الرأي

أربعة دورو تاع العيد والسينما

أمين الزاوي
  • 3559
  • 22

أربعة دورو تاع السينما، صغارا كنا، ربما ما كان يشغلني يوم العيد، الصغير منه والكبير أيضا، ليس الخروف ولا قرنا الخروف أو الكبش ولا الحلوى ولا الألبسة الجديدة التي كان والدي رحمه الله على قلة الحال والمال لا يفرط في شرائها دون إفراط ولا بذخ ولا تبجح، ما كان يشغلني ويجعلني أتلهف ليوم كهذا اليوم السعيد هو “الذهاب إلى السينما”، هذا البيت العجيب الذي قلب كثيرا من موازين الدنيا لدي.

لست أدري لماذا ترتبط صورة العيد عندي بصورة قاعات السينما التي كنت أرتادها كي أشاهد برنامج الأفلام الخاصة بالمناسبة، كلما سقطت بيدي قطعة الأربعة دورو. كانت الأربعة دورو بقيمة المليون الآن وربما أكثر!

لم تكن قاعات السينما فخمة ولا الكراسي فاخرة بل من حطب أو صفيح الحديد تشبه تلك التي يتم صفها أيام المناسبات الوطنية التي تقيمها البلديات، أو تلك التي توضع قدام باب العزاء، ومع ذلك كان الكرسي الذي نجلس عليه مريحا جدا جدا وكان هواء القاعة المغلقة منعشا جدا جدا صيفا وشتاء مع أن لا تهوية كانت ولا تدفئة.

والصورة على الشاشة التي لم تكن سوى قطعة قماش الباش الأبيض كانت في عيوننا جميلة وصافية وبالألوان الثنائية الأبيض والأسود ومع ذلك كنا نراها بكل الألوان التي يمكن أن يصنعها خيال جامح كخيالنا، ومع أن الشريط كان يتقطع مرات في وسط العرض كما في أوله وفي آخره، وكنا نصرخ محتجين على هذا القطع متلهفين لمعرفة متواليات القصة، ومع ذلك كنا نعتقد بأن الفرجة السينمائية ليست فرجة إذا ما خلت من هذه اللحظات الحاسمة، لحظات الانقطاع، فالسينما الممتعة كما كنا نراها ونتمناها هي تلك التي لا بد وأن يتقطع فيها الفيلم أربع مرات على الأقل وإلا ليس ذلك بعرض أساسا، لأن صراخنا كان جزءا من العرض، جزءا من الفيلم، جزءا من العيد.

كان لبائع الكاوكاو والبزر (الزريعة) الأبيض والأسود حضور متميز ومدهش، يمر بين صفوف الكراسي فلا يزعج أحدا ولا يتعثر في ساق أحد على الرغم من الظلام الدامس. كم كانت شهية رائحة الكاوكاو الساخن !!

صحيح إن العيد علمني، وعلم أقراني من أطفال الحارة والدشرة والقرية والمدرسة، كيف يجتمع أفراد الأسرة التي ما عادت اليوم تجتمع، تجتمع كانت مع أن لا أحد كان يملك سيارة، واليوم حتى وإن كان لكل فرد سيارة فلا أحد يلتقي أحدا، صحيح إن العيد علمني كم هو كبير الجد والأب في عين الأخت والأخ والابن والبنت وكم هم محترمون العم والعمة والخال والخالة، وكم هو السؤال ضروري عن حال الجار وجار الجار وكم هو تذكر الأموات الذين نحبهم والذين رحلوا وكنا نتمنى لو أن رحيلهم تأخر قليلا كي يعيدوا معنا عيدا آخر ولكنها مشيئة الله، صحيح أن العيد في قريتنا، في أسرتنا علمني كل هذ ولكن العيد علمني حب السينما أيضا.

الأربعة دورو تاع سينما العيد هي التي ومن خلال الشاشة الكبيرة فتحت عيني على روايات كتاب كنت أقرأ أسماءهم مقرونة بهذه الأفلام. الأربعة دورو تاع السينما هي التي أوصلتني إلى روايات إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ ويوسف السباعي وجورجي زيدان.

الصور على الشاشة وعلى الأفيشات الكبيرة المعلقة بفوضى عند باب الصالة والإعلانات المغرية بشعارات ثاقبة ومثيرة هي التي جعلتني أقف مشدوها أمام كوكبة من الممثلين والممثلات فأحببتهم من عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وفاتن حمامة وفريد شوقي وأم كلثوم وصباح ومحمود المليجي ومحمود ياسين ونجوى فؤاد ومريلين مونرو كاترين دو نوف وبريجيت باردو وهي الوجوه التي أوصلتني إلى المكتبات وأغرقتني في الأدب، حتى أنني قرأت لاحقا مكتبة البلدية كاملة!

كان أبي عاشقا للأحصنة ومربيا لها فلم يخل منها بيتنا يوما ما، في طفولتي كنت أرى وأسمع والدي يكلم الحصان ويفهم الواحد منهما الآخر، ولأنني كنت أريد أن أكون مثله مربي أحصنة فإن أبطال الريكلام (الإشهار) الأمريكان على سجائر مالبورو ووينستون، على الشاشة الكبيرة شاشة العيد، كانوا مثيرين ولكن أكثر ما كان يثيرني ويعجبني في هذا الريكلام هي تلك الأحصنة المثيرة للدهشة، والتي قادتني لاحقا إلى عشق أفلام الكاوبوي والوستيرن ومنها انزلقت إلى قراءة الأدب الأمريكي الأسود والأبيض فأحببت روايات همنغواي ودوس باسوس وإدغار بو وفولكنر وشتاينبك وتنيس وليامس وغيرهم.

و لم توصلني مشاهد وصور ريكلام السجائر إلى التدخين فأنا لم أدخن في حياتي أبدا، ربما هي بركة أربعة دورو تاع العيد ، فالإشهار لم يدفعني إلى السجائر بل دفعني إلى سينما الواستيرن والكابوبوي، أوصلني إلى عالم خيالي رائع ومثير، عالم الأبقار والأحصنة والرعاة والطبيعة الساحرة.

لولا أربعة دورو تاع العيد، ما كنت قد وصلت إلى كتاب أثروا في لاحقا وما كنت عرفت طريقا إليهم ، لولا أربعة دورو تاع العيد ما كنت وصلت إلى جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وغي دي كار وأرسين لوبين وفيكتور هيغو وزولا وتولستوي وطه حسين والعقاد وسارتر وهنري ميللر وألبير كامو وألكسندر دي ما الأب والابن.. لولا أربعة دورو تاع العيد ما كنت قد أحببت أغاني أم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب وخاصة عبد الحليم حافظ وإيديت بياف وداليدا وجان قابان و جيلبير بيكو وجاك بريل وبراسانس. لولا أربعة دورو تاع العيد ما كنت أحببت بيتهوفن وموزار ورحمانينوف وتشايكوفسكي وصالح عبد الحي

الآن أقول وأنا أنظر إلى الزمن من خلفي، إلى تلك السنوات الجميلة: لقد تعلمت من أربعة دورو تاع العيد أكثر مما تعلمته من المدرسة ومن الثانوية ومن محاضرات الجامعة. أربعة دورو تاع العيد أوصلتني إلى السينما التي بدورها أوصلتني إلى المكتبة والمكتبة إلى الحياة التي هي توأم الكتابة.

.. وأقول لكم عيد سعيد وأضع في يد كل واحد منكم أربعة دورو تاع العيد.

مقالات ذات صلة