-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أن تُعلّم يعني: أن تُدرّب

أن تُعلّم يعني: أن تُدرّب

من الأخطاء التي رسخت في أذهان من اختلطت عليهم الأمور، وضربت عليها خيوطا كخيوط بيت العنكبوت المتشابكة يواجهنا الاعتقادُ الوهمي القائل بأن التدريب هو مرحلة تسبق دوما الالتحاق بأي وظيفة أو مهنة لغرض إتقانها وأدائها على أكمل وجه وبطريقة دقيقة من بعد امتلاك جملة المهارات المتعلقة بها. وعليه، فإنَّ الفترة التي يقضيها الإنسان في التعلم، وفي أي اختصاص من الاختصاصات، لا يمكن أن تتَّجه إلى التدريب. واستمر هذا الاعتقاد الضنيك والمهلهل سائدا في التفريق بين التعليم والتدريب. وانطلق بعض المربين يجتهدون في إنشاء مقارنات تُظهر الفروق والانفصال بين المفهومين رافضين أي تعانق يحدث بينهما.

قامت كل انتفاضات الفعل البيداغوجي الفصلي التحديثي ضد التلقين ومهالكه ومفاسده، وكانت بمثابة انقلابات هادئة ضد أعطاب ومساوئ نقل المعرفة نقلا سلبيا ميتا بين الملقي والمتلقي. فلا طمع، حينئذ، لبروز من يخطف بعض الأدوار الفصلية التي استولى على غنائمها المعلمُ واحتكرها لنفسه. في حين يظل المتعلم ساكنا كالحجر، أو كأنَّ على رأسه الطير، إلا إذا مُنحت له فرصةٌ زمنية قصيرة في نهاية الحصة للسُّؤال أو التعقيب أو التعليق. ونقرأ في هذه الصورة المقرفة تناقضا مريبا إذا علمنا أنَّ أدوات التعلُّم التي تساعد على اكتساب المعرفة هي القدرات بكل أصنافها، وخاصَّة القُدرات العقلية. وتحليل هذه الوضعية الموصوفة وغير السليمة تظهر أن قدرات المتعلمين لا تشتغل إلا اشتغالا هينا ومحدودا ومفرَّقا ومبتورا، وفي إطار محدود، ولذا فإنها تحرَم من فرص تنميتها وتطويرها وتعديلها وتحسينها نحو الأفضل والرفع من مردودها بالتدريج.

وبالرغم من انتشار الروح التجديدية في المقاربات التدريسية التي حاولت الأنظمة التربوية الاعتماد عليها في دحر ومقاومة الصُّور النمطية التقليدية المتوارثة، إلا أن المعلمين والأساتذة ما يزالون متشبِّثين بها في عناد أعمى، مما طبع مخرجات التعليم بفقدانه لمحاسن الجودة وتجرُّده من مزينات النوعية.

تعني عملية التدريب في الفصول الدراسية انغماس المتعلم كليا في عملية التعلم، ووضع كل قدراته العقلية والحركية والنفسية على محك الاشتغال المتواصل، أي افتكاك معظم الأدوار الفصلية التي استحوذ عليها المعلّم بغير وجه حقّ، واسترجاعها حتى يصبح المتعلم متصدرا المشهد داخل القسم، وتوسيع دائرة الأعمال المسنَدة إليه، وحمله على إنجازها فرديا أو في إطار مجموعة مصغَّرة متعاونة: “التعلّم التعاوني” في كنف الانضباط. ولو توفرت شروط اشتغال المتعلمين وفق هذا المنوال لتمكّنوا من الحصول على أعلى نسب الاستفادة التكوينية.
ويعني التدريب، أيضا، أن يمتلك المعلم أو الأستاذ تصوّرا دقيقا مسبقا عن طائفة القدرات التي يمكن للمتعلم تشغيلها في الحصة، وكيفية استنهاضها، وإيقاظها من سباتها، وتوجيهها، وتحديد مسار المسلك التطويري الذي ينبغي لها أن تسلكه حتى يتحقق المراد.

بفضل البرامج التدريبية المحكمة، يعاد توزيع الأدوار الفصلية توزيعا صحيحا وبشكل تلقائي، ويسترد المتعلم ما نزعه المعلم أو الأستاذ من بين يديه، واستحوذ عليه عنوة من غير وجه حق مستغلا جبروت سلطته. ويعود له حضورُه الجاذب في مختلف مراحل الحصة، ويتحفز للعمل والإنتاج، وتملأ قلبَه ووجدانه الروحُ التنافسية المحرِّكة لهممه.

كل الملاحظات والمتابعات تبيِّن أن التدريب مهجورٌ ومتروك في أقسام مدارسنا شأن الفريضة الغائبة رغم أهميته، ولا يصادف له أثر في ما يسمى بـ”الدروس اللصوصية” الضنيكة والهزيلة؛ لانقراض الفهم الموافِق للصواب والمنتظر من التعلم كفعل تفاعلي موجه.

هناك إثباتٌ قطعي لو تنبَّه إليه المعلمون والأساتذة ووقفوا على حقيقته لتدافعوا لمراجعة طرائق عملهم العقيمة أثناء وقوفهم أمام المتعلمين، ومؤدى هذا الإثبات هو أن بناء المعارف العلمية في ذهن كل تلميذ مقرونٌ بمدى نضج قدراته الخاصة وبالمجهود الشخصي الذي يبذله. وأمّا مساهمة المعلم أو الأستاذ في هذا الإنجاز فهي مساهمة ضئيلة لا تتعدى توفير الشروط الخارجية لمزاولة التعلم من خلال تحضير وسائل التعلم وسنداته والمشاركة في استرجاع المعارف السابقة ذات الصلة بموضوع الحصة والمرافقة اللينة والتوجيهية التي تعمل على تذليل الصعوبات وإزالة حجارة العثرة من طريق المتعلمين، وإعادتهم إلى خط السير المرسوم كلما انحرفوا وحادوا عنه. وتقتضي الإشارة التأكيد على أن بناء ولو نتف ضئيلة من المعرفة العلمية هو عملٌ تجريدي خفي ومستبطن، وينجزه المتعلم بمفرده. ولو صح أن المعلم أو الأستاذ هو من يقوم بهذا العمل بصفة كلية، فكيف تبنى المعارف العلمية بكيفيات متغايرة وبصوّر مختلفة في أذهان المتعلمين؟.

بالتدريب المحكم والمتواصل يكتسب المتعلم فنيات اقتناص المعرفة ولو خارج القسم، وبذلك يصبح مؤهَّلا للتعلم مدى الحياة، وهذا ما ترمي إليه المقولة الصينية الشائعة التي تنص على ما يلي: (بدل أن تطعمه سمكة في كل يوم، علِّمه كيف يصطاد السمك).

يهدر المتعلم يوميا، وفي موقفٍ يثير الشفقة، ساعاتٍ في نقل خلاصات مطولة على كراريسه، ويجبَر على فعل ذلك، وإلا سيواجَه بالعقاب الذي تعددت أصنافُه. ويستجيب لما طلب منه وهو منهك وغير راض. وفي المقابل، يُحرم من إنتاج نص علمي أو أدبي أو فلسفي مؤلف من عدة سطور، وهو أنفع له. ويقف حائرا خائرا في أيام الامتحانات المدرسية والرسمية لما يواجَه بسؤال إنتاجي؛ لأنه لم يتدرب على التعامل معه.

إن البيداغوجيا الهزلية المعتمدة في تقديم “الدروس اللصوصية” وهروب المعلمين والأساتذة من اقتفاء أسلم سبل ممارسة التعلم لفقدانهم الزاد والعتاد ورضاهم بالسهل غير المُتعب، وسكوت مفتشي الجيل الثاني الذين تسنموا سلالم الارتقاء وتولي المناصب من خلال منافذ نقابات التربية، هي من بين أهم الأسباب التي حرمت المتعلمين من أدنى فرص التدريب في الأقسام، ومنعتهم من التمرين المفيد.

بالأمس، كانت الكتابة بالريشة المغموسة في المحبرة تدريبا على تحسين الخط ورسم الحروف واستقامة السطور وشكل الكلمات واحترام علامات الترقيم. وكان التكليف بتحرير موضوع إنشائي في المنزل وتصحيحه من طرف المعلم أو الأستاذ تدريبا معتبرا لصقل مواهب المتعلمين الكتابية في المرحلتين المتوسطة والثانوية من التعليم. وكانت المطالبة بحفظ قصيدة أو مقطوعة شعرية واستظهارها أمام زملاء الفصل تدريبا على الإلقاء بصوت مناسب ولتصويب الأخطاء النحوية تصويبا جماعيا. وكانت المطالبة بحل واجبٍ في مادة العلوم الطبيعية تدريبا على كتابة فقرات علمية تُدمج فيها عدة مفاهيم متقاربة، وتظهر قوة التماسك بينها. وكان المتعلم يجد راحة ولذة مع كل منجز يعجنه بأصابعه، ويفتخر به أمام زملائه إن وُفّق في كل ما أسنِد إليه. ولنا اليوم أن نسأل: أين توارت هذه الأعمالُ التدريبية؟ ولماذا اختفت؟.

لا يتضارب التدريبُ مع المقاربة التدريسية بالكفاءات؛ فالتدريب هو أساس وركيزة بناء الكفاءات؛ لأن الكفاءات المقيدة في المناهج التعليمية لا يمكن تلقينها كما تُلقن المعارف بسبب أن المعارف التي تتضمنها هي مجرد عنصر من عناصر تركيبتها، وقصب السبق والتقدم غير ممنوح لها على وجه الإطلاق. والكفاءات لا تتحقق إلا من خلال المهمّة أو المهمّات المرافقة والتي تمنحها بُعدها الإجرائي المطلوب لكونها نشاطا هادفا ومفيدا.

من وساوس التضليل التي تحوم كالذُّباب الشارد والهائج حول الأذهان التصوّر أن علاج ضعف المتعلمين ورفع من مردود تكوينهم لا يتحقق إلا بمضاعفة ساعات التلقين وإطالة زمن جلوسهم على مقاعد الدراسة. وكم في هذه الرؤية العليلة من تفاهة وابتعاد عن جادة الصواب. فهل يحتاج من تناول وجبة غذائية دسمة وكاملة ومتنوعة أشبعت جوعه المعرفي، إلى وجباتٍ إضافية تسبب له التخمة الذهنية التي تنجرُّ عنها أمراضٌ لا تقلّ أذى وشراسة عن أمراض بطنة المعدة؟.

ومن المتفق عليه أن الدواء المقترح من دون تشخيص كاشف للعلة يزيدها تهييجا وتفاقما، وعلى كل من يقدم على مثل هذه العلاجات المطعون في سلامتها والمرفوضة عند البيداغوجيين المتمرسين أن يعرف أن البيداغوجيا علم ذو أصول ثابتة، ولا يعترف بوصفات الطب التقليدي. وأن ساعة واحدة تُقضى في التدريب الجيد خيرٌ من مائة ساعة تُصرف في الشحن والملء؛ لأن عقول المتعلمين ليست بطاريات أو قِربا أو أكياسا.

عندما نقول: (أن تعلّم يعني: أن تدرّب) فلا يعني قولنا أننا نحرف معنى مفهوم “التعلم” ونعمل على إخراجه من صلب إطاره الأصلي، وإنما نحن بصدد الاجتهاد لكي نجمع له مواصفات أخرى تنير حيّزه المعرفي أكثر، وتوسّع من دائرة معانيه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!