-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

آه سليمان: كم كان رحيلُك المبكر مؤلما ..

محمد بوعزارة
  • 1261
  • 3
آه سليمان: كم كان رحيلُك المبكر مؤلما ..

فتحت جهاز الهاتف وكم هالني عددُ الرسائل وهي تخبرني برحيلك الذي كم مفجعا في تلك الصبيحة من يوم الجمعة الثاني جويلية 2021، ثم راح كثيرٌ من الأصدقاء ومن أفراد العائلة عبر العديد من المكالمات الهاتفية التي تهاطلت عليّ من خارج الوطن ومن داخله وهم يقدمون لي واجب العزاء فيك، فقد كانوا يعرفون تلك العلاقة والصداقة التي جمعتني بك على امتداد 35 عاما، إذ لم تنقطع عني أنت يا سليمان، ولا انقطعتُ عنك حتى في تلك السنين الشديدة الوطء عنا في تسعينيات القرن الماضي.

في النصف الثاني من مارس 1986 ــولم يكن قد مضى على وجودي بورقلة مديرا لمحطة التلفزيون سوى أيامٍ معدودات- تلقيتُ رسالة لطيفة من شاب أنهى للتو دراسته الجامعية، كان هذا الشاب البالغ من العمر آنذاك 23 عاما اسمه سليمان بخليلي يريد أن يكون صحفيا بالمحطة التي لم تكن تحمل من المحطة سوى الاسم .

كان التوظيف وقتها متوقفا بسبب الضائقة المالية التي كان يمر بها البلد في تلك السنين العصيبة .

قرأتُ الرسالة بتمعُّن وقلت في نفسي بأن شابا بمثل هذه الأفكار التي حملتها رسالتُه هذه يمكن أن يكون صحفيا كبيرا بل ونجما لامعا في التلفزيون. وهكذا وجدتني أكتب لك رسالة أدعوك فيها إلى القدوم للمحطة فورا لإجراء تجربة كتابية وبالصّوت والصورة.

وعند إجراء تلك التجربة رأيتُ في سليمان فعلا مشروعَ صحفي كبير قادمٍ نحو عالم التلفزيون.

راسلتُ المدير العام للتلفزيون حينها الصديق عبد القادر براهيمي لتوظيف سليمان بعد أن وظفتُ قبل ذلك عددا من الصحفيين إثر عملية الهيكلة التي بدأت مع شهر جويلية، لكن باب التوظيف كان قد أغلِق.

كان عزمي ألا تُضيعَ مؤسسة التلفزيون هذه الموهبة الواعدة، فقد توسطتُ له لدى مديرية التربية بورقلة لتوظيفه كمعلم، كما تدخلت له لدى والي ورقلة لمنحه سكنا بعد أن سمحت له قبل ذلك بالإقامة في السكن الوظيفي للمحطة مع عدد من الصحفيين .

حدث كل ذلك في فترة وجيزة 
نجم تلفزيوني شاب ضليع في الدين ..

في شهر سبتمبر من العام الموالي 1987 تم توظيف الراحل صحفيا متربصا بمحطة التلفزيون بورقلة .ولأن سليمان كان حاملا لكثير من الأفكار المبدعة ولمشاريع البرامج، فقد راح بالإضافة إلى تقديم الأخبار يقترح عليّ أكثر من برنامج تلفزيوني منتجا ومنشِّطا له .

كانت الجزائر في تلك الفترة خصوصا بعد إقرار التعددية السياسية والإعلامية بفعل دستور 1989 وقانون الإعلام الصادر في 1990، تعيش تجربة سياسية عسيرة تمثلت في ظاهرة التطرف التي جسدها خطابٌ ديني عنيف يكفِّر الآخر دون سند شرعي أو قانوني، ولذلك اقترحت على الراحل عبدو بن زيان المدير العام للتلفزيون تلك الفترة رحمه الله أن يُستحدث برنامجان في الشبكة البرامجية التلفزيونية التي كان يجري إعدادُها لمواجهة هذا التطرف في محاولة لتقديم الإسلام في صورته السمحة .

وهكذا برز سليمان في ظرفٍ وجيز كوجهٍ تلفزيوني مميز منذ البداية ضليعٍ في المسائل الفقهية والدينية وهو يقدم برنامج “نور على نور” ثم “وهديناهُ النجدين”   .

واستضاف في البرنامجين عددا من الوجوه الضليعة في مختلف المسائل المتعلقة بأمر الدين من أمثال عبد الرحمن الجيلالي وأحمد حماني ومحمد كتو رحمهم الله ومحمد مكركب والدكتور زيد الخير أطال الله في أعمارهم .

كانت الاعتبارات التي جعلتني أُسند له أمر إعداد وتقديم البرنامجين كونه كان متمكِّنا في أمور الدين، فقد كان سليمان حافظا لكتاب الله منذ أن بلغ التاسعة من عمره، ثم إنه كان    -كما أخبرني- قد أمَّ الناس في صلاة التراويح ببسكرة وهو لم يبلغ سن العاشرة بعد، كما أن والده الشيخ أحمد رحمه الله كان أحد الأئمة الكبار في أحد مساجد بسكرة .

كفاءة عالية

ونظرا للكفاءة العالية التي أظهرها منذ البداية، ولروح المسؤولية والمبادرة التي كان يتميز بها، فقد اقترحتُه رئيسا للتحرير بمحطة ورقلة، وهي المهمّة التي تولاها بكل اقتدار، مضيفا إليها كثيرا من الأفكار لتطوير برامج الإنتاج في المحطة وفي التلفزيون عموما، وهذا ما بوَّأه لاحقا ليصبح مديرا للإنتاج بالمؤسسة الوطنية للتلفزيون .

كان الراحل سليمان بخليلي حالة استثنائية متفرِّدة، ليس في عالم التلفزيون وفي السمعي البصري فقط، ولكنه كان أيضا قلمًا متميزا وفارسا في اللغة العربية، وكان صاحبَ أفكار وطموح لا يقف عند حد معين ..

في 1994 ترك الراحل سليمان التلفزيون العمومي وأنشأ مؤسسته الخاصة (سات) التي كرَّسها للإنتاج السمعي البصري .

وراح يقدم العديد من البرامج الناجحة سواء للتلفزيون العمومي أو لبعض القنوات العربية مثل برنامج (خاتم سليمان )

وكانت همَّتُه العالية لا تتوقف عند لون إعلامي معين، فقد أصدر كذلك مجلة ثقافية مكتوبة راقية أطلق عليها عنوان (الفرسان)، كانت إضافة نوعية أخرى إلى برنامجه التلفزيوني المميز (فرسان القرآن).

ومع ظهور عدد من القنوات الخاصة، ومن بينها قناة “الشروق”، وجد المرحوم سليمان بخليلي في الراحل علي فضيل والفريق الذي تشكَّل حوله سندًا قويا جديدا إذ لم يصبح سليمان مسؤولا في “الشروق” فقط، بل إنه راح يُنتج عددا من البرامج الناجحة من بينها: (زدني، فارس الأذان، شاعر الرسول، ساعة من ذهب)، وغيرها من البرامج  التي كانت تحظى بمتابعة كبيرة من قِبل المشاهدين .

كما أنتج عددا من البرامج الناجحة، وأجرى حواراتٍ مع عدة شخصيات جزائرية وأجنبية.

علاقة متينة مع الراحل ..

لم تنقطع علاقتي إطلاقا بالراحل، فقد كان يعتبرني أخاه الأكبر، بل إنه كان يقول لي بأنه كان يأخذ بكثير من نصائحي كما كان يفعل ذلك مع والده رحمه الله .

في العام الماضي 2020 أخبرني عن طموحه الكبير لإطلاق قناة تلفزيونية بعنوان (البديل)، وهو الأمر الذي استحسنته وشجَّعته بشأنه لشعوري بقدرته على النجاح في ذلك .

وقبيل انطلاقة تلك القناة في الخامس جويلية من العام الماضي كتبتُ منشورا قصيرا في  صفحتي على الفيسبوك يوم 3 جويلية 2020 بعنوان :

البديل: هذا هو مكانك الطبيعي سليمان بخليلي..

دعك من السياسة سليمان، فلم يعد في السياسة صدقٌ ولا صار لها مصداقية.. صارت السياسة تلوُّنًا وبلطجة وفسادا في المال بعد أن ركبها من هبّ ودب ..مكانُك هو هذا العالم يا سليمان.. مكانك هو عالم الاتصال.. هو عالم التلفزيون.. مكانك أن تجعل من البديل قناة تلفزيونية تكون بديلا للرداءة والتهريج.

منذ كتبتَ لي أول رسالة في شهر مارس 1986، وأنا أرى فيك واحدا من الأجيال الجديدة التي ستصنع هذا البديل..

لقد حققتَ خطواتٍ كبيرة، وقطعتَ كثيرا من الأشواط وأنت تبدع ضمن مشروعك لتكون البديل القادم.

اليوم فقط أفرحتني عندما أخبرتَني أنك بدأت في تجسيد ذلك البديل الذي رأيتُه فيك قبل 34 عاما..

وهكذا عايشتُ ميلاد البديل، وكانت فرحتي بانطلاق هذا المشروع مثل فرحتي بميلاد وبنجاح أبنائي .

كان الراحل يستشيرني باستمرار في مختلف المسائل، بل إنه طلب مني أن أكتب له من حين لآخر تعليقات وتحليلات لقناة البديل عن بعض الأحداث والمستجدات الوطنية والدولية والإقليمية، وهذا ما فعلتُه مرات عدة إذ بثت القناة لي عددا من التعليقات تارة بصوته، وتارة أخرى بصوت الصحفي الواعد زياتين.

وعندما أصيب الراحل العزيز سليمان بجائحة الكورونا رحمه الله اتصل بي يخبرني بذلك في نبرة إيمانية عالية، وطلب مني أن أدعو له بالشفاء .

ويعلم الله أنَّ اتصالي معه لم ينقطع يوما منذ مرضه، إذ كنت أتصل به أحيانا صباح مساء، وأحيانا عن طريق ابنه أحمد أو عبر صديقنا المشترك الفنان الرقيق فؤاد ومان .

في الساعة السادسة والدقيقة 35 من أمسية الأربعاء الماضي 30 جوان وجدت رسالة رقيقة من الراحل سليمان عبر الواتساب جاء فيها بالحرف:

مرحبا سي محمد ..

مازلتُ في مرحلة عدم التركيز، ولذلك أرجو التكرُّم بكتابة تعليق لقناة البديل بعنوان :

(البديل، شمعة على الدرب) وذلك لبثه يوم 5 جويلية إن شاء الله، تركّز فيه على مبدإ قناتنا في انتهاج الاعتدال والموضوعية والسعي لتكريسِ إعلامٍ بديل وفق رؤيةٍ جديدة، وأننا إذ نطفئ الشمعة الأولى بعد عام من البث، فإننا نعتبر أنفسنا شمعةً تعزز المشهد التلفزيوني المتنوع الذي ينير درب الإعلام .

والله يحفظك ويرعاك أخي الغالي .

ورددتُ عليه بأن أن يهتم بصحته أولا.

ثم كتبت التعليق وأرسلته بناء على رغبته لرئيس التحرير الشاب مصطفى زياتين وصحَّحته معه عبر الهاتف، ثم أرسلت نسخة منه للراحل سليمان في الساعة السابعة والدقيقة 42 من مساء الخميس.

كان ذلك آخر اتصال معه رحمه الله قبل أن ينتقل إلى رحمة الله بعد تسع ساعات من ذلك الاتصال.

مع الساعات الأولى من صباح الجمعة بلغني الخبرُ المفجع، كدتُ لا أصدِّق، لكنه قضاء الله الذي لا راد لقضائه ..

رحمك الله سليمان، أيها الرفيق والصديق والحبيب والمبدع الموسوعي الذي غادرنا مبكرا.

يسكنني الوجعُ لفراقك يا فارس القرآن والإعلام ..

آهٍ يا سليمان كم كان رحيلك المبكر مفجعا ومؤلما .

رحمك الله يا سليمان وأسكنك فسيح جناته وألهمنا جميعا فيك الصبر والسلوان .

إنا لله وإنا إليه راجعون.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • برق

    شاءت حكمة الله في هذه الدنيا الحقيرة، أن يذهب الصالحون و العباقرة و يبقى الغوغاء ؟

  • غزاوي

    مجرد تساؤل. من ترك بخليلي يموت !!!؟؟؟ أؤمن بالقضاء والقدر كما أؤمن بالأسباب، ومن بين الأسباب العلاج. الأستاذ بخليلي رحمه الله توسل أكثر من مرة للسلطات للتكفل بحالته الحرجة، كما تُكفل بأخرين، لكن إستغاثته كانت صيحة في واد. لذلك أعتبر أن من بين أسباب وفاته الذين لم يسمعوا استغاثته و" تركوه يموت " كأن حق التكفل بالعلاج في الارج لأجزائريين دون دو جزائريين أخرين. وقد تم التكفل حتى بمهرجين. ولو كنت من عائلة بخليلي لرفضت تعازي أي مسئول.

  • حمادي فيصل ليسانس مالية

    وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ