-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

نعَم.. “لا تقلق”

سلطان بركاني
  • 1177
  • 0
نعَم.. “لا تقلق”

عبارة “لا تقلق”، أضحت من أكثر العبارات انتشارا على مواقع التواصل الاجتماعيّ، بل غدت تُساق في الواقع -بمناسبة وبغير مناسبة- على سبيل التندّر والضّحك! وأصلها كلمة وجّهها الشّيخ رشيد بن عطاء الله إلى الفقراء وكلِّ من أوصدت في وجوههم الأبواب، بألا يقلقوا، ويصبروا ويثقوا بالله الكريم أنّه سيفتح لهم ما أغلق أو يعوّضهم خيرا.
هُواة الخطف والإثارة وعُشّاق اللايكات، فهموا من الكلمة أنّها دعوة للقعود والرضا بالفقر والحرمان! وأنّها –فوق ذلك- تبرير لجريرة من سرقوا أقوات النّاس وأوصلوهم إلى الفقر.. حتى ذهب بعضهم بعيدا واتّهم الشيخ “رشيد” ومعه الأئمّة والدّعاة بأنّهم يتاجرون بالدّين ويكذبون على النّاس ويدْعونهم إلى الرضا بالفقر، بينما هم (الأئمّة والدّعاة) يتمتّعون بالسكنات والسيارات ويتابعون بين الحجّ والعُمرة!
بتتبّع مصدر هذه الضجّة، نجد أنّ من أوائل من أثارها: شابّ قابع في فرنسا، معروف بأسلوبه “الهابط” في التعليق على الأحداث وكثرة نطقه بكلمات الكفر في حقّ الخالق سبحانه، حملَ كلمة الشيخ على غير محملها، واستهزأ به واتّهمه بالتناقض، وبأنّه ينصح الفقير بألا يقلق ويسكت عن حقّه، ولا ينصح من يسلبه حقّه بألا يسرق! وتبعه في حملته كثير من رواد مواقع التواصل، اتّساقا مع شهوة الطّعن في الدّعاة وأئمّة المساجد التي تستهويها النّفوس لأنّها تجد فيها سلوى لها عن تقصيرها وإخلادها إلى الأرض، ولسان حالها: إذا كان الشّيوخ والأئمّة هكذا، فنحن لسنا ملومين في الانحدار إلى ما دون ذلك!
الشّيخ “رشيد” لم ينصح الفقير بأن يقعد ويرضى بفقره، فهذا ليس من الدّين، لأنّ النبيّ –صلـى الله عليه وآله وسلم- يقول: “المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضّعيف، وفي كلّ خير”، ويقول: “اليد العليا خير من اليد السّفلى”، ويقول: “نِعم المال الصّالح للرّجل الصّالح”.. والشيخ “رشيد” نفسه له مقطع آخر يمدح فيه الغنى.
إنّما كان كلام الشّيخ موجّها إلى من قدّم الأسباب وجدّ واجتهد وسعى في الأرض وطرق الأبواب، ولكنّ الأبواب لم تفتح له.. فهذا هو الذي يوصَى بالصبر والثقة في فرج الله وفضله، ويذكَّر بالنّعم الأخرى التي حفظها الله له، كالدّين والصحّة، حتّى لا ييأس ولا يقنط ولا يسيء الظنّ بربّه الكريم.. كما يوصى مع ذلك بمواصلة السّعي وعدم اليأس، ويؤيّد في طلب حقّه من الجهات التي حالت بينه وبين مطلبه، ويُنكر على من سرق حقّه وحال بينه وبين الوصول إليه.
أمّا من اختار لنفسه القعود والكسل، فإنّه يقرَّع ويزجر، ويذكّر بقول الله تعالى: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون))، وبفعل عمر بن الخطّاب –رضـي الله عنه- حين رأى ثلاثة نفر في المسجد منقطعين للعبادة، فسأل أحدهم: من أين تأكل؟ قال: أنا عبد الله، وهو يأتيني برزقي كيف شاء، فتركه ومضى إلى الثاني فسأله مثل ذلك، فأخبره أن له أخا يحتطب في الجبل فيبيع ما يحتطبه فيأكل منه ويأتيه بكفايته، فقال له: أخوك أعبد منك، ثم أتى الثالث فسأله، فقال له: إن الناس يرونني فيأتونني بكفايتي، فضربه بالدرة وقال له: اخرج إلى السوق.
ما ينبغي أن نفهمه من سنن الله –تعالى-، أنّه لا يضيع عمل عامل، ولا يخيب أمل مؤمّل، لكنّه -سبحانه- لا يفتح الأبواب –دائما- لمن يقصده في الوقت يريده القاصد، إنّما في الوقت الذي يختاره –سبحانه بحكمته-، ولا يجعل النّاس كلّهم أغنياء في نفس الوقت ولو سعى جميعهم وقدّموا أسباب الغنى، لأنّ هذا يتنافى مع طبيعة الحياة التي هي دار امتحان وبلاء؛ ينظر فيها الفقير إلى الغنيّ فيحمد الله على ما منع، ويسأل الله أن يعطيه ممّا أعطى عباده.. وينظر الغنيّ إلى الفقير فيحمد الله على نعمته، ويؤدّي حقّها بالشّكر والعطاء.. ولو أنّ النّاس كلّهم أغنياء لاستغنى بعضهم عن بعض، ولما وجدوا من يقوم بكثير من الأعمال التي لا يستغني عنها النّاس، كالبناء والنّظافة، وغيرهما…
خلاصة الأمر: على العبد أن يجتهد في أن يكون غنيا، ويقدّم الأسباب، فإن وفّق فليحمد الله، وإن تأخّر عنه ما يطلب، فليصبر ولا يقلق ولا يقنط، وليواصل سعيه من دون يأس، ويستمتْ في مطالبة الخلق بحقّه، حتى ولو قضى عمره ساعيا ولم يصل إلى ما تمنّى، فهو في جهاد وأجر عظيم ما دام لم يضيع دينه ولم يغفل عن آخرته، وما دام صابرا محسنا الظنّ بربّه الكريم.
أمّا ما يفعله هؤلاء الذين يسمّيهم الإعلام “الناشطون على مواقع التواصل” مع الأئمّة والدّعاة، حين يلجؤون إلى حمل كلامهم على غير المقصود، طلبا للإثارة، فهذا من عمل الشّيطان الذي يصدّ به عن سبيل الله، وكلّ من سعى في ترويجه ومشاركته فله كفل من الوزر.. الأئمّة بشر، وهم على درجات مختلفة في الوعي، وليس حراما أن يُستدرك عليهم، لكنّ ذلك ليس مهمّة من تقصر أفهامهم عن فهم المقاصد، فضلا عمّن ظهر منهم التربّص بأهل الدّين عامّة، ولا يكون بمثل هذه الأساليب التي تهدف إلى الإسقاط وليس إلى التصويب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!