-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
كان ضمن الفوج المتجه نحو منطقة القبائل منتصف 1955

محمد صحراوي.. المجاهد الذي صُنّف شهيدا حتى الاستقلال

صالح سعودي
  • 836
  • 0
محمد صحراوي.. المجاهد الذي صُنّف شهيدا حتى الاستقلال
ح.م

تعدّ قصة المجاهد محمد الصالح صحراوي واحدة من القصص الغريبة والعجيبة خلال الثورة التحريرية، وهذا في ظل الظروف الصعبة التي مر بها رفقة بعض رفاق السلاح، خاصة وأنه لم يظهر له أثر منذ عام 1955 إلى غاية الاستقلال، ما جعله يصنَّف في عدد الشهداء رفقة بقية زملائه الذين سقطوا في ميدان الشرف وهم متوجهون إلى منطقة القبائل تحت لواء فوج اصطلح عليه بـ”فوج الفاتحين”.
يؤكد المجاهد صحراوي أنه صعد إلى الجبل في شهر فيفري 1955 تلبية لنداء الكفاح تحت لواء قيادة جيش التحرير الوطني بمنطقة الأوراس، وقد كان بحسب قوله مقبولا من الإدارة الفرنسية لأداء الخدمة العسكرية، مضيفا أنه لم يُطل البقاء في مسقط رأسه تكوت وما جاورها. وفي جوان 1955، وبعد اجتماع كيمل وأذرار الهارة شُكّلت دوريات من المجاهدين بغية التوجه نحو الشمال القسنطيني والصحراء ومنطقة القبائل وسوق أهراس وغيرها من المناطق التي حدّدتها قيادة الثورة في الأوراس.

رحلة محفوفة بالمخاطر نحو جرجرة
لم تكن مهمة المجاهد محمد الصالح صحراوي وبقية رفاقه سهلة، بل كانت محفوفة بالمخاطر، خاصة بعد أن كُلفوا بالتنقل للجهاد في أماكن لا يعرفون تضاريسها وطبيعتها الجغرافية، إذ إن تحديات الثورة حتمت عليهم تلبية النداء، موازاة مع تشكيل مجموعات وأفواج اصطلح عليها بـ”أفواج الفاتحين”، الغرض منها توسيع دائرة الثورة في عدة مناطق على مستوى الشرق الجزائري والشمال القسنطيني ومنطقة القبائل وكذلك في الصحراء.
وفي يوم 22 جوان، انطلق الجميع نحو الوجهة المتفق عليها، وبحسب محدث المجاهد محمد الصالح صحراوي، فإن فوجهم المشكَّل من 30 مجاهدا قد برمِج للتوجه نحو جرجرة بمنطقة القبائل، لكن حدثت لهم أمورٌ غير منتظرة في طريق طويلة ومحفوفة بالمخاطر، بسبب الوشاية وتعزيز العساكر الفرنسيين بعتاد متطور مصحوبا بالمدافع والطائرات، وقال المجاهد محمد الصالح صحراوي لـ”الشروق” في هذا الجانب: “وصلنا إلى راس العيون والقيقبة على الحدود بين باتنة وسطيف. وكان من المفروض أن تتّجه مجموعة نحو جيجل، لكن وشاية تسبّبت في استشهاد أغلب أفرادها في نواحي شلغوم العيد، وأسر البقية، ليواصل فوجنا طريقه نحو منطقة القبائل، مرورا بسطيف وبرج بوعريريج، لكن بسبب وشاية وقعنا في معركة، وقُتل عسكري فرنسي برتبة ضابط، في حين استشهد اثنان من الرفقاء، وهما أحمد غقالي وأحمد مرغمي”، كان ذلك يوم 12 جويلية 1955، مضيفا في سياق حديثه: “واصلنا المسيرة إلى برج بوعريريج، وكان عددنا 10 مجاهدين، لكن المتاعب تواصلت بسبب الوشاية وانتباه العساكر الفرنسيين لأمرنا، ما جعلنا ندخل في معركة شرسة بنواحي برج بوعريريج، دامت من الصّباح حتى بعد العصر. وقد استشهد ستة مجاهدين وأصيب أربعة آخرون منهم أنا، واعتبرونا في عداد القتلى، لكنهم قبضوا علينا بعد ذلك، وقد تعرّضت لكسر في الرجل. وبسبب عدم علم قيادة الثورة بمصيرنا فقد دونت أسماؤنا كشهداء، وذلك في جدارية سمّوها “الشهداء العشرة”.

معاناة في السجون الفرنسية
ويعدّ محمد الصالح صحراوي واحدا من المجاهدين الذين عانوا الكثير في السجون الفرنسية منذ القبض عليه في منتصف عام 1955، إذ زُجَّ به في سجن قسنطينة وحُكم عليه بالإعدام، وبقي مكبَّلا عدة أشهر، بعد ذلك حُكم عليه بالسجن المؤبد، لتتواصل معاناته مع السجون بعد أن حوِّل إلى فرنسا إلى غاية تاريخ وقف إطلاق النار شهر مارس 1962، فأعيد إلى أرض الوطن، وبالضبط إلى سجن تازولت، ليُطلق سراحه بعد ذلك تزامنا مع استقلال الجزائر واستعادة حريتها وكرامتها. وبحسب المجاهد محمد الصالح صحراوي، فإنه لم يتسنّ له رفقة رفقائه في الفوج الوصول إلى جرجرة لتعزيز الثورة في منطقة القبائل، في إطار مخطط القيادة لتوسيع الثورة في الشمال القسنطيني ومنطقة القبائل والصحراء وأماكن أخرى، مؤكدا أنه سعى إلى تلبية نداء الثورة بغية أداء دوره دفاعا عن حرية الجزائر، ما يجعله فخورا بكل ما قدّمه من تضحيات في سبيل الوطن، وهذا رغم معاناته الكبيرة والطويلة في مختلف السجون الفرنسية داخل الوطن وخارجه، ناهيك عن استشهاد الكثير من رفقائه خلال مسيرة “فوج الفاتحين” من الأوراس نحو جرجرة، وعدم اكتشاف وضعيته ومعرفة مصيره رفقة بعض رفقائه إلى غاية فجر الاستقلال، بعدما أدرجوا في عداد الشهداء، من بينهم المجاهد محمد الصالح صحراوي، إذ أسدِل الستار على قضية الشهداء العشرة في عام 1987، بعد أن تأكد أن أربعة منهم على قيد الحياة، بعد الإدلاء بشهاداتهم في مقر الأمانة الولائية للمجاهدين، ويتعلق الأمر بكل من الحفناوي معطى الله من خنشلة وعبد القادر يحياوي من المسيلة ومحمد الهادي سلطاني من خنشلة ومحمد الصالح صحراوي من باتنة. أما الشهداء الستة فهم: عمار تيمسرار المدعو “موسى كوطو”، وأحمد الدزيري، إضافة إلى عمر عيقون القبائلي وأحمد زرابيب وسي بلقاسم بوستة الملقب الأوراسي، وسي أحمد من بوطالب.

فوج جرجرة واحد من 9 أفواج هدفها توسيع الثورة
ويعدّ الفوج الذي ينتمي إليه المجاهد محمد الصالح صحراوي، والمكلف بالتوجه نحو جرجرة ومنطقة القبائل من طرف قيادة الثورة بالأوراس، واحدا من تسعة أفواج اصطلح عليها تسمية “أفواج الفاتحين”، هدفها توسيع الثورة ومساحتها الجغرافية، وتخفيف الحصار المضروب على الأوراس، بواسطة تشتيت قوات العدو هنا وهناك، وتجنيد وتعبئة سكان تلك الجهات لفائدة الثورة، والقيام بعمليات عسكرية ضد قوات الاحتلال.
وفي هذا الجانب، يقول الأستاذ محمد سعودي في سلسلة مقالاته وأبحاثه حول الثورة التحريرية بالأوراس: “في شهر ماي 1955، وفي اجتماع “تالغمت” بجبل وستيلي، جنوب شرق مدينة باتنة، عقد قادة المنطقة الأولى (الأوراس) اجتماعا موسعا بقيادة الشهيد عباس لغرور وبحضور مجمل أعضاء قيادة المنطقة، وعيِّن أفواج الثورة المسماة “أفواج الفتوحات”، بهدف توسيع نطاق الثورة وتخفيف الحصار على المنطقة”، وذلك بتشتيت قوات العدو وتعبئة سكان مختلف الجهات لصالح الثورة، والقيام بعمليات عسكرية ضد قوت الاحتلال.
وقال الأستاذ محمد سعودي إنه من بين الأفواج التسعة المشكَّلة نجد فوج المنطقة الثالثة (القبائل)، فكان المجاهد صحراوي محمد بن جار الله ضمن هذا الفوج الذي انطلق في مهمته في الثلث الأخير من شهر جوان 1955، وعندما وصل إلى القيقبة (دائرة رأس العيون حاليا) قسِّم الفوج إلى مجموعتين: المجموعة الأولى توجَّهت إلى جيجل. وعندما وصلت إلى شلغوم العيد اشتبكت مع العدو هناك فاستُشهد منها سبعة وأسِر الثلاثة المتبقون. أما المجموعة الثانية وهي الأكبر من ناحية العدد فقد توجهت إلى جرجرة، وعندما وصلت إلى أولاد تبان بعين ولمان (ولاية سطيف) يوم الثلاثاء 12 جويلية وقعت معركة بينها وبين جنود العدو، فاستشهد منهم اثنان وجرح واحد وضاع آخر وسلّم واحد منهم نفسه للعدو، وانسحب خمسة من الميدان فعادوا على أعقابهم إلى الأوراس، أما ما تبقى منهم فقد أكملوا مسيرتهم فوصلوا يوم الخميس 21 جويلية لمشارف مدينة برج بوعريريج ووُشي بهم، فاندلعت معركة بينهم وبين العدو، فاستشهد منهم ستة وجرح أربعة وقعوا كلّهم في الأسر.
وبحسب الأستاذ محمد سعودي، فهذه هي قصة أو ملحمة هذه المجموعة من المجاهدين الأبطال الفاتحين الذين استُشهد أغلبهم وأسِر من تبقى، وهو مصير الأفواج الأخرى نفسها التي أرسلت من الأوراس في بداية الثورة لجهات المسيلة وسطيف وبرج بوعريريج وسوق أهراس وقالمة والشمال القسنطيني ومنطقة القبائل، إذ استُشهد جلهم وتوزّعت دماؤهم على ربوع الوطن من أجل استرجاع حريته.

هذه أبرز الأنشطة التي مارسها صحراوي بعد الاستقلال
وبعد استقلال الجزائر حريتها واستقلالها، تزامنا مع طرد الاستدمار الفرنسي وعودة السجناء إلى أهلهم وذويهم بعد إطلاق سراحهم، منهم المجاهد محمد الصالح صحراوي الذي عاد إلى مسقط رأسه تكوت بأعماق الأوراس، ووجد نفسه أمام حتمية مواجهة تحديات الحياة في مرحلة جديدة تفرض مواصلة الصبر والثبات في سبيل بناء الجزائر ما بعد الاستقلال، أياما وأسابيع قليلة بعد طرد العدو الفرنسي بلغة السلاح والتضحية بالنفس والنفيس.
وقد استفسر صحراوي عن وضعيته لدى مديرية المجاهدين والجهات الوصية، وهذا بغية تسوية وضعيته الإدارية، فطلبوا منه- بحسب قوله- العودة إلى المكان الذي تجنَّد فيه، وبعد ذلك طلبوا منه الذهاب إلى المكان الذي تعرّض فيه للاعتقال بنواحي سطيف والبرج. حدث ذلك في أجواء من المتاعب المالية والصحية وقلة وسائل النقل، لكن- بحسب محدثنا- فقد طلب منه القيادي الراحل محمد الشريف عايسي جار الله الخلود مؤقتا إلى الراحة بصفته سجينا ومعطوب حرب، وهذا إلى حين تسوية وضعيته على غرار بقية المجاهدين وأرامل وأبناء الشهداء وجميع المتضررين من مخلفات الثورة التحريرية.
وموازاة مع ذلك، أرسِل إلى مركز تكوين، حيث يدرسون ويتلقون منحة، كان ذلك في عهد الرئيس الراحل بن بلة، وفي عهد هواري بومدين أسِّست لجنة الاعترافات، ثم لجنة رباعية. وقد أرسلوه لممارسة الفلاحة بنواحي المعذر بباتنة، لكن ظروفه الصحية لم تسمح له بالمواصلة، ففضَّل بعد ذلك العمل سائقا عند أحد الأشخاص في الأسواق مدة عامين، ثم عمل بعد ذلك مصوِّرا شعبيا في الأسواق، وكذلك امتهن حرفة لحّام مدة 11 سنة، إضافة إلى تصليح الآلات المنزلية في مسقط رأسه بتكوت، وتقفى أثر والده الذي توفي وتركه صغيرا، إذ تعلم منه حرفة الحدادة وصنع السلاح وغيرها من الأنشطة التي قام بها منذ الاستقلال.
وبعد تحسُّن أموره إثر تسوية وضعيته من طرف مديرية المجاهدين، حرص على ممارسة عدة أنشطة تصبُّ أساسا في تلقين تاريخ الثورة للأجيال الصاعدة، وهو لا يتوانى عن حضور الندوات والمناسبات التاريخية حتى يدلي بدلوه، ويقدِّم شهادته حول كل ما عايشه قبل الثورة التحريرية وخلالها، وهو الأمر الذي جعله محل احترام جميع الأطراف مقابل كفاحه وتضحياته وصبره رغم كل ما لاقاه من تعذيب وإهانة وتجويع ومعاناة في السجون الفرنسية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!