جواهر

أين الشّجعان؟!

أماني أريس
  • 3260
  • 20
ح.م

كنت أرمق تلك العجوز بنظرة استغراب، وفي صدري انقباض من كثرة مطالبها، و كنت أتساءل في نفسي أهكذا يكون العزاء؟ إنّه جرعة إضافية من العناء، أي حيل لأهل الميت، وأي مزاج يسمح لهم باستقبال الوفود وتحضير الولائم وتحمّل ضجيج الأطفال ودلال العجائز؟ ثم أعود لأجيب نفسي تلك المرأة المسنّة العفوية في تصرفاتها ليست الأولى بالنّقد منّا.. نحن من جعلنا مصيبة الموت مناسبة لإقامة الولائم والتجمعات الممتدة على مدى أسبوع كامل، كما يقول الأشقاء المصريون “موت وخراب بيوت”.

انتشلني من غمرة شرودي حديث امرأة غير بعيدة عني كانت تقاسمني الفكرة ذاتها، وتمنّت أن يتخلى الناس عن عادة إقامة الولائم في المآتم، ويتصدّقون على الميت في وجوه أحقّ. بعدما رأت كميات الخبز والكسكسي وقطع اللحم والبرتقال التي سيكون مصيرها حاويات القمامة. وقد أبدت جميع الحاضرات موافقتهن لكلامها.

عدت إلى نفسي أحدّثها هكذا نحن أغلبنا متّفقون في تذمّرنا واستيائنا من حال الزمن والبلاد والعباد، ومما لا شك فيه أن الوضع فعلا لا يسرّ ناظرا، ولا يرضي خاطرا، إلّا أنّني أعتبر النّقد اليتيم هو أبغض الحلال في شريعة المنطق، فنحن دكاترة في النقد والتشخيص، يجيده صغيرنا وكبيرنا وكل من عنده من العقل و الفهم أدنى بصيص، وعاجزون بالمقابل على تحريك ساكن لصنع التغيير..

أين الشجعان؟ من منّا مستعدّ للمبادرة بمخالفة الجماعة؟ من الذي سيسنّ أول سنّة حسنة لمأتم دون ولائم، أو فرح دون طقوس مكلّفة لا طائل منها؟ إننا نغتاب حماقاتنا الجماعية وحينما يقترب موعد تطبيقها نجدّد لها الولاء بكثير من الوفاء والتّقديس.

ما أشبهنا في اتّباع بعضنا بخرفان بانورج، ولمن لا يعرف بانورج هذا وخرفانه، هو بطل رواية ” بانتاغرويال” لكاتبها الفرنسي فرانسوا رابليه، هي رواية عظيمة تحمل من الرمزية ما يلخص حال ما نعيشه من انصهار لشخصية الفرد ضمن الجماعة، مشكّلا معهم قطيعا موحّد المصير والمسار حتى لو كان مؤديا إلى جهنّم، ويصبح التحرّر منه يتطلّب قرابينا ودماء وتضحيات لا يقدّمها سوى عدد قليل من الشجعان.

 في كل نكسة حضارية لأمة من الأمم نجد أن التغيير نحو الأحسن تصنعه فئة قليلة ألهمها الله عمق النظر، وحباها بنور الحق وزادها الشجاعة الكافية للمروق عن القطيع الضال، فتُنعت في البداية بالجنون والشّذوذ أو بالبخل وقلّة الذّوق، وتتعرض في سبيل ذلك إلى ما يعتبر خسارة بلغة المنفعة الضيقة. قبل أن ينصفها التاريخ، وتنمو بذور شجاعتها في زمن ما لتصبح ثقافة طيّبة في حياة أمّة برمّتها. ما أحوجنا إلى الشّجعان، وما أتعسنا بنخبة تعي مكمن الخلل، لكنّها تفتقد إلى أدنى شجاعة لتغييره.

مقالات ذات صلة