عصابات الأحياء.. رحلة البحث عن “رجلة” وهمية بأدوات مرعبة

سجلت ولاية سطيف على غرار العديد من الولايات عبر الوطن عودة مفزعة لعصابات الأحياء، التي تنشر الرعب وسط المواطنين، من خلال شجارات جماعية عنيفة، تندلع من حين لآخر لتزعزع أمن السكان، الذين تنتابهم الحيرة كلما تعالت الصيحات، وازداد الصراخ، وتشابكت الأيدي والعصي، وسالت الدماء، وهي المشاهد التي تخفي وَرَمًا اجتماعيا بدأ يكبر بصيغة مشوهة ومدمرة.
وفي آخر خرجة لهذه العصابات ما شهده حي شوف لكداد بمدينة سطيف، حيث تمكنت عناصر الدرك الوطني مؤخرا، من تفكيك عصابة إجرامية خطيرة، كانت تزرع الرعب في الحي، مع خلـق جـو من الفوضى. وجـاءت العمليـة بنـاء علـى مكالمـة هاتفيـة مـن طرف أحد المواطنين مفادها نشوب شجار بالأسـلحة البيضـاء، وقـارورات الغـاز المسـيل للـدموع، اشتركت فيه مجموعـة مـن الأشـخاص. وبعد تدخل ميداني وإقحـام فـرق الأمـن والتحـري، تم توقيـف عناصر من العصابة مع حجز مجموعة من الأسلحة البيضاء .
هذه ليست المرة الأولى التي تشهد فيها ولاية سطيف مثل هذه الأحداث، حيث سبق لحي 1500 مسكن ببلدية عين أرنات غرب ولاية سطيف، أن شهد مشادة دامية بين عصابتين، حضرت فيها السيوف والخناجر والعصي، فشهد المكان معركة حامية الوطيس، سالت فيها الدماء مع تبادل الضربات بمختلف أنواع الأسلحة البيضاء والمتعددة الألوان، الأمر الذي استدعى تدخل رجال الدرك الوطني، الذين تمكنوا من إلقاء القبض على 9 أشخاص، كما قامت عناصر فرقة الدرك بحجز أسلحة بيضاء منها سيوف وخناجر وعصي، بالإضافة إلى حبوب مهلوسة تصنف كدعم أساسي لهذا النوع من الشجارات الجماعية أو ما يسمى بالذخيرة النفسية للعصابات.
وسبق لأفراد الأمن الحضري السادس بالعلمة التابع لأمن ولاية سطيف، من وضع حد لنشاط عصابة خطيرة تورطت في شجار جماعي وقع في ساعة متأخرة من الليل، أين اشتعل فتيل الشجار بين شخصين، ثم اتسعت رقعته ليتحول إلى شجار جماعي استعملت فيه مختلف الأسلحة البيضاء. وقد خلف الشجار إصابات بليغة وسط المتصارعين، مع حالة من الهلع وسط السكان والمارة. وتدخل أفراد الأمن الحضري السادس، الذين تمكنوا من توقيف 6 أشخاص متلبسين جميعا بحيازة أسلحة بيضاء من مختلف الأنواع والأحجام.
وعلى غرار العديد من الولايات عبر الوطن، تعرف ولاية سطيف تفاقما في هذه الظاهرة، ومن حين إلى آخر تندلع هذه الشجارات العنيفة، خاصة في الأحياء الجديدة بحثا عن “فتوة” أو”زعامة” أو”رجلة” مزيفة، التي تهدف إلى نشر ثقافة “الهيبة” و”الزعامة” بين الشباب المنحرف، الذين يرون في التمرد والعنف وسيلة لإثبات الذات، أو حتى فرض سلطة وهمية على السكان المحليين.
وتشير معطيات مصالح الأمن والدرك الوطني، إلى تسجيل ارتفاع مقلق في عدد المشاجرات الجماعية المرتبطة بعصابات الأحياء، التي تترعرع في المناطق الشعبية وتنتقل إلى الأحياء الجديدة، حيث ينتمي أغلب عناصر العصابات إلى أسر مفككة أو فقيرة تعيش في ظروف يطبعها العنف والانحراف الأخلاقي. وترى عناصر هذه العصابات في تصرفاتها وسيلة للدفاع عن الحي، أو محاولة لإثبات الانتماء الاجتماعي.
من جهتنا، التقينا بسمير من سطيف، وهو عضو سابق في إحدى العصابات فيقول في تصريح للشروق اليومي: “كنا نشارك في شجارات عنيفة من منطلق التضامن فيما بيننا لإثبات هيبتنا، وهيبة الحي الذي نقطن فيه، الذي نصنع له اسما مرعبا يرتعد منه الخصوم، وعبارة من يجرؤ على مواجهة أبناء الحي الفلاني؟ كانت تشعرنا بالقوة والنشوة، وهذا يكفينا لبسط لنفوذنا”.
أسلحة الشارع… ترسانة محلية وأخرى مستوردة
لم تعد عصابات الأحياء مجرد مجموعات مراهقين طائشين يتشاجرون بالعصي أو الحجارة كما في الماضي، بل تحوّلت اليوم إلى خلايا عنيفة مدججة بأسلحة خطيرة وطرق اعتداء منظمة، تجعل من الشارع ساحة مفتوحة للعنف بكل أنواعه. وفي أحياء شعبية بمختلف الولايات عبر الوطن، بات المواطن يترقب بأسى مشهد مواجهات دموية تندلع فجأة، يكون أبطالها شبانًا يحملون سيوفًا طويلة وخناجر وسكاكين مطبخ ضخمة، وحتى عصيًّا حديدية تُستعمل في الضرب والتكسير، وكأننا أمام عصابات مدرّبة لا مجرد منحرفين.
الأسلحة التي تستعملها هذه الجماعات تطوّرت بشكل مقلق. فالسيوف لم تعد غريبة عن شوارعنا، وباتت جزءًا من العدة اليومية لبعض المنحرفين، يحملونها خفية في ملابسهم، ويتم تهريبها أحيانًا عبر الحدود، كما هو الحال مع سيف “الساموراي”، والعصي الكهربائية. وهناك أسلحة أخرى تصنع محليًا بطرق بدائية، لكنها فعالة ودامية. وأما العصي الحديدية، ونازعات المسامير والمطارق، فتحولت إلى أدوات تخريب جماعي خلال الاقتحامات الليلية، التي تُنفذ أحيانًا ضد أحياء كاملة أو محلات تجارية، لردع الخصوم.
ومما يزيد الوضع خطورة هو لجوء بعض هذه العصابات إلى وسائل غير تقليدية كالصواعق الكهربائية، التي تستعمل لشل حركة الخصم، وقارورة الغاز المسيل للدموع، إلى جانب السلاسل المعدنية التي تُستعمل خلال عمليات الاعتداء الجماعي، وكذا العصي المصنوعة محليا، والمعروفة بنهاياتها الغليظة، والتي يطلق عليها اسم “رأس القط”، وهي من الأدوات التي ترفع درجة العنف إلى مستوى الإجرام المنظم.
وهناك من يتباهى بتربية كلاب شرسة، خصوصًا من نوع “بيتبول” أو “روتفايلر”، تُطلق خلال المواجهات لإرباك الخصوم وبث الذعر وسط المواطنين. وقد سبق لمصالح أمن ولاية سطيف أن فككت عصابات تستعين بالكلاب المدربة. وقد كشفت التقارير الأمنية عن ضبط مئات الأسلحة البيضاء خلال مداهمات لمخابئ هذه العصابات، وغالبًا ما يتم العثور عليها في أماكن يصعب الوصول إليها، كالأقبية وأسطح العمارات، أو داخل خنادق ترابية مهجورة.
المهلوسات… وقود العصابات الهائجة
ما يُضاعف خطورة الظاهرة هو تورط عناصر هذه العصابات في استهلاك مكثف للمهلوسات والمؤثرات العقلية، على غرار “الصاروخ”، “ريفوتريل”، “ليريكا”، وهي مواد تغيّب العقل، وتحوّل المعتدي إلى شخص شديد العنف ولا يدرك تبعات أفعاله. هذه المواد لا تُستهلك فقط، بل تُتداول وتُباع بين أفراد العصابات، لتتحوّل إلى مصدر تمويل داخلي ووسيلة للسيطرة النفسية.
وهناك رباط وثيق بين هذه العصابات ومختلف أنواع المخدرات والحبوب المهلوسة، التي تُستهلك بطريقة جماعية غالبًا قبل تنفيذ الاعتداءات أو خوض المعارك الليلية. هذه المواد، التي بات الحصول عليها سهلاً عبر شبكات مختصة، تفقد المستهلك القدرة على التمييز أو السيطرة على سلوكياته، ما يفسر فظاعة بعض الجرائم المرتكبة.
حيث يقول ضابط أمن سابق، في تصريح للشروق اليومي: “أغلب الشباب الذين كنا نوقفهم في قضايا عصابات الأحياء يكونون في حالة تخدير متقدمة، أو بحوزتهم كمية من الحبوب، فالمهلوسات تغذي فيهم شعور الزعامة، وتمنحهم جرأة مفرطة تدفعهم أحيانا للقيام بأفعال جنونية حتى في مواجهة الشرطة.”
محاولة لإثبات الذات وفرض قانون الشارع
في رأي المختصين، لا يمكن فهم ظاهرة عصابات الأحياء إلا باعتبارها تجلٍّ صارخ لاختلالات بنيوية في المجتمع، ونتيجة مباشرة لتهميش طال فئات واسعة من الشباب، خاصة في الأحياء الشعبية والمعزولة. فالعنف الذي تمارسه هذه العصابات ليس وليد لحظة أو انحرافًا فرديًا معزولًا، بل هو بحث قهري عن مكان داخل المجتمع، حيث يجد الشاب المهمّش في العصابة هويةً تعوّض غياب الأسرة، وقوةً تغنيه عن الشعور بالضعف، وجماعةً تُلبّي حاجته إلى القبول، حتى وإن كانت تقوم على العنف والدم. العصابة هنا ليست فقط مجموعة إجرامية، بل تتحول إلى إطار نفسي واجتماعي يعيد تشكيل مفهوم “الهيبة”، ويفرض “قانون الشارع”.
ويعزز هذا المسار عوامل عديدة متداخلة، أهمها الفراغ والضياع، إضافة إلى التفكك الأسري الذي يحرم الطفل من التوجيه والاحتواء العاطفي، فضلًا عن تراجع دور المدرسة كمؤسسة تربوية، وغياب الأطر البديلة كدور الشباب والمراكز الثقافية، ما يخلق بيئة خصبة لتكاثر السلوكيات المنحرفة. فالشاب الذي لا يجد فرصة للتكوين أو الترفيه أو تحقيق الذات بطريقة مشروعة، يبحث لاشعوريًا عن وسيلة بديلة، وغالبًا ما تكون العصابة هي هذا البديل العدواني. فيتحول الحي إلى فضاء صراع على النفوذ، والعصابة تصبح امتدادًا لهوية مفقودة.
ويقول الاختصاصي النفساني الأستاذ عزيز عبد الحفيظ: “من الناحية النفسية، تشير الدراسات إلى أن الكثير من أعضاء العصابات يعانون اضطرابات في السلوك، خصوصًا في ما يعرف بـ”الشخصية المعادية للمجتمع”، وهي فئة تظهر تمردًا على القوانين والمعايير، مع غياب الإحساس بالذنب أو الندم. كما تساهم التربية الأسرية المتذبذبة، وغياب النموذج الأبوي أو التوجيه القيمي، في تكوين شخصية نرجسية هشّة، تبحث عن التقدير والاعتراف من المحيط ولو بالقوة”.
لمواجهة هذا التمدد الخطير، كثفت مصالح الأمن والدرك الوطني تدخلاتها الميدانية، مع اعتماد نظام المداهمات كإجراء استباقي للحد من ظاهرة العنف وانتشار الأسلحة البيضاء التي أضحت في متناول الجميع.
وتعتمد عناصر الأمن والدرك تعزيز الحضور الأمني، واستخدام فرق التدخل السريع، ومراقبة الشبكات الافتراضية التي يستعملها الشباب لتنسيق تحركاتهم.
ومن الناحية القانونية، يقول الأستاذ المحامي فاتح بخاري في تصريح للشروق اليومي: “إن المحافظة على أمن المواطنين وممتلكاتهم يقتضي، سن تشريعات لمحاربة كل ظواهر العنف التي تمس بالطمأنينة. وبما أن عصابات الأحياء أصبحت واحدة من هذه الظواهر، فقد سنّ لها المُشرع قانونا خاصا يتضمن إجراءات وتدابير ردعية، من خلال الأمر رقم 20-03 المؤرخ في 30 أغسطس 2020، المتعلق بالوقاية من عصابات الأحياء ومكافحتها، على اعتبار أن “عصابة أحياء” هي “كل مجموعة تحت أي تسمية كانت، مكونة من شخصين أو أكثر، ينتمون إلى حي سكني واحد أو أكثر، تقوم بارتكاب فعل أو عدة أفعال بغرض خلق جو من انعدام الأمن في أوساط الأحياء السكنية، أو في أي حيز مكاني آخر، أو بغرض فرض السيطرة عليها من خلال الاعتداء المعنوي أو الجسدي على الغير، أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم للخطر أو المساس بممتلكاتهم، مع حمل أو استعمال أسلحة بيضاء ظاهرة أو مخبأة”.
كما حددت نفس المادة يقول الأستاذ معنى “السلاح الأبيض” المتمثل في “كل الآلات والأدوات والأجهزة القاطعة أو النافذة، وجميع الأشياء التي يمكن أن تحدث ضررا أو جروحا بجسم الإنسان، أو تشكل خطرا على الأمن العمومي كما هي محددة في التشريع والتنظيم المتعلقين بالأسلحة”.
وينص الفصل الخامس المتضمن أحكاما جزائية على عقوبات بالحبس “من ثلاث سنوات إلى عشر سنوات، وبغرامة من 300.000 دج إلى 1.000.000 دج لكل من ينشئ أو ينظم عصابة أحياء، ينخرط أو يشارك، بأي شكل كان، في عصابة أحياء، مع علمه بغرضها، أو من يقوم بتجنيد شخص أو أكثر لصالح عصابة أحياء”.
ورغم أهمية المقاربة الأمنية والقانونية، فإن معالجة ظاهرة “عصابات الأحياء” في رأي المختصين تتطلب رؤية شمولية تتجاوز الحل الأمني إلى إصلاحات اجتماعية، وتربوية، وتنموية، تُشرك كل الأطراف المعنية بالجانب التربوي داخل الأسرة والمدرسة والمسجد، مع مساهمة أفراد المجتمع المدني، وهي أطراف معنية بصفة مباشرة، ومطالبة بالتحرك قبل أن يستفحل الداء.