الرأي

أزمة الفكر الإسلامي المعاصر.. أزمة أفكار أم أزمة مفكرين

محمد بوالروايح
  • 2106
  • 7
ح.م

حينما نتحدث عن أزمة الفكر الإسلامي المعاصر فإن هذا لا يعني أننا من صنف السوداويين الذين ينطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا رأيت الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم”، فهذه الأزمة وأشد منها -إذا كان هناك في لسان العرب من المصطلحات ما يتيح ذلك- حقيقة لا ينكرها إلا مكابر، وهي أزمة ليست وليدة هذا العصر وإنما استقرت في هذا العصر وارتبطت به بعد تراكمات وإخفاقات كثيرة، ويتفق معي في هذا الوصف كثيرٌ من المشتغلين بالفكر الإسلامي المعاصر ومنهم المفكر “محمد عمارة” الذي يقول في كتابه: “أزمة الفكر الإسلامي المعاصر”: (واليوم.. لا نغالي إذا قلنا إن إجماعا يكاد أن ينعقد على أن الفكر الإسلامي يعيش في أزمة، وعلى أن هذه الأزمة الفكرية قد أوقعت أمة هذا الفكر في مأزق حضاري، فأهل الفكر -بتياراتهم المختلفة- يسلمون بذلك مع اختلافهم في تحديد أسباب الأزمة، وفي تعيين سبل الخروج منها، وواقع الأمة يشهد على ذلك، حتى لدى الذين لا يتخذون من الفكر صناعة يتخصصون ويبرعون فيها).

لا أريد أن أشقَّ على القراء في استقراء تاريخ الفكر الإسلامي ومراحل الإشراق والإخفاق التي مرّ بها وفي تحديد الأسباب الكامنة وراء هذه الأزمة التي يعيشها في العصر الحاضر، وإنما سأكتفي بتقديم قراءة ذاتية لهذه الأزمة ربما يوافقني عليها أو يخالفني فيها العاملون في حقل الفكر الإسلامي وهذا أمرٌ طبيعي لأن الناس مختلفون في أفكارهم وخلفياتهم وحكمهم على الأشياء. وبغضِّ النظر عن هذا الاتفاق أو الاختلاف فإن بعض ما سأذكره سيمثل -بلا شك- حقيقة لا يمكن القفز عليها وواقعا ليس له دافع.

قيل: “الأزمة تلد الهمة” وهذه المقولة تصلح في كل مجال ومن ذلك مجال الفكر، وأعني بذلك أن إجماع المفكرين المسلمين المعاصرين على وجود أزمة فكرية يحتم عليهم قبل غيرهم أن يسارعوا لتطويق هذه الأزمة وتجفيف منابعها وتخفيف حدتها قدر المستطاع بإجراء دراسة استقصائية شاملة لمظاهر الإخفاق الفكري لتداركها وإرجاع الفكر الإسلامي إلى سكته التي خرج عنها منذ أمد طويل ربما بعد انقضاء العصر العباسي أو بعده بقليل، كان هذا ما يجب فعله نظريا وعمليا، ولكن الذي حدث أن لفيفا من المفكرين المعاصرين بدلا من أن يعاينوا ويعالجوا مظاهر الإخفاق عمدوا إلى تجاوزها والدعوة إلى تجديد الفكر الإسلامي ووضعوا لتحقيق ذلك نظريات كثيرة بلغت من التصادم فيما بينها والتصادم مع الواقع حدا مبالغا فيه زاد من عمق الأزمة، لأن أغلب هذه النظريات التي يدَّعي أصحابُها تجديد الفكر الإسلامي حادت بهذا الفكر عن مصادره الأصلية النقية وطعَّمته ببعض الأفكار النشاز التي لا تتوافق مع طبيعته وهويته، وبذلك تحوّلت الأزمة إلى أزمة مزدوجة: أزمة فكر وأزمة هوية، وليس من المبالغة القول إن بعض الذين رفعوا لواء تجديد الفكر الإسلامي لم يكونوا أهلا لهذه المهمة لأنهم أبعد ما يكونون عن التجديد بسبب التقليد الذي غرقوا فيه إلى أذقانهم.

وبناء على ما ذكرته يمكن أن أوضح مضامين العنوان الذي وضعته: “أزمة الفكر الإسلامي المعاصر..أزمة أفكار أم أزمة مفكرين”، وأقول للأسف الشديد إن الأزمة أزمة أفكار ومفكرين في آن واحد، وربما يستغرب بعض القراء هذا ويعدونها إجحافا في حق حملة الأفكار وصناع الفكر، وأقول إن الحكم له استثناءات ولكن هذه الاستثناءات بقي أصحابها في الظل وابتعدوا عن المعترك الفكري وتاهوا وضاعوا وأضاعوا ولم يكن لهم موقف حازم يمكن أن يدعم هذا الاستثناء ويجعله يثمر بطريقة أو بأخرى.

إن أزمة الفكر الإسلامي المعاصر أزمة أفكار وأزمة مفكرين في آن واحد وذلك لأسباب كثيرة منها أن هذه الأفكار في الغالب أفكار ماضوية وهؤلاء المفكرون هم حملة فكر ماضوي لأنهم لم يقفوا عند الاستئناس بالتراث وجعله منطلقا لتأسيس الفكر الإسلامي المعاصر وهو ما نوافقهم عليه بل تقوقعوا حول هذا التراث وجمّدوا عليه وحرّموا وجرّموا كل اجتهاد خارج ما يقرّره غير مميزين في ذلك بين الأصول العقدية الثابتة التي قرّرها الوحي وبين الآليات المتجددة التي فيها مجال لحرية الفكر، وللأسف أن هذا العمل حدث بدافع التجديد الذي لم يكن في الحقيقة إلا إعادة للفكر الماضوي بمناهج ظاهرها التجديد وباطنها الإغراق في التقليد، وقد حدث في المقابل عكس هذا إذ عمد بعض المفكرين المعاصرين بدعوى التجديد إلى تغييب التراث تغييبا مطلقا ومحاولة بناء فكر إسلامي جديد فكانت النتيجة صياغة فكر غريب منسلخ عن أصوله ومصادره.

إن معالجة أزمة الفكر الإسلامي المعاصر تتطلب منا ألا نقدس أسلافنا من المفكرين القدامى أو نغالي في تقديسهم وأن نأخذ منهم ما يمثل أصولا ثابتة ينبغي أن لا نخرج عنها وأن نبحث لأنفسنا ومجتمعاتنا وأمتنا المعاصرة عما يلائم عصرها، فليس من المعقول أن يغالي بعضنا في تقديس فكر الشافعي وفكر ابن تيمية وفكر ابن رشد على المطلق مع أن العارفين بهذا الفكر يعلمون أن هؤلاء الأعلام وضعوا تصوّرات وحلولا لقضايا ظهرت في عصرهم وارتبطت ببيئتهم ولا يمكن بأي حال من الأحوال أخذها عن علاتها وإنزالها على واقع معاصر مختلف تماما.

إن أزمة الفكر الإسلامي المعاصر هي أزمة أفكار وأزمة مفكرين في آن واحد وتتجلى هذه الأزمة في مظاهر هذا الفكر التي يمكن أن أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

1- فكر الرعاع الذين لا يعرف لهم أثر في مجال صناعة الفكر، وهذا النوع من الفكر في اعتقادي هو الذي أسهم في ظهور الفكر المغشوش الذي عمَّق الأزمة وزاد من حدتها وحمل رواد الإصلاح أعباء مضنية لإصلاح ما أفسده فكر الرعاع.

2- فكر الأتباع الذي يتمثل في سيادة الفكر الحزبي وفكر الجماعة الذي حمل في طياته مصيبتين اثنتين: مصيبة التطرف الفكري الذي مارسه حملة هذا الفكر ضد مخالفيهم حتى ممن يجتمعون معهم في الأصول بسبب تغليبهم للفكر الحزبي وفكر الجماعة على أي فكر.

 3- فكر الصراع الذي لا يقف أصحابه عند الصراع الطبيعي الإيجابي القائم بين مختلف الأفكار والتيارات بل يعمدون إلى إعطاء هذا الصراع منحى ومعطى وبُعدا انتقاميا يتدرَّج من رفض الآخر إلى العدوان عليه، ففكر الصراع بهذا المعنى غير الإيجابي فكرٌ قائم على تغليب منطق المؤامرة الذي يؤدي في النهاية إلى تقويض عرى الاجتماع الإسلامي والإنساني.

مقالات ذات صلة