الرأي

أصدقاء الجزائر الذين نسيناهم

أمين الزاوي
  • 11595
  • 16

حين اقترح أحدهم على الجنرال دوغول توقيف وسجن الفيلسوف جان بول سارتر معاقبة له على ما يقوم به من فعاليات ثقافية سياسية مساندة للثورة الجزائرية والمتمثلة في تنظيم التجمعات العامة وتوزيع المنشورات وكتابة اللوائح والعرائض لإدانة الاستعمار وفضح التعذيب الهمجي الممارس ضد الجزائريين الذين لم يكونوا يطالبون سوى بالحرية والاستقلال، حين سمع الجنرال دو غول اقتراح هذا المعاون رد عليه بما يلي:” إن فولتير لا يسجن”. كان يريد أن يقول: إن فرنسا لا تسجن ولا تهين عظماءها مهما اختلفوا معها، وبذلك أراد أن يذكر بأن الفيلسوف سارتر من طينة ومن سلالة فولتير.

كان سارتر بقلمه وعقله أكبر من جيوش فرنسا الاستعمارية كلها. كانت مقالاته وتجمعاته وحلقاته أكبر من دسائس وزارة الداخلية وأجهزة التعذيب المتخصصة.

حين نشر سارتر بيان أو “مانيفستو الـ 121″ زلزل أركان القيادة العسكرية وبدد أوهام العسكر وأعاد لفرنسا بعضا من شرف قيم الثورة الفرنسية، وبالتالي استرجعت فرنسا فولتيرها الذي لا يسجن.

لماذا اليوم، والجزائر تحفل بخمسينية استقلالها العظيم، نرى الجيل الجديد قد نسي أو يجهل تماما هؤلاء الفلاسفة والكتاب والمثقفين الذين وقفوا إلى جانب الثورة الجزائرية بما كانوا يملكونه من قوة رمزية وسياسية وأدبية وفلسفية، قوة كانت تسكن أقلامهم وتنبت في مدادهم الشجاع.

أعتقد أن هؤلاء الكتاب والفلاسفة والإعلاميين هم رأسمال ثقافي كبير جزائري وإنساني يجب الانتباه له والتنبيه إليه، إن للثورة الجزائرية رأسمالا كبيرا، أكبر من البترول، هو رأسمال مشكل من هؤلاء الأصدقاء من دعاة الحرية ومناضلي التحرر والانسانية المتواجدين عبر العالم وفي كل اللغات.

إن سيكولوجية النخوة التي سادت ما بين سنوات الاستقلال الأولى، وغياب دور المثقف النقدي عن بنية جهاز السلطة الوطنية في الجزائر الجديدة، هو الذي جعلنا ننسى كثيرا من أصدقاء الثورة الجزائرية من الأوروبيين والأمريكيين.

ليس من اليُسْر أن تكون ضد بلدك، وكان سارتر ضد فرنسا الاستعمارية لأنها خانت فرنسا التي كان يؤمن بها، بلد الحرية والتحرر وحقوق الإنسان، بلد فوليتر وبودلير ورامبو وزولا وألفريد دي موسيه.

ليس من اليُسْر أن تكون ضد بلدك ولكن سارتر كان ضد فرنسا الاستعمارية وإلى جانب الجزائر الباحثة عن الاستقلال والحرية.

وحين رسم الفنان العالمي بيكاسو لوحة هي بورتريه للمناضلة جميلة بوباشا، وهي وقتها مهددة بالإعدام تنتظر محاكمتها، قابعة في زنزانة من زنازين سجن مدينة كاين Caen بنورمانديا السفلى الذي نقلت إليه، وهو ذات السجن الذي قضى فيه الشاعر المناضل بوعلام خلفة سنوات ومنه هرب، كانت هذه اللوحة التشكيلية لبيكاسو المثقف المناهض للفرانكوية هي عبارة عن لوحة نجاة حقيقية بالنسبة لهذه المناضلة الشريفة، فلولا بيكاسو ولجنة المساندة العالمية التي تشكلت لنصرتها والمطالبة بحريتها والمتكونة من مجموعة من الكتاب من أقصى اليسار إلى رجال الدين من بينهم سيمون دي بوفوار وجزيل حليمي ولويس أراغون وإلزا تريولي وسيمون فيي وغابرييل مارسيل وجيرمين تييون وغيرهم لولا هؤلاء لكان سيكون مصير جميلة بوباشا هو مصير أحمد زبانا، أي المقصلة.

دارت لوحة بيكاسو أروقة العالم الكبرى ومن خلالها وبها دق ناقوس خطر الموت الذي تواجهه المناضلة جميلة بو باشا ويعيش يومياته الجزائريون جراء مسلسل الاستعمار الفرنسي.

إذا كان بيكاسو قد رسم لوحة جميلة بوباشا فإن رفيقة درب حياة جون بول سارتر الكاتبة الجريئة سيمون دو بوفوار قد خلدت المناضلة جميلة بوباشا بكتاب مشترك مع المحامية والكاتبة جيزيل حليمي بعنوان “جميلة بوباشا” يدين الاستعمار ويذكر العالم بكوارث التعذيب وممارسات التعسف والقمع ضد حرية الشعوب وبه إدانة لثقافة الاستعمار ودعوة لحرية الشعوب والأفراد.

وإذا كان سارتر وبيكاسو الرسام المناضل والكاتبة سيمون دي بوفوار والمحامية جزيل حليمي قد استطاعوا أن يصنعوا الرأي العام العالمي ضد نسيان مناضلة قد تموت في زنزانة أو معلقة في حبل مشنقة، فمن يا ترى ينقذها اليوم، ونحن نحيي الذكرى الخمسين للاستقلال، من مقصلة النسيان، هذه المرة نسيان الأهل والرفاق وأبناء الوطن؟ ذلك ما يحزنني كثيرا كثيرا.

في غمرة الاحتفالات بخمسينية الاستقلال لا أدري لماذا أجدني وبكل صدق أفكر في جون بول سارتر بشكل خاص وأتساءل ألا يستحق هذا الفيلسوف الكبير التفاتة منا نحن أبناء الاستقلال وذلك بتنظيم ملتقى علمي عالمي تحتضنه إحدى جامعاتنا من خلال قسم من أقسام الفلسفة التي تتواجد في كثير من جامعات البلد، وأتساءل بصدق أيضا وبحسرة ألا يستحق أن يطلق اسم هذا الفيلسوف صديق الجزائر على واحدة من جامعاتنا أو مؤسساتنا الثقافية اعترافا لما قدمه من صنيع عمل في صالح الثورة الجزائرية وضد فرنسا الاستعمارية.

يظل الفيلسوف سارتر وجماعة قائمة 121 جزءا من ذاكرة الثورة وجزءا من ثقافة المقاومة التي شكلها أحرار العالم من المثقفين والكتاب ضد التعذيب والاستغلال والاستعمار الهمجي في الجزائر، وإذا كان هذا النضال قد خاضته هذه الأنتليجانسيا في منتصف الخمسينات إلا أنني أرى أن الأفكار التي جاءوا بها لا تزال صالحا الاستعمال في هذا الزمن المحاصر بالقمع ومصادرة الحريات الفردية والجماعية في كثير من البلدان المستقلة والتي كانت مستعمرات سابقة.

مقالات ذات صلة