“مغارة سيرفانتس” بالحامة: شاهد على ميلاد الكاتب بعد أسر الجندي

“مغارة سيرفانتس” الواقعة في بلدية بلوزداد بالعاصمة معلم أثري شاهد على مرور الأديب الإسباني الشهير ميغيل سيرفانتس بالجزائر.
ويعد سيرفانتس (1547-1616) من أبرز الكتاب في إسبانيا والعالم، وكانت روايته “دون كيشوت” التي نشرها عام 1605، من أكثر أعمال الأدب العالمي رواجا، والتي ولدت معها الرواية الأوروبية الحديثة.
وتدور أحداثها حول الخمسيني الطويل والنحيف، ألونسو كيخانو، المقيم في قرية لامنشا، والذي دفعه ولعه بقراءة كتب الفروسية بما فيها من بطولات وشهامة لأن يقرر يوما أن يكون هو أيضا ذلك الفارس الجوال الشهم النبيل، الذي يسير في الأرض لنشر العدل ونصرة الضعفاء، والدفاع عن الأرامل واليتامى والمساكين.
لكنه انتهى به الأمر في الأخير محاربا لطواحين الهواء التي هاجمها حين رآها لأول مرة، معتقدا أنها مصدر الشر، فرفعته أذرعها ودارت به وطرحته أرضا.

باب “مغارة سيرفانتس”، ديسمبر 2024. صورة: ماجيد صراح
قبل أن يكتب ميغيل سيرفانتس هذه الرواية، خدم في قوات المشاة البحرية الإسبانية، حتى عام 1575 حين أسر مع أخيه رودريغو من قبل البحارة الجزائريين، والذين اقتادوه إلى مدينة الجزائر.
وقضى سيرفانتس خمس سنوات في الجزائر، من 1575 إلى 1580، ولا تزال المغارة التي تحمل اسمه والواقعة على تل في بلدية بلوزداد، والتي لجأ إليها أثناء محاولة الهرب إلى اسبانيا، شاهدة على هذه الفترة من حياته التي قضاها في الأسر ومحاولاته للهرب.
“نعلم أن سيرفانتس حاول أربع مرات الهروب من أسره في الجزائر”، تقول لنا الباحثة أدريانا لاسال، صاحبة كتاب “خمس سنوات مع سيرفانتيس“*، في حديثها إلى “الشروق أونلاين“.
وكانت المحاولة الأولى هي الهروب برا إلى وهران وقد انتهت بالفشل بعد أن تخلى الشخص المكلف بقيادته هو وزملاؤه عنهم في اليوم الأول. ليقرر الهاربون العودة إلى الجزائر العاصمة في أفريل أو ماي 1576.
أما في ثاني محاولة هرب لسيرفانتس عام 1577، فلجأ للإختباء في هذه المغارة المطلة على ميناء الجزائر.
وكان يسمح لسيرفانتيس بالتردد على أسواق وشوارع مدينة الجزائر دون حراسة، ما فتح له نافذة صغيرة على ريف وشواطئ المدينة، وعلى قصورها الصيفية بحدائقها الواسعة، وكذلك على سكان المدينة من مسيحيين ومسلمين في ذلك الوقت.

هرم يتوسط ساحة “مغارة سيرفانتس”، ديسمبر 2024. صورة: ماجيد صراح
وتقول لاسال عن المحاولة الثانية “تمكن سيرفانتس من تنفيذ خطته للاختباء في الكهف مع 14 مسيحيا آخرين، وذلك بفضل معرفته العميقة بالحياة هناك ومعرفته بمحيط الجزائر. كما كان ذلك أيضا بفضل تمتعه بحرية أكبر في الحركة وحصوله على مساعدة البستاني المدعو خوان، والمساعدة التي قدمها له شقيقه رودريغو، الذي تم إنقاذه مؤخرا. كانت فترة الانتظار حتى يتمكن من الهروب عدة أشهر، وخلال هذه الأشهر كان سيرفانتس يدخل ويخرج من الكهف حاملا الطعام وكلمات الأمل للفرسان المحبوسين في انتظار وصول السفينة التي سيأتي عليها رودريغو. ولم يختبئ سيرفانتس إلا في شهر سبتمبر. وكان فشلاً آخر، لأن القارب علق على الشاطئ.”
وتضيف الأستاذة السابقة بجامعة الجزائر وعضو جمعية “سيرفانتيستاس” بقلعة هنارة في إسبانيا أنه “من الواضح، إذن، أن سيرفانتس كرّس الكثير من وقته وأشرك العديد من الأشخاص في هذا المشروع. ونستطيع أن نفهم أن الفشل سيكون مريراً بالنسبة له، إضافة إلى أن خوان مات وأُعيد الأسرى الآخرون إلى السجن. أما هو فلم يفقد حياته، بل اشتراه حسن باشا من دالي مامي ليكون أكثر أمناً في سجنه.”
ليقوم سيرفانتس بمحاولتين أخريين للهروب تنتهيان أيضا بالفشل، كي يتم إطلاق سراحه في عام 1580 بعد أن تم دفع فديته.
وتضيف الباحثة “تجربة كهذه لا تنسى في الحياة وهي الوحيدة من بين محاولات الهروب الأربعة التي بقي لها أثر في الجزائر، مع مغارة سيرفانتس.”

ساحة “مغارة سيرفانتس”، ديسمبر 2024. صورة: ماجيد صراح
أثر مرور ميغيل سيرفانتس بالجزائر لا يظهر فقط في تلك المغارة التي تم وضع لوحة تذكارية في مدخلها لأول مرة عام 1887، قبل أن يتم بناء ساحة حولها عام 1926، والتي تعد اليوم من معالم الجزائر الثقافية التي يزورها السواح، بل يظهر كذلك في أعماله الأدبية.
الباحثة أدريانا لاسال التي تصف ميغيل سيرفانتس بـ”الشخصية الغير قابلة للتشخيص”، لأنه “لم يتحدث عن نفسه إلا قليلا، وفي ذكرياته عن الجزائر لم يذكر أفكاره الحميمية”، تذكر أنه في “حكاية الأسير” وهو الجزء المدرج في رواية دون كيخوت “يعيد سيرفانتس خلق شخصيات حسن باشا، دالي مامي، أجي موراتو، أرنوت مامي، وهي شخصيات تاريخية من السنوات التي عاش فيها في الجزائر”، وتضيف “في روايته الأخيرة، أعمال بيرسيليس وسيخيسموندا، وهو العمل الذي كتبه في سنواته الأخيرة، يتذكر سيرفانتس الجزائر مرة أخرى.”
* Adriana Lassel, Cinco años con Cervantes, الجزائر, معهد سيرفناتس, 2012.