الرأي

“إصلاح الإسلام” أم تجدُّد الدين؟

صالح عوض
  • 1039
  • 24
أرشيف

عندما تطرح المؤسسة الأمريكية موضوع “إصلاح الإسلام” ويتساوق البعض مع العملية بالقيام بعمليات جراحية في الجانب السلوكي أو طمس بعض معالم الدين ويواجه البعض هذه العملية الخبيثة بمزيد من التصلب والتعصب نكون وقعنا في المحظور.

إن هذا الموضوع الذي يبدو للوهلة الأولى أنه فلسفي هو في الحقيقة ابعد ما يكون عن ذلك.. ومع الإحساس بأن البعض يشعر بأن مناقشة مثل هذه العناوين إنما هي أسئلة متكررة أسرع إلى القول أن هذا السؤال هو الأكثر جوهرية في حياتنا ويترتب عليه كيفية تعاملنا مع ذواتنا وأعدائنا ويحدد لنا أين مواقعنا ويدلنا على نقطة الانبعاث الحضاري لنحقق نهضتنا ووحدتنا وفلسطيننا.

في خضم المعركة الشرسة المفروضة على أمتنا على جبهات عديدة ظاهر منها ومستتر.. تبدو أخطرها جبهة المعارف وطبيعة تعاملنا مع منهجنا المعرفي المستند إلى الوحي إذ فقدنا الصلة مع مفهوم أن النص القرآني ليس ماضيا أو تراثا إنما هو حاضر حيّ يتنزل الآن وهنا في كل آن وكل هنا يخفي بعض معانيه حينا ويتكشف بعضها حيّنا على يد العارفين بروحه والمتدبرين لآياته إيمانا منهم أنه متجدد في عطاءاته.. فقدنا روحية التعامل مع النص القرآني فأصابنا الاضطراب فيما نحن نفسّر هزائمنا ونكرر أخطاءنا..

لابد من الإقرار بأن فهمنا لكيفية التعامل مع منهجنا المعرفي أصابه خللٌ جوهري طال بالعطب دائرة التفكير في صناعة الحياة بما يتناسب مع ما نرفع من شعارات.. وبسرعة نسجل أن المنهج المعرفي الخاص بنا يستمد دفقه من تدبر مستمر لما جاء به الوحي الأمر الذي يميزه عن المناهج المعرفية الأخرى.. وهذا يفتح الباب أمام تساؤلات عدة في محاولة الكشف عن الخلل الجوهري الذي أفقدنا القدرة على التوازن وأن نكون أمة مستفيدة مما حباها الله من عناصر النهضة والقوة.

هل لازالت الإفهام التي أدركها المسلمون من القرآن والإسلام في جيلهم الأول والأجيال التي تلته في شتى مناحي الدين كافية للمرحلة المعاصرة والقادمة؟ أم أن المشكلة تكمن في المسلمين الذين تخلوا عن بعض تلك الافهام والالتزام بها فحصل ما حصل من نكبات نتيجة ذلك فيصبح المطلوب تجديد المسلمين أو استبدالهم؟

قد يكون التساؤلان صحيحين، ولكن يبدو أنه ضروري الالتفات إلى التساؤل الأول على اعتبار أن هذا القرآن الكريم لم يتنزل لجيل بعينه ولا لزمان بحد ذاته إنما هو رفيق هادي للإنسان في كل رحلته الأرضية يتفتق عن معجزات آياته الكريمة من حين الى اخرما يكفي تماما لإحداث الشهادة على العالمين والإضاءة الكافية لعلو شأنه المنهجي والإعجازي الذي يمنحه سلطان القيادة والقدوة.. ويسير الزمن مع تجدد مستمر للمعاني والإفهام ملاءمة لمهمته الدائمة: “أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم”.. والقرآن لا تنقضي عجائبه وهو صالح لكل زمان ومكان وذلك بما يكتنز من طاقة متجددة ومعاني تتولد من آياته المعجزة حسب حاجة الإنسان وتطوره ومادام الأمر كذلك فمن غير اللائق ولا المنطقي ولا الجدية أن نقدِّم أفهام علماء مرحلة معينة على اعتبار انها مرجعية للفهم او المواقف.

وهذا التساؤل متصالح مع ما تشير إليه الآيات الكريمة العديدة من ضرورة استمرار التفكر والتدبر والتفقه الأمر الذي يعني بوضوح أن القرآن يمتلك إجابات على المبطلين المنحرفين مفحمة في شتى المواضيع وأنه يمد المتدبرين بحجج متجددة تزيح ركام الفهم البشري القاصر عن المعاني غير المحدودة التي يكتنزها النص القرآني.. أنه كتاب حي وليس نصوصاً قيلت مرة وانتهى بل هو نور يضيء اليوم بما فيه من عوالم وإحياء ويضيء الغد بما فيه من عوالم أخرى بما فيه من تطوّرات وعوالم متغيرة، وهو في كل هذا يجيب على التحديات التي يواجهها بالدليل القاطع.

من البداية يجب أن يؤمن المؤمنون بهذا الدين أنه ليس عبارة عن جملة قوانين او توجيهات حددت معانيها وضبطت مدخلاتها ومخرجاتها في دستور أو برنامج حياة.. عليهم أن يؤمنوا أن هذا الفهم قاصر تماما ومخل ويقود أصحابه إلى تحويل الدين إلى قيمة مادية محددة الأطراف والإبعاد.. علم كهنوتي يمثل شكلا من أشكال التيبُّس والتجميد لرسالة الدين بلا روح ولا شعور رابط بينها وبين الله الحي القيوم.. وهنا ينبغي الإشارة إلى معنى دقيق وهو ضرورة أن يشعر المؤمن بالإسلام ورؤيته وطبيعته أن الآية التي يقرأها تتجدد في معناها كلما قرأها وأن يعمل جهده العقلي والروحي في تدبُّر الجديد فيها ومتى أقدم عليها بهذه الروح فإنها ستفتح له آفاقا جديدة من المعاني والإجابات على تحديات معاصرة وسيكتشف المؤمن بالإسلام أن هذا القرآن كأنما يتنزل إليه في هذه المرحلة بالذات وفي هذه اللحظة بالذات.. وهذا ما سيشعر به المؤمن من طاقة جديدة وفعالية للآية القرآنية في حياته.

الحياة من حولنا تتطوّر بكل أبعادها وتتغير كثير من أنماطها المعيشية وتتبدل فيها أشياء كثيرة على صعيد الإشكال والمضامين، ولقد تطوّر الفهم البشري وتوسعت إسهاماته العملاقة، وقد تنامت كثير من العناصر في حياة الإنسان وتشعبت التحديات التي تواجه الإنسانية ونحن نؤمن أن الرسالة المحمدية لها مهمة جوهرية محددة إلا وهي رحمة بالعالمين.. فهل يمكن أن يترك الله سبحانه البشرية من دون هداية لهم في مواجهة المستجد من التحديات؟ كل المؤمنين بالإسلام يعرفون أن الله سبحانه من واسع كرمه وحكمته كان يرسل الأنبياء للهداية والرحمة ولكن النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم هو النبي الخاتم. ومن هنا تضمن القرآن الكريم المعجزات المتجددة والإجابات المنبثقة من أسراره التي تتكشف حسب الحاجة وإلحاح المتدبرين.

من هذه المعطيات جميعا -وماهي إلا إشارة- ندفع القول إلى أن تجدد الدين عملية مستمرة من اليقظة وأن كل تجدد فيها إنما يعني بالأساس مرحلته وتحدياتها مع إيماننا أن القرآن الكريم لن يتوقف عن العطاء طالما هناك بشر على الأرض.. ومجموع عطاءاته هي مجموع كنوزه المخبأة فيه متروك للعقول النيِّرة والأرواح المشرقة والنوايا الصافية لكي تلامس معناها في اللحظة المطلوبة.. وهذا يجدد إيماننا أن كل من سبق من مفسرين وشراح وعارفين لم يبلغوا مرامي القرآن وآياته التي لا تنتهي مادامت هناك حياة للبشر على وجه الأرض.

أن منطق تجدد الدين وعمليته يكشف لنا حقيقة موقف الكثيرين الذين قولبوه في معلبات وأنماط ويكشف لنا عن الظلم الذي يمارسون باسم الدين بعد أن فرغوه من أهم عناصره وهو أنه حي.. وعندما يحتكم الناس لمواقف وإفهام مراحل مختلفة تماما عن مرحلتهم في كثير من المعطيات الحياتية يمارسون في حقيقة الأمر عملية نكراء من إلغاء خصوصية النص القرآني ومن إلغاء عقولهم وحرمان أنفسهم نعمة التجدد والعطاءات الكامنة في النص القرآني ومن الزج بالناس في ضرورة الالتزام بما لا يناسبهم ولا يتفق مع ما هو حاصل في حياتهم ويزيدهم إرهاقا الأمر الذي يدفع إلى النفاق الاجتماعي أو الانفصام المعرفي والضيق والضنك.

هل لازالت الافهام التي أدركها المسلمون من القرآن والإسلام في جيلهم الأول والأجيال التي تلته في شتى مناحي الدين كافية للمرحلة المعاصرة والقادمة؟ أم أن المشكلة تكمن في المسلمين الذين تخلوا عن بعض تلك الافهام والالتزام بها فحصل ما حصل من نكبات نتيجة ذلك فيصبح المطلوب تجديد المسلمين أو استبدالهم؟

مقالات ذات صلة