ورحل داعية الميدان عبد القادر زيتوني

توفي، صبيحة الإثنين، الداعية الجزائري، الشيخ عبد القادر زيتوني، رحمه الله، بعد سنوات كابد فيها المرض صابرا محتسبا، والمتابع لما كتبه عنه محبّوه ورواد مسجده والقريبون منه، وحتى من جمعتهم به محطّات عابرة، يدرك أنّ الرّاحل كان صاحب بصمة واضحة وتأثير ملموس في الواقع، وعلى الرغم من أنّ وظيفته كانت “إمام مسجد”، إلا أنّه كان داعية ميدان، لم يكتف بمنبر وكرسيّ المسجد، ولا بالخير الذي ينشره على صفحته، ولا بدروسه التي يقدّمها في إذاعة القرآن، بل كان -على خطى النبيّ الهادي، عليه الصّلاة والسّلام- يرى منبره في كلّ مكان، حيث كانت حاجة الناس للتذكير والتعليم.
كان يجوب الشوارع معلّما ومذكّرا بلغة يفهمها الصغير والكبير والأمي والمتعلّم، ويدخل الملاعب موجّها وشاحذا للهمم ومذكّرا بالهدف الأسمى من الوجود، ويغشى تجمعات الأطفال مداعبا ومعلّما، ويخالط الشيوخ في مجالسهم واعظا وناصحا.. وكان يزور المستشفيات يوزع الابتسامات ويزرع الأمل في قلوب المرضى، ويذكرهم بأجر الصبر والاحتساب.. كان لا يفوّت فرصة ولا مناسبة لتذكير النّاس وتحبيب الدّين إلى قلوبهم.. حتى وهو على سرير المرض في الأشهر الأخيرة من حياته، كان لا ينفكّ يذكّر من حوله من الأطبّاء والممرضين والمرضى والزائرين بواجبهم وهدفهم في الحياة.
ألقى الله محبّته في قلوب رواد مسجده وكلّ من عرفوه وخالطوه، وحتّى من تواصلوا معه على هاتفه أو عبر صفحته.. حين لمسوا منه صدقا تُعجن به كلماته وحرصا على الخير تشي به ملامحه وعباراته.. ما عرف عنه أنّه كان طالب إعجاب ولا ساعيا خلف المدح والثناء.. تمرّ بكلمة له مسجّلة، فتشعر بسحر في كلماته التي تأسر القلوب، لكأنّها تتدفّق من قلبه وتسري مع دمه، أو لكأنّه يغرفها من روحه.. وتزداد حلاوة كلماته ويزداد أثرها في النّفس إذا عرفته من قرب وخالطته ورأيت رفعة أخلاقه، فقد كان -رحمه الله- سهلا لينا مع النّاس، يعيش همومهم ويهتمّ بحاجاتهم، ويسعى لمدّ يد العون لمن عضّتهم الدّنيا بنابها.
رحل رحمه الله، واختاره الله إلى جواره، بعد أن أعطى في أشهر حياته الأخيرة نموذجا قلّ نظيره في هذا الزّمان، للعبد المؤمن الصّابر على بلاء الله، المحتسب في كلّ ألم وكلّ وجع.. كان يتنقل بين العيادات والمستشفيات، وابتسامته تخفي آلامه، لا تسمعه إلا وهو يحمد الله على البلاء.. كان يتلقى جرعات العلاج الكيماوي بآلامها المحرقة، وهو يحمد الله، ولسانه لا يفتر عن تذكير من حوله بالصّبر.
رحل رحمه الله، بعد أن سطر للأئمّة والدّعاة نموذجا من أروع النّماذج في هذا الزّمان للداعية الموفّق الذي يستمدّ العون والتوفيق من الله، ويحرص على الصدق في القول والتصديق بالعمل، وعلى التواضع وحمل همّ هداية الناس والأخذ بأيديهم إلى رحاب الصلاح والاستقامة.. لم يكتف -رحمه الله- بالتّنظير، بل نزل إلى الواقع ليصنع طريقا لكلماته في القلوب والعقول والأعمال والأحوال، وليعلّم النّاس أنّ الكلام يمكن أن يتحوّل إلى واقع، مهما صعب الزّمان، إذا صدقت النيات وتعلّقت القلوب بمحييها ومثبّتها سبحانه، وتعالت الهمم قليلا عن الحظوظ الفانية.
عرفت الجزائر دعاة أشهر من الشيخ عبد القادر -رحمه الله- في القنوات والمواقع، ولكنْ لعلّ الواقع لم يعرف للشيخ عبد القادر -رحمه الله- نظيرا في الحضور والنشاط والحرص على التغيير.
كان -رحمه الله- في الأشهر الأخيرة من حياته، يدعو لنفسه بالشّفاء، لا ليستمتع بدنياه، ولكن ليعود إلى مسجده الذي اشتاق إليه قلبه وهفت إليه روحه، وسالت لأجله مدامعه.. وكتب كلمات بدموعه أسالت دموع أحبابه ورواد مسجده، قال فيها: “كم هو صعب فراق المسجد، وقد ألفناه والله.. ارتباط الإمام بمسجده ارتباط الروح بالجسد. كلما أذن المؤذن أو حان وقت الصلاة يقطر القلب دما ويتذكر، والذكرى مؤرقة: إنها صلاة الجماعة والجمعة ولقاء الأحبة. يتذكر “استووا.. سدوا الخلل.. لا تختلفوا.. الله أكبر”؛ فما أعظمها وأرقها من كلمات.. لا شيء يؤثر على من ابتلي بهذا كزيارة أهل مسجده له حين مرضه والله.. فيتذكر الأيام الخوالي وكل لحظة له معهم.. فتراهم يخصونه بالدعاء والاعتناء.. ولربما قال أحدهم صادقا: والله ما تركناك في سجدة من سجداتنا لتعلق الأمر بشعيرة الصلاة وكل صلاة تذكرنا بك.. فما أعظمها من كلمات مؤنسة تبعث الأمل والفأل والرجاء”.
تمنّى الشّيخ أن يواصل مسيرته، ولكنّ الله اختاره لما هو أفضل وأكرم له، نحسبه كذلك، ولعلّ الكريم سيكتب له من الأجر ما يرجوه ويتمنّاه، ويجعل كلماته المنثورة في المواقع والصفحات ذخرا له بعد رحيله.. وها هو بفضل الله يدفن في المقبرة المجاورة لمسجده الذي كان يخطب الناس من على منبره ويؤم الجموع في محرابه، ويحفّظ كلام الله في رحابه.. ستبكيه عيون الآلاف ممن تابوا على يديه واستقامت حالهم بفضل الله أولا ثمّ بكلماته ومواقفه، ولعل رواد مسجده سيبكونه طويلا وستلهج ألسنتهم بالدعاء له في الصّلوات وفي كلّ مناسبة يتذكّرون فيها وجهه الأنور. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.