-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أشبعتهم شتمًا وفازوا بالإبل!

أبو جرة سلطاني
  • 2483
  • 5
أشبعتهم شتمًا وفازوا بالإبل!
ح.م

ما أشبه الليلة بالبارحة، كأنّ الزّمن متوقّف لم يتغيّر منه سوى الوجوه والأشكال الخارجيّة، أما الناس فهم الناس: عقائدَ وأفكارًا وسلوكاتٍ وأخلاقًا وممارسات وغايات.. القويُّ يأخذ ما يريد والضّعيف يشبعه سبّا وشتما! وهو ما حصل في زمن بعيد، ويتكرّر اليوم بأشكال مختلفة؛ ففي عصر كانت فيه الإبل هي ريوع القوم وهي “الثّروة الوطنيّة” الأولى، وهي مصدر الرّزق ورمز السّيادة.. كانت لإعرابيٍّ  إبلٌ يرعاها، فأغار عليه اللّصوص واغتصبوها وساقوها إلى حوزتهم، فلاحقهم بالسِّباب والشّتائم، ولم يغامر بالدّخول معهم في معركة كرامة لتحرير إبله واستخلاص حقّه منهم. فلما عاد إلى قومه سألوه: ماذا فعلت؟ قال: “أشبعتُهم شتْمًا وفازوا بالإبل”. فذهبت مثلا.

أقول ما أشبه الليلة بالبارحة، لأنّ هذا المشهد صار عنوان مدارس فكريّة وأحزاب سياسيّة ومؤسسات إعلاميّة وتنظيمات نقابيّة واتّحادات طلاّبيّة وجمعيات أهليّة ونوادٍ رياضيّة.. كلها تعتاش على الشّتائم والسّباب وهدم الآخر والتّهجّم عليه بكلّ وسيلة نظيفة وغير نظيفة، شريفة وغير شريفة، مشروعة وغير مشروعة.. المهم أنْ تحقّق لنفسها ثلاث غايات هي كل ما يتطلّع إليه المغلوبون على أمرهم.

   ـ تشويه سمعة المنافس، والحطّ من قدره وكرامته بالافتراء عليه وصناعة الصّورة المنفّرة من شخصه، واستخدام ما لا يليق أخلاقا ولا قانونا ولا عرفا.. لتأليب الرّأي العام ضدّه.

   ـ إشباع نهم الغريزة الحاقدة بما يُغيظ الخصم ويصنع “بطولات دنكيشوتيّة” عبر وسائل التّواصل الاجتماعي بتحرّش الذّباب الإلكتروني بكل مخالِف.

   ـ إعطاء الانطباع بأنّ كل العالم فاسد إلاّ الشامتون، وكل الكون قذر ومتعفّن ومتآمر ويجرّ البشريّة إلى الهاويّة.. والمنقذ الوحيد هم أبطال الشتائم والسّباب.

 في عالمنا الثالث يقتات الرّأي العام على الإشاعة والدّعاية والأراجيف.. ويصدّق السذّج كل خبر يأتيهم من جهات مجهولة لا تكشف غالبا عن أسمائها ولا يعرف الرأي العام هويتها، وليس لها برنامج سوى هدم ما بناه الآخرون. وحجّتهم أنهم لم يحكموا ولم يجرّبوا ولم تُعطَ لهم الفرصة “ليرعوا الإبل”. وفي كل مناسبة يتفرّقون إلى سبعين فرقة، ويتقدّمون بسبعين برنامجا، ويتحدّثون بألف لسان.. وقد هالني أن أرى في بلدي ثلاثمائة مترشّح لمنصب الرّئاسة؛ كلّ واحد منهم يزعم أنّ الحلّ بين يديه، وأن برنامجه هو الذي سيُخرج الجزائر من أزمتها، ويعيد للشّعب أمواله المنهوبة وحقوقه المسلوبة، وأنّ أزمة بلدي هي أزمة أفكار وبرامج ومخطّطات وأزمة رجال وثقة وتعاون.. وهي أزمة قد داخلها من التّعقيد والتّراكم ما يعجز كل طرف منفردا عن حلها. ولذلك فهي بحاجة إلى 300 رئيس و 300 برنامج وألف خطاب لحلحلتها.

لكنّ الواقع الذي أعرفه جيّدا ينفي فرضيّة البرامج والرّجال والخطط والأفكار.. ويبقي على فرضيّة تآكل رصيد الثّقة الذي جعل كلّ فريق يتوجّس من عواقب تسلّق فريق آخر سدّة الحكم، بذريعة أنّ المرجع التاريخي مخيف، وأنّ لعبة اليمين واليسار قد تمّت تجربتها وكانت فاتورتها باهظة، وأنّ القوّى الوطنيّة لم تعُد موحّدة، والتّيار الإسلامي تشرذم وتوزّع وعاؤه بين الأحزاب، وصنّاع القرار لم يفرغوا بعد من صناعة بديل مُقنع ينشأ حوله شبه إجماع بين التيارات التقليديّة الثلاثة: الوطني، والإسلامي، والعلماني. فلم يبقَ سوى ممرٍّ إجباريّ واحد، هو الاحتفاظ بالقديم من منطلق الاستمراريّة الضّامنة للاستقرار غير المتوازن ريثما يفرغ مهندسو الدّولة من تهيئة الأجواء لقادم جديد من غير زمرة هوّاة: “أشبعتهم شتائم وفازوا بالإبل”، ذلك أنّ الخزانة القديمة قد نفد مخزونُها من رجال الثّورة ولم يتم بعد إعادة تصفيفها بشيء من جيل الاستقلال، وهذه واحدة من أكبر الأخطاء السياسيّة التي تقرّرت في الذكرى الخمسين لتخليد الثّورة، وتصحيحُها يحتاج إلى شجاعة تاريخيّة تسندها إرادة سياسيّة تضع الثّقة في من أثبتوا جدارتهم في حبّ الجزائر وقدرتهم على تسيير شؤونها، وانفتاحهم على كلّ ألوان الطّيف السّياسي والمجتمعي، وعلى النّخب والأقليّات المؤدلجة..

لا أريد حصر كلامي في موعد انتخابي سوف يمرّ بخيره وشرّه وحلوه ومرّه وما يُحمد منه وما يُعاب، فقد تعوّدنا ـ في مثل هذه المناسبات ـ على ضغط الشّارع وعلى ازدهار سوق الدّعاية والإشاعة، وعلى القصف الإعلامي بالمدافع طويلة المدى، وعلى الحصار الخارجي والمزايدات الدّاخليّة.. لكني أريد أن أستشرف مستقبل بلدي من منظور وسطي يدرك أنّ الارتهان للّحظة خطأ استراتيجي، وأنّ الحديث عن الإقصاء والتّهميش لغة تجاوزها الزّمن، وأنّ الاصطفاف الإيديولوجي لم يعُد له مكانٌ في عالم قائم على التعايش السّلمي على مبدأ المواطنة والعيش المشترَك، وأنّ الوطن قبل الحزب، والحقّ فوق الأشخاص، وصوت التطرّف حادّ لا يسمعه سوى متطرف مثله، بينما التوسّط يتيح لصاحبه فرصة السّماع لمن تطرّفوا عن يمين وعن شمال. ومصلحة الجميع تكمن في الحوار حول المشترَك الأوسع قبل أن ترتطم السّفينة بصخور الأزمة الاقتصاديّة التي بدأت تطرق أبوابنا وتمتدّ آثارها لتبتلع الطّبقة الوسطى بعد أن سحقت الفئات الهشّة.

لا أؤمن بالسبّ والشتيمة طريقا لحلحلة وضع معقّد، ولا أقتدي براعي الإبل الذي فرّط في قطيعه واكتفى بإشباع قطّاع الطرق سبّا وشتما، لإدراكي أنّ شعوبا كثيرة في العالم تكره حكامها وتدعو عليهم صباح مساء، وتكيل لهم السّباب والشتائم وتتمنّى زوالهم في أوّل منعطف.. فإذا جاءت المواعيد الحاسمة اصطفّ خلف الزّعيم كل من يخشى على وطنه التطرّفَ والغلوّ والتّصعيد والاصطفاف.. ويركن إلى خيار الأمر الواقع على أمل أن تحبل الأيام بجيل النّصر المنشود. وهي سياسة تمّت تجربتُها في أشدّ الأيام حلكة، وأثبتت حقائق الميدان صلاحيتها لكل المراحل الانتقاليّة التي بدأت في صائفة الاستقلال ولن تغيّر جلدتها حتّى تنتهي آخر صفحات الدّولة الوطنيّة ليتمّ طيُّها بفعل نهاية الدّورة التاريخيّة لجيل يودّع.

التاريخ يشهد أنّ سياسة السّباب والشّتائم والقذف والتّجريح والتهديد والوعيد.. لا تبني مجدا ولا تصنع قدوة ولا تُرهب عدوّا ولا تُسعد صديقا.. ولكنها قد تشفي غليل صغار العقول والنّفوس، وقد تريح بعض من يظنون أنّ البطولة في العالم الافتراضي تحقّق انتصارات في دنيا الواقع، ويغفلون عن حقيقة صادمة مفادها أنّ السياسة كالسّباحة، لا يتعلمّها المرء من بطون الكتب، وإنما يتدرّب عليها بين الأمواج. وأثناء التعلّم لابدّ أن تحدث انكسارات، إذا لم تُعرّض المبتدئين للموت غرقا، فإنها تصنع منهم سبّاحين كبارًا بشرطيْن لازميْن.

     ـ السّباحة مع الكبار وسط أمواج عاتيّة وبحر متقلّب..

     ـ الاعتقاد بأنّ الغطس تحت الماء لا يعني أنّ السّطح هادئ.

في القديم خسر الأعرابيّ إبله، ولكنّه أزاح عن صدره حسرة الخسران بإشباع مغتصبيه شتائم وسبابا، وفي الحديث أضعنا مشروعنا بسبّ الظلام بدل إيقاد الشّموع، ونحن نعلم أنّ لعن الظلام يزيده حلْكةً، وأنّ الذين تعوّدوا على تدبير الأمر بليْل لم تعد الشتائم تؤثّر فيهم، مادام مفتاح تشغيل محرّك البحث بأيديهم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • ABDEL DJABAR

    أعد تاريخك وحمل ما كنت تقوله فالذي عاش ليقتات ممن فازوا بالابل كنت واحدا منهم لكن أن تأتي الآن بعد ما شبعت وتذكرنا بما فعل السفهاء فلسنا ممن ينسو تاريخهم

  • نورالدين

    كلامك فيه من الادب اكثر مما فيه من السياية

  • امير

    يبدوا ان اشاعات صغار العقول والنفوس _كما وصفتهم_ قد جرحتك وآلمتك
    ولكن ولايهمك ..فمادُمت قد فزت بالابل دعهم يولولوا سبا وشتما وغدا عند رب العالمين خاصمهم
    الى اللقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء

  • mehdi

    ليث الأمر كان في الجمل فقط...
    إن المسألة تخض الجمل و ما حمل ...
    صحيح و أن السب لن يجدي نفعا ، لكن كن متيقنا ، شيخنا الفاضل، أن المسألة مسألة وقت.
    يوم تعصف العاصفة ستأتي على الأخضر و اليابس و ما ذلك ببعيد ، لا قدر الله.

  • إسماعيل الجزائري

    كلام صحيح، و لكن كان ينبغي لك أن تستوعبه منذ وقت بعيد يا سي سلطاني! لطالما قال هذا الكلام مخلصون راحلون قبلكم (مهري، آيت أحمد، حشاني، . . . ) فخونتموهم و وضعتم أيديكم في أيدي السلطة، و غفر الله لشيخكم نحناح كذلك الذي كنتم تتبعونه و تؤيدونه في كل ما يفعل و يقول.