-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

”المقاول الذاتي”.. هُوية مهنية لـ”رحّالة الاقتصاد الرقمي” في الجزائر

محمد عبد المؤمن
  • 17870
  • 0
”المقاول الذاتي”.. هُوية مهنية لـ”رحّالة الاقتصاد الرقمي” في الجزائر
أرشيف

يبدأ يوم سارة بالاستيقاظ عند الخامسة صباحا، وأوّل ما تقوم به ضمن مهامها اليومية كمصمّمة غرافيك مستقلة، هو مراجعة بريدها الإلكتروني للاطلاع على عروض العمل التي تصلها من عملاء جدد، أو طلبات التعديل التي عادة ما يرسلها عملاؤها السابقون.

سارة هي واحدة من ملايين المستقلّين أو الفريلانسرز (Freelancers) حول العالم. وهم أولئك المهنّيون الذين يعملون لحسابهم الخاص، في مجالات عديدة. لكن بشكل مختلف عمّا يقوم به غيرهم من أصحاب المهن الحرّة الكلاسيكية مثل أطباء الأسنان والمحامين والخبّازين.

فالفريلانسر عادة ما يكون شخصا ذاتيّ التكوين، يستخدم مهاراته في كتابة المحتوى أو الرسم أو التصميم أو الموسيقى أو الترجمة، كمصدر للدخل، عن طريق تقديم خدمات مدفوعة لجهات متنوّعة، قد تكون شركات تجارية أو وكالات أو هيئات حكومية أو أشخاصا طبيعيين.

لكن أبرز ما يميّز المستقلّ عن أي مهني حرّ، هو أن بإمكانه العمل من أي مكان في العالم، بفضل العشرات من المنصات الرقمية التي توفّر له إمكانيات كبيرة للتواصل مع العملاء، والحصول على أعمال جديدة. في حين يبقى نشاط الطبيب كمهني حرّ، مرتبطا في معظم الوقت بعيادته الخاصة.

وقد سمحت هذه الميزة لسارة بالانتقال للعيش في دبي، حيث تقدّم خدماتها في تصميم الغرافيك لعملاء من جميع الدول. ومكان عملها اليومي هو حرفيا: أيّ مكان يتوفر فيه الاتصال بالانترنت.

إنه شيئ يشبه عمل “الرحّالة” أو “الباعة المتجوّلين” في أوقات مضت، لكن مع فرص ومكاسب أفضل، بفضل الإمكانيات والموارد الكبيرة التي تتيحها تكنولوجيات الاتصال والمعلومات هذه الأيام.

تقول سارة عن بداياتها في عالم العمل المستقلّ:”لقد بدأت بالصدفة. كانت تجذبني صور وفيديوهات الغرافيك التي أشاهدها على مواقع التواصل، فرغبت بتعلّم التصميم بمفردي من باب الهواية”.

وسرعان ما بدأت المصمّمة العصامية في نشر أعمالها على فيسبوك، وفي يوم ما، اُقترح عليها أن تنشر تصاميمها على موقع لبيع الخدمات الصغيرة، وقد حصلت بالفعل على أول عميل بعد أسبوعين، وكان أجرُها الأول كفريلانسر آنذاك هو 5 دولارات.

“أعجبني الموضوع بعد ذلك، فهو يجمع بين ثلاث ميزات، الأول أنني سأعمل في مجال أحبّه، والثاني أنني لم أكن ملزمة بالذهاب إلى مكان معيّن للعمل، والثالث أنّ مهارتي في التصميم كانت كافية للحصول على الأعمال، من دون الحاجة لأي شهادات”، تضيف سارة.

وعمّا يجعل دبي مكانا “مميّزا” عندما يتعلّق الأمر بنشاطات الاقتصاد الرقمي، فإن السرّ بسيط وقابل للتكرار في أماكن أخرى على غرار الجزائر، فهو يُلخَّص، حسب سارة، في توفير الاتصال بالانترنت على الدوام وللجميع، مع سهولة دفع واستلام مبالغ مالية إلكترونيا.

“في السابق كان نحو 80 بالمئة من عملي يتمّ من المنزل، لكنني لم أكن أرغب في الانعزال عن العالم الخارجي بسبب التزاماتي المهنية. فقررت أن أختار في كلّ يوم مكانا مختلفا في المدينة، أقوم فيه بأعمالي”، تضيف المصمّمة المستقلّة.

وما كان ذلك ممكنا لولا “الواي فاي” المجاني الذي توفّره أغلب المرافق في دبي، من مساحات العمل المشتركة المخصّصة للمستقلّين، إلى قاعات الشاي في المراكز التجارية الكبيرة.

“المقاول الذاتي”.. صيغة جديدة لتنظيم العمل الحرّ قريبا في الجزائر

قبل أن تغادر سارة إلى دبي، لم يكن هناك نصّ قانوني ينظّم عمل المستقلّين في الجزائر، بما يسمح لهم بامتلاك وثائق تثبت صفتهم المهنية، أو إصدار فواتير لعملائهم، أو الاستفادة من الضمان الاجتماعي، كغيرهم من الموظفين والتجار وأصحاب المهن الحرّة.

لكن كلّ ذلك سيغدو ممكنا عمّا قريب، عندما يصدر القانون الأساسي للمقاول الذاتي، الذي وصل إلى مراحله الأخيرة، حيث تعكف الحكومة على دراسته منذ عدّة أشهر، بهدف “تنظيم الأنشطة الاقتصادية الجديدة مع بروز اقتصاد المعرفة والاقتصاد الرقمي”.

انطلقت فكرة تقنين صيغة “المقاول الذاتي” في الجزائر، في أفريل 2021، في اجتماع بين الوزير المنتدب المكلّف بالمؤسسات الناشئة ياسين وليد، و”مجموعة المؤسسات الجزائرية الناشطة في المجال الرقمي” (GAAN).

في ذلك الاجتماع، عرض الوزير وليد على ممثلي المجموعة فكرة إصدار بطاقة مهنية للفريلانسرز الجزائريين لتمكينهم من العمل بشكل قانوني، ومن دون الحاجة للقيد في السجل التجاري.

رحّبت مجموعة GAAN آنذاك بالمبادرة، وقالت في بيان إنّ نظام “المقاول الذاتي”، سيسمح للملايين من الناشطين في مجال العمل المستقلّ، بفتح حسابات بنكية تجارية، وإصدار فواتير لعملائهم، والحصول على الضمان الاجتماعي، وغيرها من الامتيازات.

وبعد تأجيل طويل استمرّ لعدّة أشهر، من أجل تعديل القانون التجاري، قبل تقنين الصيغة المهنية الجديدة، شرعت الحكومة أخيرا في اجتماع لها شهر جوان الماضي، في دراسة مشروع تقنين نشاط “المقاول الذاتي”.

وسيقدّم مشروع القانون المتضمن القانون الأساسي للمقاول الذاتي، أمام البرلمان، بعد أن صادق عليه مجلس الوزراء، حسب ما أكده الوزير المنتدب المكلّف بالشركات الناشئة واقتصاد المعرفة ياسين وليد يوم 18 أوت.

وأكّد ياسين وليد في منشور على فيسبوك إن القانون يهدف إلى “تنظيم الأنشطة الاقتصادية الجديدة التي ظهرت مع بروز الاقتصاد الرقمي”.

وعدّد الوزير المنتدب أمثلة للنشاطات التي سيشملها النظام الجديد، وهي نشاطات مطوّري تطبيقات الويب والهاتف، والمسوّقين الإلكترونيين، ومسيّري منصات التواصل الاجتماعي، ومصمّمي الإنفوغراف”.

وإلى جانب جملة الامتيازات التي سيتضمنها القانون الأساسي لهذه الفئة، والتي كشف عنها في اجتماع مجلس الوزراء، أوضح وليد أن “القانون سيسهّل تصدير الخدمات الرقمية، بما يسمح للناشطين بالحصول على عائداتهم بالعملة الصعبة بشكل كامل”.

وكان مجلس الوزراء قد وافق في اجتماعه يوم 17 جويلية، برئاسة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، على مشروع قانون المقاول الذاتي.

وجاء في بيان للاجتماع، أن المشروع “من شأنه إعطاء دفع جديد للفاعلين في مجال المقاولاتية والمؤسسات الناشئة”.

وفي اجتماع سابق للحكومة يوم 13 جويلية، برئاسة الوزير الأول أيمن بن عبد الرحمان، دُرس المشروع التمهيدي للقانون الأساسي للمقاول الذاتي، قبل تقديمه أمام مجلس الوزراء.

وعرّف بيان للوزارة الأولى حول الاجتماع،  المقاولَ الذاتي بأنه كلّ شخص يمارس بشكل فردي نشاطا مربحا، يندرج في قائمة الأنشطة المؤهلة.

وينصّ مشروع القانون الأساسي على عدّة امتيازات لصالح الفريلانسرز في الجزائر. على غرار التغطية الاجتماعية، والنظام الجبائي التفضيلي، والمحاسبة المبسّطة.

ولن تشمل قائمة الأنشطة المؤهلة لتطبيق النظام الجديد كلّ من المهن الحرّة، والمهن المقنّنة، وأنشطة الحرفيين، حسب ما أوضحه ذات البيان.

خبير في تكنولوجيا المعلومات: هذه امتيازات قانون “المقاول الذاتي” للراغبين بالعمل الحرّ في الجزائر

إلى جانب التمتّع بالتغطية الصحية، والخروج من حالة “البطالة على الورق”، سيمنح قانون المقاول الذاتي الذي يُنتظر دخوله حيّز التنفيذ في وقت لاحق، ميزة “الوجود القانوني” للمصمّمين، والمبرمجين، والمترجمين، والمسوّقين الإلكترونيين، وغيرهم من المستقلّين الذين يعملون لحسابهم الخاصّ كـ”فريلانسرز”.

في هذا الشأن، يؤكّد الخبير في تكنولوجيا المعلومات المهتمّ بريادة الأعمال يزيد أقدال في حديث لـ”الشروق أونلاين”، أنّ “الوجود القانوني” هو أبرز ما سيقدّمه القانون الجديد لهذه الفئة، لأنه سيسمح لهم ببساطة بفوترة خدماتهم، وهذا “أمر مهمّ جدّا”، يقول الخبير.

“فهناك شركات كثيرة تواجه هذا العائق عند التعامل مع مهنيين مستقلّين في الجزائر، والمتمثل في عدم قدرة المستقلّ على إصدار فاتورة لخدماته، من أجل أن تتمكّن الشركة بدورها من دفع أتعابه بطريقة قانونية”، يفصّل أقدال.

كما يُنتظر من هذه الصيغة المهنية الجديدة في الجزائر، أن تشجّع الموظفين أيضا على الاستقلال المهني من دون تكبّد عناء إنشاء شركات خاصة.

فمن خلال صفة “المقاول الذاتي”، يمكن للموظف أن ينتقل إلى عالم المقاولاتية، من خلال العمل من بيته، ولحسابه الخاص، مع الاحتفاظ بامتيازات التغطية الاجتماعية، والوجود القانوني.

بالإضافة إلى ذلك، فإن “أنشطة الفريلانسرز في القطاع الرقمي، تتمّ عن بعد، عبر استخدام التكنولوجيا والانترنت بالأساس، وهي لا تتطلب استثمارات كبيرة، ولا مصانع، ولا آلات. فأي شخص يمتلك مهارة في التصميم أو الترجمة أو البرمجة أو المحاسبة، بإمكانه تقديم خدماته عبر الخطّ”.

ومن شأن هذا كلّه، أن يخلق قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، عبر إدماج هذه الفئة في الاقتصاد الرسمي، “ليس من أجل الحصول على نسبة بسيطة من مداخيلهم كضرائب فقط، ولكن لخلق حركية اقتصادية، من خلال استفادة الشركات من خدمات المستقلّين في مختلف المجالات، بعد أن يصبحوا موجودين قانونيا، باعتبار أنهم كانوا في حكم البطّالين قبل صدور هذا القانون”.

تكنولوجيات المعلومات والاتصال: وقود ثورة الاقتصاد الرقمي في القرن الـ21

تعرّف لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، الاقتصاد الرقمي، بأنه مفهوم يُشير إلى استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال في جميع النواحي الاجتماعية والاقتصادية، مما يوسّع نطاق الفرص، ويحفّز النمو الاقتصادي، ويحسّن جودة الخدمات العامة.

ولا تقلّ ثورة الاقتصاد الرقمي، حسب هذه الهيئة الأممية، من ناحية الأهمية، عن الثورات الصناعية السابقة، التي رافقت بدء استخدام الطاقة البخارية والكهرباء.

وإذا كانت طاقة البخار والكهرباء هي التي أشعلت فتيل الثورة الصناعية في القرون الماضية، فإن تكنولوجيات المعلومات والاتصال اليوم هي وقود الثورة الاقتصادية الجديدة.

فمع بداية القرن الواحد والعشرين، بدأت العديد من التكنولوجيات في الظهور، لتشكّل أساس الاقتصاد الرقمي، على غرار إمكانيات النفاذ إلى الانترنت عالية السرعة، والقدرات الهائلة للتخزين السحابي، وديمقراطية استخدام الهاتف الذكي، وإدارة البيانات الضخمة، والتعلم الآلي، وغيرها من التكنولوجيات التي غيّرت ولا تزال تغيّر طريقة أداء الناس لأعمالهم، أفرادا كانوا، أو شركات، أو حكومات.

وعن النشاطات التي يتوّقع أن تشملها الصيغة القانونية الجديدة للعمل في الجزائر، أوضح الخبير أنّ قطاع الخدمات الرقمية هو القطاع الأساسي الذي يستهدفه القانون.

“لكن هذا لا يمنع أن تتضمّن النشاطات المعنية بهذه الصيغة، جميع الخدمات التي تتطلب كفاءات أو تراكم للخبرات في أي مجال، خارج النشاطات المقننة بطبيعة الحال”، يضيف أقدال.

وعن توفّر البيئة الاقتصادية والرقمية المناسبة لنجاح ونموّ نشاط مقدّمي الخدمات المستقلّين في القطاع الرقمي بالجزائر، اعتبر أقدال أنّ “محيط الأعمال في الجزائر بشكل عام، قد تحسّن بشكل كبير مقارنة بالسنوات الماضية، بما في ذلك ما يتعلّق بجودة الاتصال بالانترنت”.

وتابع أقدال:”جودة الانترنت في الجزائر ليست مثالية، لكنها تعرف تحسّنا في معظم مناطق البلاد”. مضيفا:”نعم، هناك تفاوت في جودة الانترنت من منطقة إلى أخرى، لكنها تبقى مقبولة على العموم”.

قبل أن يؤكد:”هذه البيئة مناسبة لنشاط المستقلّين في القطاع الرقمي. وهناك شباب يعملون كمستقلّين في الجزائر منذ عدّة سنوات. وبينهم من يتخذ “الفريلانس” كعمل بدوام كامل، بحيث يقدّم خدماته لشركات أجنبية من مكان إقامته داخل الوطن”.

وقد لفت أقدال في هذا الخصوص إلى أنّ “معظم الفريلانسرز الجزائريين يستهدفون الأسواق الخارجية، على غرار من يعملون كأعوان تجاريين لشركات أجنبية، أو كمبرمجين، وغير ذلك”.

أما فيما يتعلق بالدفع الإلكتروني، “فهو متوفّر في الجزائر، كما أنه يعرف تطوّرا مع مرور الوقت. ولو أنّ نظامنا البنكي لا يزال متخلّفا عن كثير من الخدمات التي يحتاج إليها الفريلانسرز، من قبيل الدفع عبر بطاقات فيزا على سبيل المثال، وهذا يرجع لأسباب كثيرة”، يقول أقدال.

تجارب دولية سابقة لتقنين عمل المستقلّين.. “والرحّالة”!

صيغة “المقاول الذاتي”، في الواقع، هي صيغةٌ معمولٌ بها في عدّة دول، على غرار فرنسا، حيث تحمل نفس التسمية “L’auto-entrepreneur”.

ويسمح القانون الفرنسي لـ”المقاولين الذاتيين” منذ العام 2009، بممارسة عدّة نشاطات مهنية مربحة في مجالات عديدة، في إطار فردي مستقلّ، وبعد إتمام إجراءات إدارية ميسّرة، تجرى معظمها عبر الانترنت.

ويمكن للموظفين والمتقاعدين وحتى الطلبة الراغبين في العمل بدوام جزئي في أثناء فترة دراستهم، أن يصبحوا مقاولين ذاتيين يعملون لحسابهم الخاصّ، بالموازاة مع التزاماتهم الأخرى.

وفي إستونيا، يفتح العمل المستقلّ آفاق السفر إلى جميع دول فضاء شنغن في أوروبا أمام المئات من الشباب من جنسيات مختلفة، عبر تأشيرة “الرحّالة الرقميين” التي تمنحها البلاد للمستقلّين الذين يرغبون في اتخاذ هذا البلد الصغير في منطقة البلطيق كمقر مؤقت لأعمالهم.

وتسمح تأشيرة إستونيا لحامليها من الفريلانسرز الأجانب، منذ 2019، بالعمل بشكل مستقلّ على أراضيها، لمدة سنة كاملة، تتضمّن 90 يوما من السفر بحرية عبر دول منطقة شنغن.

أمّا في دبي، حيث مقر نشاط الفريلانسر الجزائرية سارة، فإنّ العمل المستقلّ يعتبر طريقة من طرق الحصول على تأشيرة العمل والإقامة في البلاد أيضا.

فالفريلانسر الأجنبي في دبي يمكنه الحصول على بطاقة خاصة للعمل بشكل قانوني، وبالتالي الإقامة بصورة شرعية، في إطار برنامج يسمى “GoFreelance”، مقابل رسوم جزافية تدفع سنويا.

وتشمل النشاطات المفتوحة للمستقلّين الراغبين بممارسة أعمالهم من دبي، فئات النشطات الإعلامية، والنشاطات التعليمية، إلى جانب النشاطات التكنولوجية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!