الرأي

أمن‮ ‬الدولة‮ ‬في‮ ‬زمن‮ ‬الاتصال‮ ‬البائس

أحمد عظيمي
  • 4842
  • 24

تقول‮ ‬الحكمة‮ “‬إن‮ ‬المرأة‮ ‬الفاشلة‮ ‬هي‮ ‬التي‮ ‬تدفع‮ ‬بزوجها‮ ‬إلى‮ ‬أحضان‮ ‬امرأة‮ ‬أخرى‮”. ‬هذه‮ ‬الحكمة‮ ‬تنطبق‮ ‬تماما‮ ‬على‮ ‬حالة‮ ‬الاتصال‮ ‬في‮ ‬الجزائر‮.‬

لم تدرك السلطة السياسية بعد بأن العالم تغير وأن المعلومة أصبحت توجد على مستوى أنامل الأطفال، بحيث أن أي طفل، في آخر قرية، يستطيع أن يرسل ويستقبل ويتقاسم وحتى يخلق و”يوزع” المعلومات دون أن يتحرك من بيته.

 

حدث‮ ‬كل‮ ‬هذا‮ ‬والمتحكمون‮ ‬في‮ ‬شؤوننا‮ ‬السياسية‮ ‬والمسيرون‮ ‬لقضايانا‮ ‬الاتصالية‮ ‬لم‮ ‬يتغيروا‮. ‬إنها‮ ‬نفس‮ ‬العقلية‮ ‬التي‮ ‬كانت‮ ‬سائدة‮ ‬أيام‮ ‬الحزب‮ ‬الواحد‮ ‬والبرنامج‮ ‬التلفزيوني‮ ‬الواحد‮ ‬والفكر‮ ‬الواحد‮.‬

تغير كل شيء في العالم. الرؤساء أصبحوا أكثر شبابا، والمسؤولون أكثر اطلاعا وثقافة ومواقف، ووسائل الإعلام أكثر تحررا في نقل المعلومة ومناقشة كل ما يتعلق بشؤون الحكم ومن يحكم وكيف يحكم .. حدث كل هذا، ولا شيء تغير في الجزائر، حيث الصمت المطبق والغلق الكامل لكل ما‮ ‬تعلق‮ ‬بأمور‮ ‬الحاكم‮ ‬وكيفية‮ ‬تسيير‮ ‬شؤون‮ ‬البلد‮.‬

مرض رئيس الجمهورية بيّن، مرة أخرى، مدى البؤس الاتصالي الذي تعيشه الجزائر. البؤس الذي يترجم الوضع الذي أصبح عليه النظام السياسي الجزائري، فالمنطق يقول أن قوة أي نظام، أو أية دولة، تكمن في قدرته على تسيير مجال الاتصال والذي يدخل من ضمنه القدرة على إقناع الرأي‮ ‬العام‮ ‬الوطني‮ ‬والدولي‮ ‬بصحة‮ ‬ما‮ ‬يقدمه‮ ‬من‮ ‬أخبار‮ ‬ومعلومات‮ ‬ووجهات‮ ‬نظر‮.‬

ليس من الضروري التذكير بأن الرأي العام يشكل العنصر الأساسي لاستقرار، أو عدم استقرار، النظام السياسي، فكيف يمكن الحديث عن أمن الدولة الجزائرية واستقرارها بينما رأيها العام يشكل ويصاغ وحتى قد يقاد من الخارج.

أقاموا الدنيا، وزجوا بالعدالة، في مسألة بسيطة لم تكن تتطلب أكثر من تكذيب يصاغ في سطر واحد. ما حاول عبود هشام نشره، ومنع من ذلك، هو مجرد معلومة تحصل عليها بوسائله الخاصة وكان من حقه أن ينشرها مادامت السلطة صامتة في ما تعلق بمرض رئيس الجمهورية. إن المخطئ هي السلطة‮ ‬التي‮ ‬لا‮ ‬تهتم‮ ‬بالرأي‮ ‬العام‮ ‬ولا‮ ‬بحقه‮ ‬في‮ ‬الاطلاع‮ ‬على‮ ‬الوضع‮ ‬الصحي‮ ‬للرجل‮ ‬الذي‮ ‬وضع‮ ‬فيه‮ ‬ثقته‮ ‬ليسير‮ ‬أموره‮ ‬بأحسن‮ ‬صورة‮ ‬ممكنة‮.‬

هل‮ ‬كان‮ ‬عبود‮ ‬هشام‮ ‬يلجأ‮ ‬لمصادر‮ ‬معينة،‮ ‬قد‮ ‬تكون‮ ‬صادقة‮ ‬أو‮ ‬كاذبة،‮ ‬أو‮ ‬حتى‮ ‬مضللة،‮ ‬لو‮ ‬أن‮ ‬مسألة‮ ‬مرض‮ ‬الرئيس‮ ‬سيرت‮ ‬بشفافية‮ ‬كاملة؟‮ ‬

الشفافية تعني، في زمن الصورة، أن يرى المواطن رئيسه، مهما كانت حالته، كما فعل الإعلام المصري الذي كان يظهر مبارك بالمستشفى الألماني يوميا تقريبا، لا أن يسمع عنه من أفواه بعض السياسويين الفاقدين للمصداقية وبعض المعروفين لدى الرأي العام بكونهم من المستفيدين من‮ ‬المرحلة،‮ ‬بحيث‮ ‬لم‮ ‬ندر‮ ‬إن‮ ‬كانوا‮ ‬يعبرون‮ ‬عن‮ ‬تمنياتهم‮ ‬بالشفاء‮ ‬للرئيس‮ ‬أم‮ ‬هم‮ ‬يتمسكون‮ ‬بحلم‮ ‬البقاء‮ ‬في‮ ‬السلطة‮.‬

ما‮ ‬حاول‮ ‬عبود‮ ‬هشام‮ ‬نشره‮ ‬ألبسه‮ ‬تهمة‮ ‬كبيرة‮: ‬تعريض‮ ‬أمن‮ ‬الدولة‮ ‬للخطر‮ ‬والمساس‮ ‬بوحدة‮ ‬الشعب‮ ‬الجزائري‮ .. ‬إلخ‮. ‬إنها‮ ‬تهمة‮ ‬الخيانة‮ ‬العظمى‮ ‬توجه‮ ‬لهذا‮ ‬الصحفي‮ ‬العائد‮ ‬من‮ ‬المنفى‮.‬

التهم الخطيرة جدا أصابتني بالقنوط وباليأس؛ فقد قضيت حوالي ثلاثة عقود من عمري عاملا ضمن مؤسسة مهمتها الأولى هي حماية أمن الدولة الجزائرية والدفاع عن سيادتها والذود عن حدودها. تكونت في هذه المؤسسة وعملت في العديد من هياكلها ونشرت عشرات المقالات في مجلتها (الجيش‮)‬،‮ ‬ولم‮ ‬أعرف‮ ‬يوما‮ ‬أن‮ ‬مجرد‮ ‬كلمات‮ ‬تكتب‮ ‬في‮ ‬جريدة‮ ‬ناشئة‮ ‬قد‮ ‬تمس‮ ‬بأمن‮ ‬الدولة‮ ‬وبوحدة‮ ‬الشعب‮ ‬الجزائري‮.‬

أتساءل بعد هذا: ماذا بقي من الدولة الجزائرية التي حررت بأعظم ثورة في التاريخ؟ وماذا بقي من مجد بني بدماء ملايين الجزائريين الذين لم يكفوا عن المقاومة والنضال والقتال على مدى القرن والثلاثة عقود من الاحتلال؟

سبق‮ ‬أن‮ ‬قلت،‮ ‬في‮ ‬إحدى‮ ‬تدخلاتي‮ ‬على‮ ‬قناة‮ ‬الشروق‮ ‬تي‮ ‬في،‮ ‬أن‮ ‬الجزائر‮ ‬بلد‮ ‬كبير‮ ‬لكن‮ ‬الذين‮ ‬يحكمونه‮ ‬هم‮ ‬جد‮ ‬صغار‮ ‬ولا‮ ‬يعرفون‮ ‬أنهم‮ ‬يحكمون‮ ‬بلدا‮ ‬كبيرا‮. ‬

النظام‮ ‬السياسي‮ ‬الذي‮ ‬يرى‮ ‬بأن‮ ‬مجرد‮ ‬مقال‮ ‬في‮ ‬جريدة‮ ‬يهدد‮ ‬أمن‮ ‬الدولة‮ ‬ويمس‮ ‬بوحدة‮ ‬الشعب‮ ‬هو‮ ‬لا‮ ‬يصلح‮ ‬ليحكم،‮ ‬لأن‮ ‬الدولة‮ ‬التي‮ ‬يهددها‮ ‬كلام‮ ‬صحفي‮ ‬لا‮ ‬يمكن‮ ‬أن‮ ‬تكون‮ ‬دولة‮.‬

إن‮ ‬كانت‮ ‬السلطة‮ ‬تؤمن‮ ‬فعلا‮ ‬بأن‮ ‬مجرد‮ ‬مقال‮ ‬يمكنه‮ ‬أن‮ ‬يحدث‮ ‬كل‮ ‬ما‮ ‬وجهته‮ ‬من‮ ‬تهم‮ ‬لعبود‮ ‬هشام‮ ‬فهذا‮ ‬يعني‮ ‬أنها‮ ‬أضعفت‮ ‬الجزائر‮ ‬إلى‮ ‬درجة‮ ‬يستطيع‮ ‬فيها‮ ‬أي‮ ‬مقال‮ ‬أن‮ ‬يزعزع‮ ‬أركانها‮.‬

إن ما يعرض أمن الدولة للخطر ويمس بوحدة شعبها فعلا هي مظاهر الفساد الذي عم دون أن يجد من يوقفه أو يحد منه، وسوء التسيير الذي تعاني منه معظم مؤسسات الدولة الجزائرية، والتهميش الذي طال الأوفياء والصادقين من أبناء الشعب.

إن‮ ‬ما‮ ‬يعرض‮ ‬أمن‮ ‬الدولة‮ ‬للخطر‮ ‬هو‮ ‬تمكين‮ ‬الفالسين‮ ‬والفاسدين‮ ‬وفاقدي‮ ‬الأخلاق‮ ‬من‮ ‬المناصب‮ ‬ومن‮ ‬المال‮ ‬العام‮ ‬يغرفون‮ ‬منه‮ ‬بدون‮ ‬رقيب‮.‬

إن ما يعرض أمن الدولة للخطر هو ضعف المنظومة الاتصالية واللجوء إلى التضليل عن طريق وسائل إعلام خاصة تمول من المال العام لتقوم بسب وشتم الأحرار من أبناء هذا الوطن، ومواصلة غلق مجال السمعي بصري مما يجعل الرأي العام الجزائري رهينة لدى مالكي القنوات التلفزيونية‮ ‬العالمية‮. ‬

هذا ما يعرض أمن البلد للخطر، ومع ذلك نقول إنه رغم كل معاول الهدم، لازالت هناك بقايا نخوة لدى الشعب الجزائري، الذي مهما كانت السياسات التي توالت عليه، فلازال يؤمن بجزائر قوية، عصرية، تسودها العدالة الاجتماعية وتحكم من طرف أبنائها المخلصين؛ وأمر ربك واقع ليس‮ ‬له‮ ‬دافع‮.‬

مقالات ذات صلة