-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

جائزة موريس أودان: مستقبلٌ باهت!

جائزة موريس أودان: مستقبلٌ باهت!

وُلد موريس أودان (1932-1957) بتونس، وهو ابن عسكري كان رئيس فرقة في الدرك الفرنسي، تحوّل فيما بعد إلى الجزائر بعد أن أصبح مدنيًا. ومع ذلك أدخل ابنه المدرسة العسكرية ليصبح ضابطا في الجيش الفرنسي. وفي آخر المطاف، عدل موريس عن ذلك، وسجل عام 1949 بجامعة الجزائر، ونال فيها عام 1953 دبلوم الدراسات العليا في الرياضيات. وذلك ما سمح له منذ تلك السنة بأن يتوظف في كلية العلوم بنفس الجامعة كمُعيد، ثم التسجيل في الدكتوراه تحت إشراف روني دي بوسيل de Possel (1905-1974) الذي كان أستاذا بجامعة الجزائر خلال الفترة 1941-1959.

وذاع صيت أودان..
كان أودان مناضلا يساريا، مثله مثل عدد من الفرنسيين المقيمين آنذاك في الجزائر. وخلال أحداث “معركة الجزائر” عام 1957، تمّ سجنه من قبل السلطات الفرنسية وتعذيبه بعد ما تبيّن أنه أوى مناضلين يساريين فرنسيين في بيته. ويُذكر في تلك الفترة أن قمع الشرطة الاستعمارية في العاصمة الجزائرية بلغ أشدّة. وما يثبت ذلك ما صرّح به بول تيتجن Teitgen (1919-1991) الأمين العام لولاية الجزائر، المكلّف بشؤون الشرطة آنذاك إذ ذكر أن عدد المفقودين بلغ في تلك السنة 3024 مفقودًا!
يُعتبر لورنت شوارتز Schwartz (1915-2002) واحدا من أكبر علماء الرياضيات الذين عرفهم القرنُ العشرون. وفي عام 1950، كان قد نال ميدالية فيلدز (نوبل الرياضيات)، وهو أول فرنسي يفوز بهذا الوسام. لقد كان شوارتز يقوم بثلاث مهام: التدريس والبحث العلمي والنضال السياسي. وهو يعترف في مذكراته بأنه كان في صراع دائم مع الزمن لكي يوفّق بين هذا وذاك. وهكذا فسمعته العلمية ونضاله المناهض للاستعمار جعلا منه نجمًا قلّ نظيرُه في جمهور العلماء الغربيين.
كان شوارتز يتابع حرب التحرير في الجزائر بصفته عضوا بارزا في “لجنة المثقفين المناهضين للحرب في شمال إفريقيا” التي أنشِئت عام 1955. ومن ثمّ كان يتابع أحداث المقاومة ونضال اليسار في شمال إفريقيا. وفي هذا السياق، انصبَّ اهتمام شوارتز بدءا من 1957 على قضية موريس أودان الذي تقاسم معه الاختصاص العلمي. وقد خصص في مذكراته صفحات عديدة لقضية اغتيال أودان قبيْل مناقشته أطروحة الدكتوراه.
ومن المعلوم أن شوارتز خطّط وعمل على أن تناقش أطروحة أودان غيابيا بباريس إثر اغتياله، وهذا تعبيرًا عن استنكار الجامعيين للتعذيب الذي كان يمارسه الاستعمار بالجزائر ضد الجزائريين والفرنسيين بوجه خاص. وتمت المناقشة فعلا في ديسمبر عام 1957 وغصّ المدرج بجامعة السوربون في ذلك اليوم بالجمهور. وكان لهذا الحدث، الذي حضره أيضا حشد من الصحفيين، صدى واسعٌ ومؤثرٌ في صفوف الجامعيين والمفكرين جعلهم يدركون واقع القمع في الجزائر آنذاك.

لورنت شوارتز: نضالٌ حتى الممات
وخلاصة القول إن لورنت شوارتز ورفاقه عرفوا كيف يوظفون مقتل مريس أودان من قبل القوات الفرنسية في الجزائر لجعل عدد كبير من الفرنسيين في فرنسا يدركون بأن سلطات بلدهم لا يقتلون الجزائريين (“المسلمين”) في الجزائر فحسب بل تطال جرائمهم أيضا الفرنسيين أنفسهم… ولسان حال رفاق شوارتز يقول: ها هو موريس أودان مثال على ما نزعم! بعبارة أخرى، فإن أودان لم يعرف هذا الصيت لمكانته العلمية، ولا لمقامه في النضال السياسي إبان حرب التحرير، وإنما صيته يعود بالدرجة الأولى إلى الكفاءة الإعلامية العالية التي تميّز بها شوارتز ورفاقه في استغلال حادثة اغتياله لتعرية الاستعمار أمام مواطنيه. وما عدا ذلك فموريس أودان ليس سوى واحد من عدد كبير من المفقودين والمغتالين الجزائريين والفرنسيين على يد الاستعمار خلال حرب التحرير.
ونظرا للنجاح الإعلامي الذي عرفته قضية أودان عام 1957، واصل شوارتز نضاله في نفس الاتجاه، وبادر بتأسيس جائزة تحمل اسم موريس أودان عام 1958، واستمرّ منح هذه الجائزة سنويا حتى عام 1963، ثمّ توقفت! لكن المناضلين اليساريين الفرنسيين، وعلى رأسهم الأستاذ جيرار ترونال Tronel (1934-2017)، أرادوا المواصلة على نهج شوارتز، فطلبوا منه في أواخر حياته مباركة عملهم، واستطاعوا إقناعه.
وهكذا عادت الجائزة وصارت تُمنح لباحث في فرنسا وباحث في الجزائر بدءا من عام 2004. بمعنى أن الجائزة كانت نتيجة نضال سياسي، وهدفها أيضا سياسي قبل أن يكون علميا. وهذا لا يعني أن من فاز بها لا يستحقها، بل استطاعت الجائزة أن تُبرز أسماء عديدة من الباحثين الجزائريين في بلدنا. ولعل أفضل دليل على ذلك أن نصف أعضاء أكاديمية العلوم والتكنولوجيا الجزائرية في حقل الرياضيات هم من الحائزين على هذه الجائزة.
وحتى ندرك مرة أخرى مكانة شوارتز في نضاله السياسي، يجدر بنا التذكير بأنه أُقِيل عام 1961 من منصبه كأستاذ جامعي بباريس – وهو من هو في المجال العلمي- وذلك سبب توقيعه على نداء يدعو الشبان الفرنسيين إلى العصيان عند تجنيدهم للحرب في الجزائر. كما تعرض شوارتز إلى عدة محاولات اغتيال من قِبل اليمين المتطرف في باريس بسبب هذه المواقف الجريئة، واختطِف ابنه في فيفري 1962 للضغط عليه، ونسفت المنظمة السرية “OAS” بالمتفجرات منزله ومنازل رفاقه الجامعيين بباريس، منهم من كان حائزا على جائزة نوبل.

جمعية أودان تلعب على الحبلين
ومن قواعد جائزة أودان أن المترشح لنيلها كان ينبغي أن لا يتجاوز عمره 40 سنة. ثم قبل سنوات، ونظرا لقلة المترشحين المتميزين، تم تعديل هذا العمر ليصبح 45 سنة، وأعلن عن ذلك رسميا. لكن الغريب الذي فاجأ الجميع هذه السنة، أن الجائزة مُنحت لفائز عمره 54 سنة دون سابق إنذار من قبل لجنة الجائزة وجمعية أودان.. أي بدون علم مسبق للمترشحين المحتملين. فلو أعلنت اللجنة المسؤولة عن أن الحد الأقصى لعمر المترشح قد تغيّر لكان عدد المترشحين أكبر، وربما فاز بها باحثون غير اللذيْن فازا بها! فما الذي منع هؤلاء من التصريح بذلك في الوقت المناسب، وما الذي دفعهم أصلا إلى التعديل؟ لا ندري! ما من شك أن هذا التعاطي مع الجائزة يسيء إلى سمعتها العلمية رغم الصدى الإعلامي القوي الذي نالته هذه السنة.
ومما زاد في الشكوك المحيطة بهذه الجائزة من الناحية العلمية هو البُعد السياسي الذي أعطي لها هذه السنة بزيارة وفد من جمعية موريس أودان إلى الجزائر قادما من باريس. وقد تشكّل الوفد من نحو 15 شخصا (منهم صحفيون وعلميون ومؤرخون…) زار الجزائر وأقام فيها أزيد من أسبوع، وجال بين العاصمة ووهران وقسنطينة. ورافقت السلطات الجزائرية الزوار وأحاطتهم بعنايتها. وقد ألقيت خلال الجولة محاضرات وتمت لقاءات مع جمعيات مختلفة المشارب، يغلب عليها الطابع السياسي. وبطبيعة الحال، فقد أقيمت مراسيم منح الجائزة بالعاصمة بحضور هذا الوفد إلى جانب الجزائريين.
وبعبارة مختصرة، نحن نرى أن جائزة أودان في الرياضيات قد فقدت مصداقيتها بسبب الأضرار التي ألحقتها بها جمعية موريس أودان السياسية. وكان أحرى بالجزائر أن تؤسس جائزة في الرياضيات وفي مختلف العلوم تُمنح لباحثيها دوريًّا بدل الاتكال على جائزة علمية انحرفت عن مسارها في رأي عديد المتتبعين.

جائزة عباس بحري وجائزة أودان
المرحوم عباس بحري (1955-2016) من علماء الرياضيات التونسيين ذوي الشهرة العالمية. كان عباس مناضلا يساريا منذ صغر سنّه، مثل موريس أودان، استوطن الولايات المتحدة بعد الدراسة بتونس وباريس وكان أستاذا بجامعة روتجرس Rutgers. ومع ذلك لم يتوقف يوما عن تقديم الدعم والمساعدة، عن بُعد وعن قرب، للشباب التونسي الطامح إلى التميّز في الرياضيات ولجميع من يطلب منه ذلك عبر العالم.
وقد وافته المنية عام 2016، وأرادت جامعته الأمريكية قبل سنتين تخليد ذكراه -كما فعل الفرنسيون مع موريس أودان- فلجأوا إلى تأسيس “زمالة” أو منحة تحمل اسمه، تُقدَّم كل سنة إلى شاب أو أكثر تكون بمثابة منحة بحثية لطلاب الدراسات العليا المتقدمة وللحاصلين على الدكتوراه في الرياضيات، أطلقوا عليها “زمالة عباس بحري للتميّز البحثي فيالرياضيات”. وتُتيح هذه الزمالة للفائز بها الإقامة في الولايات المتحدة خلال عدة شهور لإجراء بحوث، أو تُمنح له للمشاركة في مشاريع علمية أو كجائزة على عمل معيَّن.
وقد فاز بها أول مرة شابٌّ من النخبة التونسية، وفي السنة الموالية كانت من حظ شاب سنيغالي. وقبل نحو أسبوع أعلِن عن الفائز فكانت من حظّ الباحث الجزائري الشاب أحمد عطّار من جامعة تلمسان، فهنيئا له ولجامعته. فأين الصدى الإعلامي الذي يستحقه هذا الحدث العلمي إذا ما قارناه بصدى جائزة أودان؟
ولذا فنحن واثقون بأن فكرة “جائزة عباس بحري” التي تبنّتها جامعة روتجرس أجدى -في موضوع خدمة الطامحين إلى التألّق في الرياضيات- من الخدمة التي تقدمها جائزة موريس أودان للرياضيات وأهلها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!