-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

سقفُ الاختلاف

بقلم: كريمة بداوي
  • 731
  • 0
سقفُ الاختلاف

المتأمِّل في المجتمعات الغربية -التي أصبحت عند الكثير منا مقياسا لحرية التعبير وتعدد الآراء- يلاحظ بأن هناك سقفا محددا للاختلاف لا يتخطاه المفكرون أو الفلاسفة أو السياسيون الحقوقيون، فهم مجمعون على مبادئ وضعية، لا يسمحون لأنفسهم أو لغيرهم من العوام بتخطيها أو الدنو منها، فهم يختلفون حتما لكن ضمن أطر عامة لا تهدد سلامة مجتمعاتهم كما أن لوسائل الإعلام عندهم حدودا حُمرا لا يجوز الاقتراب منها. ولنا على سبيل المثال ألمانيا خير مثال على ذلك، فبعد الحرب العالمية الثانية حرصت النخب الألمانية -وهي تتأهب للنهوض بالبلاد وبعثها من ركام الدمار من جديد- على تجفيف منابع الاختلاف المثير للنزاع، بل عملت على بناء ثقافة السلم والانسجام والتوافق بين أطياف المجتمع، فلا مكان لأصحاب التفكير النازي باسم تعدد الآراء أو ضرورة الاختلاف، والحذر واجب من أفكار تنتهي بتهديد أمن الإنسانية وسلامتها، أو إثارة الفتن والقلاقل فيها.

كل اختلاف يضرب ثوابت الأمة وينتهي إلى التنازع والتشكيك في تاريخها ومنشئها وسلامة معتقدها أو وحدة رايتها، هو خنجرٌ مسموم غادر يتحين فرص الغفلة والذهول، ينبغي التصدي له بإظهار خطره ودفع مفسدته.

وإذا كان من حق كل مجتمع أن يحدد ما يصلح له من مبادئ وقوانين، بما يتوافق مع ثقافته وأصوله، فإننا كأمة مسلمة نستمدّ مفهوم الاختلاف وشرعيته وحدوده من قيمه الحضارية.

الاختلاف مقصود وسنة كونية

اقتضت الحكمة الإلهية أن يقوم نظام هذا العالم على سنة الاختلاف، بدءا بالاختلاف بين عقول البشر وألوانهم وألسنتهم وهيئاتهم أو أحوالهم. لذلك فإن الناس يتفاوتون في مدارج الارتقاء تفاوتا عظيما، ويتمايزون في كل أنحاء الحياة وتجاربها، بما يظهرونه في مسالكهم من مظاهر الصلاح والفساد. وتدخل عوامل اللغة والنسب والدين والمواطن في تمييز الأمم والطوائف وتقدير سنة الاختلاف بينها.

هذا وإن كان الاختلاف مقصودا من الخلق وسنة كونية لابد من الإقرار بها ومن ثم التأسيس والبناء عليها، إلا أن هناك نوعا مذموما من الاختلاف سيأتي ذكره.

والاختلاف هو المنهج أو الطريق المغاير الذي يسلكه كل شخص عن غيره في حاله ومقاله، وهو أعم من التضاد فكل ضدين مختلفين ولكن ليس كل مختلفين ضدين.

يقول الحق تبارك وتعالى ((ولو شاء ربُّك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)) جاء في تفسير الآية الكريمة أن مشيئة الله تعالى اقتضت الاختلاف بين البشر، ولو شاء ربك لجعلهم أهل ملة واحدة، فكانوا أمة واحدة من حيث الدين الخالص.

لكن لما خلق العقول على نظام مختلف يقوم على مبلغ استقامة التفكير والنظر، والسلامة من حجب الضلالة أو عدمه، جعل قبول الحق مبنيا على هذا الاختلاف المقصود، لأنه كان بإمكان المولى أن يخلق العقول البشرية على إلهام واحد لا تعدوه من أول النشأة، لكنه قرر جريان الاختلاف، فهو جزء من هدف الاستخلاف في الأرض في الحياة الدنيا والثواب والعقاب في الآخرة.

 الاختلاف معول بناء لا هدم

اختلاف التنوع والتعدد قيمة حضارية مستقاة من القرآن الكريم، وواقع السنة النبوية فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم اختلاف الصحابة في الفهم عنه، كما جاء في حديث ((لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)) فقد فهم بعضهم أن المقصود هو الإسراع والاستعجال في المسير، فصلوا صلاة العصر في الطريق، أما الفريق الثاني فقد أخذوا بظاهر الحديث، ولم يؤدّوا فريضة الصلاة إلا بعد وصولهم.

فالاختلاف في هذا الموضع، هو اختلاف رحمة، وهكذا في جميع مسائل الفقه الإسلامي، لأن الاختلاف بين الفقهاء من مختلف المذاهب لم يكن مدعاة للتعصب ولا للتباغض، الهدف منه الاجتهاد وبذل الوسع لأجل الوصول إلى الحق، وكان بعضهم يعذر بعضا فيما اختلفوا فيه.

إلا أنه بحلول القرن الرابع الهجري بدأنا نقرأ في أدبيات وعيون الفقه الإسلامي عن مرحلة التعصب المذهبي، التي كانت مرادفة لمرحلة الجمود الفقهي، لأنه من المستحيل أن ينمو الاجتهاد ويزدهر الإبداع في بيئة فكرية منغلقة لا تسمح بمنح فرص حقيقية لترقي أفرادها، وتضمن حيوية أفكارهم، عن طريق إقرار الاختلاف بين عقولهم ومداركهم.

وهكذا كل تعصب مذموم للطائفة أو العرق أو الفكر يندرج ضمن الاختلاف المذموم، لأن مفاسده وآثاره تنذر بالفرقة والتنافر بين أفراد المجتمع الواحد.

كما أن الاختلاف في أصول الدين والقضايا المصيرية الكبرى هو اختلاف مذموم محذر منه، لأنه يكون مدعاة للافتراق والبغضاء، يقول العلامة الطاهر بن عاشور “إذا طرأ هذا الاختلاف وجب على الأمة قصمه وبذل الوسع في إزالته من بينهم بكل وسيلة من وسائل الحق والعدل..”.

 خطر الاختلاف المذموم

وهكذا يمكننا الانتهاء إلى أن التسليم التام بالاختلاف المشروع هو حجر الأساس في فكر أسلافنا، وقد انتهى إليه مفكرو الغرب حديثا، فقد كان جون رولز الفيلسوف الأمريكي وهو يؤسس لنظرية العدالة يقر بداية بفكرة الاختلاف وباستحالة المساواة للتفاوت الكبير بين القدرات العقلية والمادية لأعضاء المجتمع.

لكن ما يهمنا في هذا المقام هو التركيز على الاختلاف المحمود الذي يكون أداة للتعارف والتكامل والتعاون أو حتى عندما يكون مبدءا للتدافع والتنافس لأنه يضمن حيوية المجتمع ويحفظ أمنه وسلامته.

وعلى النقيض من ذلك كلّما كان الاختلاف لأجل هدم المبادئ والأصول التي نجتمع عليها وتقوم عليها وحدتنا كان شرا مستطيرا مهما تنكّر أصحابه في ثوب الديمقراطية وحرية الرأي.

وكل اختلاف يضرب ثوابت الأمة وينتهي إلى التنازع والتشكيك في تاريخها ومنشئها وسلامة معتقدها أو وحدة رايتها، هو خنجرٌ مسموم غادر يتحين فرص الغفلة والذهول، ينبغي التصدي له بإظهار خطره ودفع مفسدته.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!