا متوسطا لافتا بلغ نحو 13 بالمائة، ما جعله الوجهة الأولى لرؤوس الأموال الأجنبية، حيث استحوذ على 66.9 بالمائة من إجمالي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في عام 2024 وفق بيانات وزارة التخطيط والاستثمار الفيتنامية، كما شكّل قطاعا التصنيع والبناء معا ما نسبته 81 بالمائة من التوظيف في المجال الصناعي، بما يعادل 17.4 مليون عامل ضمن إجمالي القوة العاملة في البلاد، بالمقابل سجّل القطاع الفلاحي معدل نمو سنوي بلغ 4 بالمائة، بينما حقق قطاع الخدمات متوسط نمو سنوي يُقدّر بـ 6.9 بالمائة خلال الفترة نفسها، وفق مكتب الإحصاء العام الفيتنامي.

وعند النظر إلى تدفقات الاستثمار الأجنبي في عام 2024 تحديدا، نجد أنها بلغت 25.35 مليار دولار، بزيادة سنوية قدرها 9.4 بالمائة، وهو ما يعادل نحو 16.5 بالمائة من إجمالي الاستثمار المحلي وفق تقرير وزارة المالية الفيتنامية لعام 2024، أما من حيث مؤشرات الأداء الصناعي، فقد سجل مؤشر الإنتاج الصناعي (IIP) نموا بنسبة 8.4 بالمائة، في حين ارتفع قطاع المعالجة والتصنيع الذي يُعد بمثابة قاطرة النمو الاقتصادي بنسبة 9.6 بالمائة، وهو أعلى معدل يتم تسجيله منذ خمس سنوات وفق تقرير وزارة الصناعة والتجارة الفيتنامية لعام 2024.

وتُظهر المؤشرات التراكمية أيضا مدى جاذبية الاقتصاد الفيتنامي، إذ بلغت القيمة الإجمالية للاستثمارات الأجنبية المباشرة المتراكمة في البلاد حوالي 502.8 مليار دولار منذ بداية الاصلاحات، موزعة على أكثر من 42000 مشروع استثماري حتى نهاية عام 2024، في حين وصلت الصادرات السنوية إلى 405.5 مليار دولار، منها 290.9 مليار دولار صادرة عن المؤسسات الأجنبية العاملة في فيتنام، وهو ما يُمثل 71.7 بالمائة من إجمالي الصادرات الوطنية، مع تحقيق فائض تجاري هام يُقدر بـ 24.77 مليار دولار وفق تقرير مكتب الإحصاء العام الفيتنامي وإدارة الجمارك الفيتنامية لعام 2024.

من جهة أخرى، يُعزى جانب مهم من هذه الديناميكية الاقتصادية إلى تطور قطاع التعليم، حيث أولت الدولة اهتماما كبيرا بمواءمة المنظومة التعليمية مع حاجيات السوق، ما ساعد على تكوين يد عاملة مؤهلة، وقد تُوجت هذه الجهود بحصول فيتنام على المرتبة (12 عالميا) في جودة التعليم، حسب تصنيف منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) ضمن تقرير PISA لعام 2015.

التحوّل الرقمي.. من استقطاب الاستثمارات إلى اقتصاد المعرفة

لقد سعت فيتنام إلى بناء رؤية جديدة في التلاحم مع التكنولوجيا من خلال إدماجها في كل جانب من جوانب الحياة ولو تدريجيا، وكان الهدف الأساسي من ذلك هو استقطاب الشركات الغربية للاستثمار في الأراضي الفيتنامية، ففي مطلع عام 2011، افتتحت شركة التكنولوجيا الأميركية العملاقة “إنتل” أكبر مصنع لها في العالم في مدينة “هو تشي منه” الفيتنامية، وهو ما مثّل إشارة قوية على تصاعد مكانة فيتنام كوجهة استثمارية واعدة للشركات متعددة الجنسيات، وجاءت قمتا شرق آسيا والآسيان، اللتان انعقدتا في فيتنام بعد ذلك بأيام، لتؤكد هذا التوجّه من خلال توقيع صفقات استثمارية مهمة مع شركتي “مايكروسوفت” و”بوينغ”، ما يعكس التقدم الذي أحرزته فيتنام في مسار الاندماج التكنولوجي وتوفير بيئة أعمال جاذبة، كما تُبرزه تقارير الاستثمار الدولية.

وفي خطواتها نحو الرقمنة والتكنولوجيات الحديثة، حدد المؤتمر الوطني الثالث عشر للحزب الشيوعي الفيتنامي التحوّل الرقمي كمهمة أساسية، عبر تبني ثلاث ركائز وهي الحكومة الرقمية، والاقتصاد الرقمي، والمجتمع الرقمي، كما اختارت فيتنام يوم العاشر من أكتوبر من كل عام كـ “يوم التحول الرقمي الوطني“، لتعزيز الوعي المجتمعي بأهمية الرقمنة، وضمان مشاركة النظام السياسي بكامل مستوياته، حتى ينجح هذا المشروع الوطني، وفق برنامج التحوّل الرقمي الوطني بقرار رئيس الوزراء فام مين تشينه، كما أكّدت وزارة التخطيط والاستثمار أنّه في إطار ترسيخ الاقتصاد الرقمي، يجب أن يُشكّل 20 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2025، وثلث الناتج المحلي الإجمالي 33 بالمائة بحلول عام 2030، وذلك تجسيدا لأهداف التحول الرقمي الوطني الرامي إلى تعزيز مكانة فيتنام ضمن الاقتصادات الرقمية الصاعدة.

ودفعت النجاحات المتوالية الفيتناميين إلى وضع خطة تهدف إلى بناء عشر شركات عملاقة تُقدَّر قيمة كل واحدة منها بأكثر من مليار دولار أمريكي بحلول عام 2030، مع العمل على دمج ما لا يقل عن 10 بالمائة من الاقتصاد الرقمي في مختلف القطاعات الاقتصادية، وضمان تمكين 80 بالمائة من الأسر من الوصول إلى خدمات الإنترنت، كأحد شروط التمكين الرقمي الواسع وتحقيق الشمول التكنولوجي، حيث تشير بيانات وزارة المعلومات والاتصالات إلى أن نسبة مساهمة الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي بلغت 18.3 بالمائة في عام 2024، مع تسجيل نمو سنوي يتجاوز 20 بالمائة، وهو ما يعكس الزخم المتزايد الذي يشهده هذا القطاع الحيوي في الاقتصاد الفيتنامي.

وتنبأت عديد شركات التكنولوجيا العالمية مثل “غوغل” بأن الاقتصاد الرقمي الفيتنامي سينمو إلى نحو 52 مليار دولار بحلول عام 2025، وهو ما يعادل حوالي سُدس إجمالي الاقتصاد الرقمي لجنوب شرق آسيا الذي قُدر آنذاك أن يصل إلى حوالي 300 مليار دولار في منتصف العقد الراهن، بناء على دراسة حول “الاقتصاد الإلكتروني لجنوب شرق آسيا” (e-Conomy SEA) التي أُنجزت بالتعاون بين شركتي “غوغل” (Google) و”باين آند كومباني” (Bain & Company)، وفقا لما ورد في الموقع الرسمي لوكالة الأنباء الفيتنامية (en.vietnamplus.vn).

إلا أن الواقع الفيتنامي تخطّى هذه التوقعات قبل موعدها، إذ شكّل الاقتصاد الرقمي في عام 2024 نحو 18.3 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، الذي بلغ حوالي 476.3 مليار دولار، أي ما يعادل نحو 87.2 مليار دولار من الناتج الرقمي.

ومع استمرار وتيرة النمو الحالي، تتوقع الحكومة أن تصل قيمة الاقتصاد الرقمي إلى ما بين 90 و200 مليار دولار بحلول عام 2030، وفقا لتقديرات “الاقتصاد الإلكتروني لجنوب شرق آسيا” (e-Conomy SEA)، ووزارة التنمية الرقمية، مما يعكس المسار التصاعدي المدعوم بسياسات التحول الرقمي والفرص التكنولوجية المتاحة.

شمس الصين تشرق على فيتنام

شهدت كلٌّ من فيتنام والصين مواجهات عدة، مباشرة وغير مباشرة، غير أن التحولات العالمية المتسارعة، والتي كرّست الصين كخصم اقتصادي أول للولايات المتحدة، خاصة منذ اندلاع الحرب التجارية في عهد الرئيس السابق والحالي دونالد ترامب، قد أعادت رسم خارطة سلاسل الإمداد الآسيوية.

 وفي خضم هذه الأزمة، برزت هانوي كأحد أكبر المستفيدين من هذا التوتر، فوفقا لتحليل شركة “كيرني” (Kearney)، فقد استحوذت فيتنام وحدها على نحو 46 بالمائة من الواردات التي فقدتها الصين نتيجة انسحاب الشركات الأميركية، من أصل ما يقارب 31 مليار دولار خسرتها بكين، أي ما يعادل نحو 14.3 مليار دولار من التحويلات التجارية تحوّلت إلى السوق الفيتنامية خلال عام 2019 فقط، وقد أدى ذلك إلى زيادة ملموسة في صادرات فيتنام التصنيعية إلى الولايات المتحدة في العام نفسه، بنحو 14 مليار دولار في دلالة واضحة على سرعة التكيّف الفيتنامي مع النظام التجاري الجديد.

وبحلول عام 2024، بلغت الصادرات الفيتنامية نحو الولايات المتحدة 136.6 مليار دولار، ما يمثّل ارتفاعا بنسبة تفوق 19.3 بالمائة مقارنة بعام 2023، وفقا لبيانات COMTRADE التابعة للأمم المتحدة، كما سجّل الميزان التجاري فائضا غير مسبوق لصالح فيتنام تجاوز 123.5 مليار دولار، مقارنة بـ 66.7 مليار دولار فقط في عام 2019، وهو أعلى مستوى يُسجّل حتى الآن، فهذا التطور اللافت يعكس استفادة استراتيجية فيتنام من انتقال الشركات الأميركية الكبرى ضمن ما يُعرف باستراتيجية “الصين + 1“، والتي دعت إلى تنويع سلاسل الإمداد بعيدا عن الاعتماد الكلّي على الصين.

وقد رصدت صحيفة “الاقتصادية” آنذاك كيف أن المدن الفيتنامية القريبة من الحدود الصينية جذبت طيفا واسعا من المصنعين الذين سعوا للهروب من ارتفاع تكاليف الإنتاج في الصين، أو الذين أرادوا تفادي تداعيات الحرب التجارية، وبينما احتضنت مدن الجنوب الفيتنامي مجمعات صناعية ضخمة، تخصصت مدن أخرى في تطوير البنى التحتية التقنية، مما أرسى تنوعا اقتصاديا مكّن البلاد من امتصاص الصدمات، كما حدث خلال جائحة كورونا، التي واجهتها فيتنام بمرونة اقتصادية ملحوظة.

وهكذا، لم تعد فيتنام مجرد بديل للصين، بل باتت مركز جذب مستقل في المعادلة الصناعية والتجارية العالمية الجديدة، مدفوعة بالتحولات الجيوسياسية وبحسن استثمارها في بيئة أعمال مرنة وواعدة.

دوي موي 2.0″… فيتنام تتجه إلى جيل جديد من الإصلاحات

في سعيها الحثيث نحو التقدم، تتصاعد الدعوات في فيتنام إلى تصميم نسخة ثانية، حديثة وعصرية، من مشروع “دوي موي” (Doi Moi) التاريخي، الذي أطلق في ثمانينيات القرن الماضي وفتح الباب أمام إصلاحات السوق وتحول الاقتصاد الفيتنامي إلى واحد من أسرع الاقتصادات نموا في العالم، غير أن كثيرا من المراقبين يرون اليوم أن مشروع “دوي موي” الأول قد بلغ أقصى مداه، وأن وتيرة النمو بدأت تقترب من حدودها القصوى ضمن الإطار القديم، الأمر الذي يستدعي نقلة هيكلية جديدة.

في هذا السياق، تتبلور ملامح “دوي موي 2.0” بوصفه مشروعا شاملا يهدف إلى إعادة هيكلة الدولة والاقتصاد، بما يتوافق مع التحديات الجديدة لعصر الرقمنة، والاقتصاد الأخضر، والصراع الجيو-اقتصادي بين القوى الكبرى، فقد أعلنت الحكومة في أواخر 2024 عن “ثورة ترشيد إداري” تهدف إلى تقليص عدد الوزارات من 30 إلى 22 وزارة، ودمج العديد من الوحدات الحكومية، وتعزيز اللامركزية، كخطوة لمحاربة البيروقراطية والفساد وتحسين كفاءة الأداء العام.

في موازاة ذلك، رفعت الحكومة من سقف تطلعاتها التنموية، فحددت هدفا استراتيجيا يتمثل في رفع نصيب الفرد من الناتج المحلي من 4300 دولارا عام 2024 إلى 7500 دولار بحلول 2030، كمرحلة انتقالية نحو الانضمام إلى شريحة الدول ذات الدخل المرتفع بحلول عام 2045، وهو ما يتماشى مع متوسط نمو سنوي تجاوز 7.1 بالمائة في 2024، وتسعى فيتنام إلى تثبيته بين 6 إلى 6.5 بالمائة على المدى المتوسط.

ويرى بعض المتخصصين أن نجاح “دوي موي 2.0” رهن بتوافر عدة عوامل رئيسية، أبرزها القدرة على اجتذاب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، وتحسين مناخ الأعمال من خلال إصلاحات إدارية وتشريعية تحدّ من الفساد، وتُطلق العنان لريادة الأعمال والابتكار، إلى جانب تعزيز الشمول الرقمي، خاصة وأن الحكومة تهدف إلى تمكين 80 بالمائة من الأسر الفيتنامية من الوصول إلى خدمات الإنترنت عالية الجودة في السنوات المقبلة.

وعليه فإن، النسخة الثانية من “دوي موي” لا تُعد فقط استكمالا لمسار التنمية، بل تمثل قفزة جديدة نحو بناء اقتصاد متنوع، رقمي، ومندمج في سلاسل القيمة العالمية، قادر على مواجهة الصدمات وتوظيف التحولات الجيوسياسية لصالحه، في ظل سباق عالمي محتدم على الاستثمار والتكنولوجيا والطاقة والمعرفة.

فيتنام.. حين تصنع التنمية نصرا جديدا

تُعد تجربة فيتنام واحدة من أكثر التجارب الإنمائية إلهاما في العالم المعاصر، فهذا البلد الذي خرج مثقلا بجراح الحروب، ويمتلك موارد طبيعية محدودة وتعدادا سكانيا كبيرا، استطاع خلال أربعة عقود فقط أن يُعيد تموقعه على خارطة الاقتصاد العالمي، ليس بانتصار عسكري هذه المرة، بل بانتصار تنموي ضد الفقر والتهميش، فقد نجحت فيتنام في بناء نموذج تنموي متوازن، يُراكم المكاسب الاقتصادية ويعزز العدالة الاجتماعية، مستندة في ذلك إلى وحدة وطنية متماسكة، وشعب صبور خاض معارك التنمية كما خاض معارك الاستقلال.

وفي ظل عالم يتغير بوتيرة متسارعة، تعمل فيتنام على تثبيت مكانتها في السلاسل الصناعية والرقمية الدولية، مدفوعة بإرادة سياسية واضحة وبرؤية استراتيجية تسعى إلى تحقيق رفاه شامل، لا يقتصر على النمو الرقمي أو الصناعي، بل يشمل رفع مستوى المعيشة وتعزيز كفاءة مؤسسات الدولة.

وقد تحوّلت تجربة فيتنام إلى مرجع للدول الساعية إلى تجاوز العقبات التنموية، خصوصا تلك التي تشترك معها في محدودية الموارد وسعة السكان وتعقيد السياقات الجيوسياسية. وهي بذلك تُثبت أن التحول الحقيقي يبدأ بالإرادة الوطنية والإصلاح العميق، لا فقط بالسياسات الترقيعية أو الاعتماد المفرط على الموارد الطبيعية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!