مذابح غزة وثقافة الحضارة المعاصرة

جاءت حرب غزة ومآسيها لتذكرنا مرّة أخرى بوجه قبيح يقطر ظلما كدنا أن نغفل عنه في هذه الحضارة المعاصرة، فهو يُنمّ عن هواجس وحالات عدوانية في سلوك من يتحكم في زمام قيادتها.
هذه الحضارة التي توّجت جهود كل الأمم التي ساهمت في تطور الحضارة الإنسانية أصابتها في العقود الأخيرة آفة الأرق بشكل عامّ، بالرغم من جودة حياة الفرد التي تميز نماذج المجتمعات المتطورة. والغريب في الأمر أن هذه الآفة ليس سببها الفوارق في مؤشر جودة الحياة وفقًا لما تحدده منظمة مراجعة سكان العالم حسب البلد (هي منظمة مستقلة:(https://worldpopulationreview.com )، بل إنّ مصدرها هو سلوك الأمة الغربية العدواني في قيادتها لهذه الحضارة!
كان ومازال هذا النموذج الحضاري الغربي إلى حدّ ما هو فخر البشرية بما حقق من إنجازات لم تكن في الحسبان منذ أول خطوة حضارية قام بها الإنسان في العالم القديم. وبفضل التطور العظيم الذي تشهده الأمم الغربية المتقدمة ومظاهر ممارسة الحرية فيها بشكل ملموس في التعبير والمبادرة في الحياة اليومية للأفراد والمجتمعات، أصبحت كل المجتمعات المتخلفة تحلم وتسعى لمحاكاته بكل همّة لتحقيق شيء من رفاهية هذه الحضارة.
ولكن مبدأ الحرية الذي كان يميز الحضارة الغربية بفخر فأعلى قدرها عند الشعوب في بداية مسارها حتى حقق لها العالمية، والذي كان من المفروض أن يجلب العدل في المجتمعات وينشر الأمان فيها، أصبح مصدرا للظلم والرعب في العالم المعاصر؛ فقد تحول هذا المبدأ النبيل إلى معيار حضاري من قِبل الغرب تُنتهك باسمه الأعراف والأخلاق من دون حدود. والتجاوزات في العلاقات بين الدول المنخرطة في منظمة الأمم المتحدة وفي مؤسساتها التي تخضع إلى منظومة قانونية متفق عليها لتحقيق الأمن والعدل في مستويات مقبولة، لم يعد بالإمكان ضبطها بالقوانين الدولية وردعها بالعقوبات التي تصدر عنها، وكل ذلك يحدث بسبب هاجس الخوف من فقدان الهيمنة الحضارية الذي ينتاب الغربيين ويؤرِّقهم، وجعلهم يلجأون إلى كل الوسائل المحظورة التي تتناقض مع مبدأ الحرية. وهذا ما أجّج الصراعات العنيفة بين الأمم العظمى المتنافسة على الريادة الحضارية، وأدخل العالم في حالة قلق عامّ بسبب تفشّي الظلم والعنف في ساحات ذلك الصراع، وبالخصوص في الدول الضعيفة التي وقعت ضحية تلك الصراعات والحروب.
نبذة تاريخية
في العالم القديم كانت الفكرة الحضارية اليونانية هي المؤهّلة لدفع التطور الحضاري نحو آفاق واعدة، فكانت بحاجة إلى تلقيح واختبار في بيئات ثقافية مختلفة. وقد تحقق ذلك بفضل المقدونيين والرومان الذين نقلوا تلك الفكرة إلى أرجاء واسعة من الأرض من دون أن تحط رحالها فيها، لأنّ الهدف من ذلك في تلك المرحلة التاريخية كان نضج الفكرة الحضارية اليونانية وليس نشرها.
وبعد ذلك مرّت تلك الفكرة -وهي في حالة ضعف شديد- بامتحان عسير آخر، وهو الإحتكاك بالدين الجديد الذي حلّ في أوروبا أولا ثم بعد ذلك في الجزيرة العربية. وقد جرى ذلك الاحتكاك في ظروف قاسية في القرون الوسطى، حينما كان أمر تأثير رجال الدين المسيحيين وهيمنتهم على المجتمعات الأوروبية في أوجّه.
فضحت أحداث حرب غزة ومآسي أهلها غياب الرحمة في العالم المعاصر وبالخصوص في العالم الإسلامي والعربي، وبيّنت صور معاناة الفلسطينيين المؤمنين أنها تحرّك مشاعر المسلمين من منطلق الشفقة التي سرعان ما تندثر في خضم المشاغل اليومية، وليس من منطلق الرحمة التي تستجدي مراجعات عميقة لحالنا ولمواقفنا وحتى أفكارنا الحضارية.
وخرجت تلك الفكرة منتصرة بعد مخاض تاريخي، إذ فضحت شدة الأزمات الصحية والإجتماعية التي عرفتها أوروبا خلال تلك القرون، حيلة ادِّعاء وساطة أولئك القساوسة مع الله، فبدت وعودهم للناس بالمغفرة والجنة وتحسُّن الأحوال مقابل الأموال، كاذبة ومجرد كلام غير فعال في تغيير واقعهم المزري.
وعانى الأوروبيون فترة طويلة قبل أن يستفيقوا من الأوهام التي صنعتها أهواء رجال الدين المسيحي الفاسدون، فثاروا عليهم وعلى ظلم النظام الإقطاعي، وعادوا شيئا فشيئا إلى رشدهم ونفروا من ذلك الواقع المخزي. وانجرّ عن احتكاكهم القريب بالمسلمين خلال الحروب الصليبية وبما رأوا من مظاهر حضارية راقية عندهم، بعثُ روح التحدي وإرادة التميز والتغيير الجذري في نخبة المفكرين والمثقفين في مجتمعاتهم المتخلفة. ولم يجدوا سوى الفكرة الحضارية الموروثة عن اليونان صالحة لبناء حياتهم على هديها من جديد، فاقتنعوا أخيرا بفضل جهود نخبهم التوعوية، أنها الأجدر بالانطلاق بتلك الفكرة في مسار حضاري عقلاني يحثُّ على التفكير والعمل وينبذ الثقافة الدينية الجامدة والمعطلة للعقل كما جربوها خلال قرون مظلمة. ولم تستهوِهم الفكرة الدينية الإسلامية بالرغم من إنجازاتها الحضارية والعلمية في كثير من الميادين، فهي لم تكن جاهزة فكريا وعمليا بسبب عدم ثباتها على تصور حضاري موحَّد عند طوائف المسلمين آنذاك.
أما الفكرة الحضارية الموروثة عن اليونان، فقد مرّت باختبارات قاسية في الواقع التاريخي للشعوب الأوروبية، جعلها تبلغ مستوى من النضج الفكري العملي مبلغا كبيرا في أهم مبدأ فيها وهي الحرية، فأهّلها ذلك للإنتشار السريع في العالم الحديث وتأسيس الحضارة المعاصرة على هديها.
وهكذا دشّنت هذه الحضارة عالميتها بلا منازع وأضحت كأنها قدر البشرية المحتوم في العصر الحديث، الذي تعبّر فيه جميع الأمم عن قدراتها الإبداعية المتنوعة في إطار بيئتها الحضارية والفكرية.
الفكرة الدينية والحضارة
قبل توجه الحضارة الإنسانية إلى العالمية كان الوحي الرباني هو الذي يعالج، بالإنذار والعقاب والاستئصال، ضلال وظلم كل أمة استطاعت أن تنجز نموذجا حضاريا في البقعة الأرضية التي توفرت فيها شروط تحقيق ذلك الإنجاز، فكان رسل الله وأنبياؤه يواجهون السلطة وملئها في تلك الأمم الضالة والظالمة، مواجهة مباشرة بعقيدة الإيمان بالله وتوحيده وعقيدة الإيمان بعالم الغيب، حتى لا يورثوا ضلالهم في تسييرهم الحضاري للأجيال القادمة.كان دور الفكرة الدينية إذن في العالم القديم هو التوجيه العقائدي والأخلاقي بمقاومة الشرك بالله والكفر بعالم الغيب والدعوة إلى القيم والمبادئ الإنسانية السليمة من الطغيان والظلم.
ولكن عند انكفاء الفكرة الحضارية اليونانية بسبب عدم اكتمال نضجها وعدم قدرتها على قيادة الحضارة الإنسانية في مرحلة ظهور الدين المسيحي في أوروبا، كانت الفكرة الدينية الجديدة، التي ظهرت في أمة عربية كانت تعيش على هامش النماذج الحضارية للأمم الأخرى في بيئتها الصحراوية القاحلة، تنمو وتتوسع بفضل قيادة رسول منهم وموجه بالوحي الرباني. فقد ترك الرسول العربي محمد، عليه الصلاة والسلام، بعد موته الأسس الدينية للنموذج الحضاري المؤمن، لتستلهم منها الشعوب المختلفة التي دخلت في الإسلام إنجازاتها الحضارية على مرّ التاريخ، ولتُشكِّل في الأخير معالم النموذج البشري الأولي العالمي للحضارة الإنسانية المؤمنة. ذلك النموذج الذي كان ثمرة اجتهادات بشرية متنوِّعة لشعوب مختلفة مؤمنة عبر عصور التاريخ الإسلامي.
الفكرة الحضارية الإسلامية
النموذج الحضاري المؤمن الذي انتشر في كثير من بقاع العالم كان في الواقع يبحث عن إنضاج الفكرة الإسلامية في بيئات ثقافية مختلفة كما حدث للفكرة اليونانية من قبل، لذلك تنوّع تراث الأمة الإسلامية إلى حدّ التناقض والاختلاف الشديد في تصور التوجهات الحضارية على أساس الإيمان بالله.
ولعلاج ذلك الإختلاف كان لا بد أن تمّر فكرة هذا النموذج المؤمن بفترة طويلة أخرى من الإحتكاك بالفكرة المنافسة لها، والتي سبقتها في البناء الحضاري بتصورات واضحة استهوت كثيرا من الأمم بفضل مبدأ الحرية الذي ميزها.
هذه الفكرة المؤمنة بالله بدأت تلك المرحلة بالفعل منذ سقوط الخلافة العثمانية في بداية القرن العشرين وهي مستمرة إلى اليوم، حتى يتحقق شيئا فشيئا بناءُ فكر عملي واضح لأهم مبدأ في الإسلام وهو الرحمة. وكما عاش الأوروبيون فترة عصيبة طويلة مع تحديات الفكرة الدينية في العصر الوسيط سيعيش المسلمون بدورهم فترات عصيبة من جراء تحديات الاحتكاك بالفكرة الحضارية العلمانية القائمة على الحرية.
معيار حضاري جديد
لقد فضحت أحداث حرب غزة ومآسي أهلها غياب الرحمة في العالم المعاصر وبالخصوص في العالم الإسلامي والعربي، وبيّنت صور معاناة الفلسطينيين المؤمنين أنها تحرّك مشاعر المسلمين من منطلق الشفقة التي سرعان ما تندثر في خضم المشاغل اليومية، وليس من منطلق الرحمة التي تستجدي مراجعات عميقة لحالنا ولمواقفنا وحتى أفكارنا الحضارية.
إنّ ما يعيشه أهل غزة هو مؤشر لمعالم حالتين لما سيعيشه المسلمون والعرب بالخصوص في المستقبل، إن شاء الله.
الحالة الأولى هي حالة البلاء الشديد الذي أصاب أهل غزة بتحريض من الغرب؛ ففي المرحلة القادمة سنشهد صدمات وأحداثا تهزّ القلوب وتزلزلها، حتى يزول شيئا فشيئا الدّرن الذي ملأ قلوب المسلمين بعد أن قست، فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة، وستنهار مظاهر تنافسهم في التنمية المادية أمام الفتن العظام التي سيبتلينا الله بها.
الحالة الثانية هي حالة الصبر والصمود التي يغذيها الإيمان بالله والتراحم بين أفراد المجتمع الفلسطيني، فذلك البلاء بيّن معدن المجتمع الفلسطيني المؤمن بالرغم من قلّة حيلته وضعفه المادي الشديد. وهذا النموذج ينبغي أن يدفعنا إلى مراجعة مناهج تنميتنا البشرية وأهدافها، حتى ندرك أننا فرّطنا في أهم أساس حضاري فيها وهو الإيمان بالله الذي يحث على إنجاز الأعمال الصالحة ونشر الرحمة في أوساطنا.
من رحمة الله بنا أنها ستمرّ علينا سنون فتن تأديبية وليس قرونا كما حدث للأوروبيين، حتى نفيق من سباتنا وننهض من جديد بقلوب حية، فيها من الرحمة ما يدفعنا حتما إلى إفراز فكر مؤمن عملي حول مبدأ هذه الرحمة لتجاوز الخلافات الممقوتة ولتوحيد الصفوف. وهكذا بحول الله ستكون الفكرة الإسلامية واضحة المعالم والأهداف الحضارية حول مبدأ الرحمة، وجاهزة للإنتشار لتقارع ظلم الفكر الغربي الذي تبلور حول مبدأ الحرية إلى حد التخمة فأنتج عالما تاجه العلم ولكن ملأه الظلم والفساد.
الأمل فينا نحن المسلمين إذن إذا عدنا إلى رشدنا لتحقيق ذلك التحول في طبيعة ثقافة الحضارة المعاصرة من الظلم إلى الرحمة، لأن قوة إيماننا وديننا ستقهر كل قوة مادية مهما كانت بما سيظهر منا من صور التراحم فيما بيننا ومع غيرنا، وهو ما سيجلب انتباه المجتمعات التي سئمت من مظاهر الظلم والكبر التي أفرزها التنافس المادي في الترف بين الأفراد والأمم.