أبعدوا النخب العلمانية والحداثية فحضارتُهم سقطت

عمل الغربُ الاستعماري الصليبي اليهودي بعد نيل الشعوب العربية والإسلامية حريَّتها الشكلية واستقلالها الصوري أواسط وبُعيد القرن العشرين على تحضير كتائب من النخب والعملاء والمناصرين والمؤيدين والمخلصين لاستمرار وبقاء منظومة الفكر والفلسفة والإدارة واللغة والتحكم وفيةً لبقاء واستمرار المشاريع الاستعمارية الاستكبارية الطاغية، التي تبلورت عبر سنين السيطرة والاستذلال الاستعمارية.
سعت تلك القوى الاستعمارية العلنية والخفيّة رفقة الماسونية والصهيونية العالمية إلى الحفاظ على بنية وهيكلة وإدارة تلك الأنظمة وفق الماضي والإرث الاستعماري، ما يعني خروج المستعمِرين بجيوشهم علنا وإحكام الفرية والكذبة الكبيرة على الشعوب المسكينة فقط، وتحديد يوم للاستقلال ولنيل الحرية بخروج آخر جندي استعماري واستعادة آخر ثكنة عسكرية استعمارية وملئها بالجنود والعساكر المحليين ورفع العلم الوطني فيها على أنغام النشيد الوطني وبحضور الصحافة ووسائل الإعلام وتصوير المنصة الغاصة بالوفود والمحتفلين والمصفقين والضيوف تحت هتافات الجماهير المخدوعة..
وهو ما يعني أيضا أن أساطين وشياطين الاستعمار قد دبّروا لمستعمراتهم القديمة أمرا في الخفاء.. بدأ بقيود المعاهدات وأغلال الاتفاقيات وبنودها وموادها المذلة الواجب تنفيذها دون مناقشة. وما يعني أيضا تقديم النصح والإرشادات وإبداء الرأي في الكثير من أمور إدارة الدولة ونوعيَّة الأشخاص المؤهَّلين بزعم الفهم والنصيحة الاستعمارية لتسيير شؤون الدولة، بل فرض نوعية ما من الدساتير، وترشيح نوعيات ما من الأشخاص المؤهَّلين –بزعمها- لقيادة وتوجيه بعض القطاعات الحيوية والحساسة في الدولة العربية أو الإسلامية الفتية..
وقد سبق للإدارة الاستعمارية أن أعدُّوا بإحكام هذه النخب من خلفهم، وكوّنوها بدقة وشحنوها بالمحتوى الاستعماري المتخفِّي وراء ما يُسمَّى “الفلسفة المادية الوضعية”، أو ما يُطلق عليه “التفكير الموضوعي المطلق”، أو “العلمانية العلمية المحايدة”، والتي تستبعد القيم الدينية والأخلاقية والقيمية والوطنية من عمليات التخطيط وإعداد المشروعات التنموية لتلك الدولة.. بل تتدخَّل تلك القوى وتتحكّم عن طريق إبداء رأيها في تعيين أعلى شخص على رأس تلك المؤسسة أو حتى الدولة ومؤسساتها الحيوية والسيادية.. وهو بدوره يقوم باختيار الخونة والأوفياء مثله لاستمرارية المشروع الاستعماري كي يعينوه على أداء المهمة الخيانية بنجاح.
وقد شاهدنا من خلال قراءتنا لآلاف الكتب التي تناولت تاريخ كل دولة عربية وإسلامية على حدة، وكيف استطاعت تلك القوى الاستعمارية الخفية استيعاب واحتواء وتطويق وبلع المؤسسين الأوائل واستبدالهم بطرق استخباراتية وتآمرية وانقلابية شتى، فكم من ثورة قُتل زعماؤها وقادتها غيلة؟ وكم من ثورة اختُرقتْ من الداخل وهُمِّش مفجّروها؟ وكم من ثورة أو حركة تحريرية حُوّرت وحُرفت عن مسارها الحقيقي؟ وكم من ثورة تحولت عن وطنيتها خدمة لوطنية ومشاريع مستعمِر الأمس؟ وكم من زعيم ثوري ووطني محترم صار خائنا ورحل إلى قبره بفعل التآمر والكيد والدعايات الاستعمارية الكذابة كخائن ومرتد يستحق اللعنات؟ وكم من وضيع ومتآمر أُتي به من المخامر والمراقص وأزقة العواصم الأوربية ونُصِّبَ حاكما على ثورة قادها الشرفاء والوطنيون والأوفياء؟ وكم من زعيم زوَّجوه جاسوسة أجنبية ليصير زعيما ويحكم بلاده استمرارا ووفاء للفترة الاستعمارية كليوبولد سنغور زعيم السنغال ومختار ولد دادة زعيم موريتانيا ومحمد علي جناح في باكستان.. حتى ليكاد المستعمِر يطير فرحا أنه ارتاح من صداع حملات وسائل الإعلام التي باتت تُقضُّ مضجعه حول القتلى والخسائر، فاستعاض بهؤلاء الموالين له المدرَّبين على مشاريع الخطط الاستعمارية لاستمرارية الفلسفة والإدارة والقوانين واللغة الاستعمارية بعد خروجهم من تلك القطعة الترابية التي باتت تكلّفهم الكثير من العنت والمشاق والخسائر من أجل الحفاظ عليها.
واستطاعت الآلة التدميرية الاستعمارية في شقها الفلسفي واللغوي والإداري والتربوي والتعليمي والإعلامي والاقتصادي والمالي.. بعد أن فشلت في شقها التدميري العسكري والتاريخي القديم أن تنجز بتلك الدفعات العميلة والوفية للفلسفة والإدارة والمشروع الاستعماري التي خلّفتها وراءها لتحكم ذاك البلد من أن تقوم بوظيفتها الخيانية على أتم وجه، وحفظت استمرار الوجود الاستعماري عقودا طويلة، من خلال عملها الدؤوب واستماتتها وتفانيها في خدمة وتنفيذ بنود استمرارية المشروع الاستعماري.. فكم من بلاد عربية أو إسلامية تبدو لنا أنها تحررت واستقلت، ولكنها في الحقيقية مازالت خاضعة وسائرة ومقتفية أبجديات المشروع الاستعماري؟ ولولا بعض مظاهر السيادة الكاذبة التي تخطف وتسحر عقول السذج لظننتُ أنها مازالت مستعمَرة تابعة لسياسة وخطط ومشاريع مستعمِر الأمس، ولا حاجة لنا باللجوء لضرب الأمثلة، فالأمثلة كثيرة وعديدة وواضحة للعيان ولاسيما في عالمنا العربي والإسلامي، فكم من كيان عربي وإسلامي اليوم لولا مظاهر السيادة الكاذبة لقلنا بكل عفوية وتلقائية إنه مستعمَرة إنجليزية أو فرنسية أو أمريكية أو يهودية صهيونية وعلى رأسها دول التطبيع…
وكم من بلدٍ عملت فيه النُّخب الاستعمارية الوفية مبضعها لاستمرار عمليات الاستئصال والتخدير والمسخ والتشويه والفسخ والبتر والإبعاد القسري والخفيّ عن مقوماته ومعالم هويته الوطنية؟ وقد نجحت الإدارة الاستعمارية في استبقاء مستعمراتها تابعة لها إلى اليوم بفضل سيطرة وهيمنة تلك النخب على أهم القطاعات الحيوية للأمة، فتجدهم يحتلون المراكز القيادية المفصلية والمؤثرة والحساسة في السلطة، فكل صغيرة وكبيرة وشاردة وواردة تمر على عيونهم ويدققون فيها، حتى يأمنون على انسجامها وتوافقها مع أبجديات المشروع الاستعماري المُوكل إليهم حمايته تحت مظلات العصرنة والتقدم والنهضة والتنوير والحداثة والعلمانية.. ومقاومة الجمود والتخلف والعصبية والعنف والقوى الظلامية.. التي ملأت وسائل الإعلام والدعاية الكاذبة خدمة لتلك المشاريع الهدامة.

الأمثلة كثيرة وعديدة وواضحة للعيان ولاسيما في عالمنا العربي والإسلامي، فكم من كيان عربي وإسلامي اليوم لولا مظاهر السيادة الكاذبة لقلنا بكل عفوية وتلقائية إنه مستعمَرة إنجليزية أو فرنسية أو أمريكية أو يهودية صهيونية وعلى رأسها دول التطبيع.

ولذلك تجد في مثل هذه الدول والكيانات والأنظمة منظومةً استعمارية وطنية متحكمة في مفاصل السلطة الحساسة، ففي قطاع الخطوط الجوية والطيران والنقل البحري أيضا بكل منشآته حتى تعيين مضيفة طائرة يتدخلون في مواصفات وخصائص وعِرق وثقافة وتوجه وديانة من سيتولى هذا المنصب، فضلا عن قائد الطائرة ومساعديه، ومثله في هذا الولاء الاستعماري والوفاء له قطاع البنوك والمالية والنقد تجده يخضع ليهود ذلك البلد المتخفِّين، والذين عملوا نهاية الفترة الاستعمارية للتخفي وتغيير هوياتهم وألقابهم ومقار سكناهم وللتحكم والتموقع في هذا القطاع الحيوي والحساس، والذي تجده دائما يتعرض -بفعل عمليات التدمير الخفي- للتراجع والخسارة والانهيار، فثمة العديد من الدول العربية التي تُعيِّن وزيرا للمالية من اليهود المتخفِّين المتربصين بذلك الوطن بتوصية أو بمحاولة لاكتساب رضى وقبول المجامع المالية العالمية، كون هذا الصنف من الشخصيات المالية مربوط سريا بالمنظمات اليهودية العالمية الخفية والتي تدير قطاعات المال والبنوك وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي وسائر فضاءات مؤسسات المال والأعمال العالمية..
ولم يسلم من ذلك قطاعُ المجالس الاستشارية القانونية والمالية واللغوية والشبابية والاقتصادية والثقافية والدينية والسياسية أيضا.. وقطاع الأمن والإدارة والإعلام والثقافة والتربية والتعليم والتعليم العالي والمدارس العليا للإدارة والقضاء وتكوين الإطارات العليا.. حتى الشؤون الدينية وتكوين الأحزاب يخضع بشكل أو بآخر لمراقبة وهيمنة مثل هذه النخب الوفية لبقاء واستمرار المشاريع الاستعمارية..
ولم تكلّ أو تيأس القوى الاستعمارية يوما من العمل الدؤوب على استمرار هيمنتها الاستعمارية على ممتلكاتها الآفلة، فقد عملت بكل ما تملك من نفوذ وسيطرة داخلية وخارجية على خلق موالين وأوفياء لاستمرارية المشروع الاستعماري في مستعمراتهم القديمة، حتى تسرَّبوا لفضاء النضال وتكوين الأحزاب والارتماء في أحضان الفلسفات والإيديولوجيات اليسارية الماوية واللينينية الماركسية والتروتسكية والعلمانية واللادينية والإلحادية والمثلية أيضا.. ولم يتركوا حتى مجال الأدب والفكر والفلسفة والتاريخ وعلم الآثار والانثربولوجيا والسوسيولوجيا وقطاع التأليف والكتابة والطباعة والنشر والصحافة والإعلام والقنوات الخاصة.. وحتى منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الخيرية والهلال الأحمر وقطاع الهجرة والنقل البحري والجمارك والأمن.. حتى لتكاد تراهم قد سيطروا على كامل قطاعات الأمة الحساسة التي انهارت في عقودٍ من الإفساد والتخريب المتعمَّد..
وقد نجحت هذه النخب في التخفي والتواري الشيطاني وراء الفلسفات العلمانية ومحاربة اللغة العربية وشغبها باللهجات المحلية، وركبت مشاريع اللوائح القانونية وتدوين الدساتير والعبث بمبادئ الأمة تحت شعار الحيادية، كما ركبت أيضا موجة بروز وسيادة بعض المذاهب الفلسفية والنزعات الانحلالية والسدومية واللوطية الآمثة، وغير متورِّعين عن تحويل واستغلال أموال الأمة في خدمة مشاريع الانحلال والتزوير والتحريف وترسيم تقسيم الأمة.. فكم كان لهم دورٌ تفكيكي لمفاصل وحدة الأمة من خلال تزوير التاريخ وتقديم نسخة رسمية مزيفة عن التاريخ الوطني، وتحقير القيم الوطنية بمقابل خلق تاريخ وقيم غريبة بأيدي أشباه الكتّاب والمؤرخين والباحثين المعجونين بنظريات الاستعمار الانثربولوجية والتفكيكية والتشكيكية والتحللية والتحررية من كافة القيم..
وقد سعت هذه النخب الوفية لاستمرارية المشاريع الاستعمارية للعبث والتلاعب بالمحتويات التربوية والتعليمية والقيمية واللغوية، واعتماد مناهج ونظريات ومقاربات بعيدة كل البعد عن عمق وأصالة وهوية الأمة، وكان قطاع التربية والتعليم والإعلام والثقافة أخطر ميدان اقتحموه خدمة للمشاريع الاستعمارية واستمرارها، عبر أطروحات تغريبية تشويهية حداثية غير مؤصَّلة أو مُوطَّنة أو مؤسَّسة، فنكبوا واغتالوا وشوَّهوا أجيالا بكاملها، عبر تغيير وتبديل محتويات البرامج الدراسية ولاسيما في مواد الهوية والأصالة.. وذلك بالتخفي وراء الفلسفات والنظريات والقيم الحضارية الغربية في تناغم وانسجام بين مختلف القطاعات التي سيطروا عليها سيطرة تامة.. وعندما تنكشف استراتيجية ومذهب يحتمون ويختفون وراء مذهب ونزعة ومقاربة أخرى يطيلون بها عمر المشاريع الاستعمارية في بلاد العروبة والإسلام.
أما الترويج لتلك المشاريع بأموال الأمة وخدمتها للمشاريع والرؤى والأطروحات الغربية اليهودية فلا تكاد تنتهي، معتبرين قداسة ونموذجية ما تنتجه الفلسفة الغربية، واليوم نسألكم: ماذا بقي لكم لتقدّموه من مدنية الغرب الصليبي اليهودي الساقطة أخلاقيا وقيميا وحضاريا ومدنيا.. غير أن تنكشفوا لما تبقى من وطنيين في البلاد، وأن ترحلوا بصمت، أو أن يبعدوكم في محاكمات سقوط الإمبراطورية الغربية كيوم سقوط الامبراطوريات الاستعمارية الرومانية والبيزنطية والقوطية والوندالية؟ وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد سقطتم يوم سقط الغرب أخلاقيا.. إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض.. أللهم اشهد أني بلغت.