-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إلى أين ذهبت الـ57 مليار دينار المخصصة للبحث العلمي؟!

إلى أين ذهبت الـ57 مليار دينار المخصصة للبحث العلمي؟!

تابعتُ  بكثير من الاهتمام حفلَ تنصيب المجلس الوطني للبحث العلمي والتكنولوجيا يوم السبت 26/03/2022م بالمركز الدولي للمؤتمرات بحضور عدد من أعضاء الحكومة، برئاسة الوزير الأول الذي تلا بيانا رسميا تضمّن العديد من الحقائق والأرقام والإحصاءات والكميات والأعداد والسنوات المتعلقة بسير عمليات إنتاج البحث العلمي في الجامعة الجزائرية ومراكز البحث الدائمة.

لاحظتُ من خلال البيان الذي تلاه الوزير الأول أن نظرة السلطة –للأسف الشديد- إلى البحث العلمي سلبية وغير كافية لإحداث نهضة حقيقية وإقلاع تنموي بنّاءٍ.. ووجدت أن سياستها مازالت تراوح مكانها منذ عقود فيما يتعلق بالبحث وبالباحث العلمي الحقيقي، وأنها ما فتئتْ تنظر إلى البحث العلمي ومنتجاته ومخرجاته على أنه مجرد أرقام وإحصاءات وأعداد ومقاعد ومناصب مالية وموارد بشرية متراكمة ومكدسة خلف ووراء المكاتب، ورقما ماليا يقدر بـ(57) مليار دينار أي ما يعادل (335) مليون أورو أو (400) مليون دولار تقريبا حسب تأرجحات السوق المالية، يدخل في إطار ما رصدته السلطة من ميزانيةٍ لمختلف نشاطات ومجالات وميادين البحث العلمي في الجامعة الجزائرية طيلة سبع سنين 2015-2021م، أي: ما يعادل حوالي (60) مليون دولار سنويا من ميزانية الدولة المقدَّرة بستين (60) مليار دولار سنويا، أي: ما يعادل واحد (%1) من ميزانية التجهيز والتسيير. وعلى افتراض أن الميزانية تقدر بثلاثين (30) مليار دولار، فإن الحساب يكون لميزانية البحث العلمي بما مقداره (2 %) على أحسن تقدير وواحد بالمائة (%1) على أسوء تقدير.

وما آلمني أكثر هو أن تخرج هذه الأرقام في بيان رسمي يتلوه ثاني شخص في هرم السلطة التنفيذية في الجزائر مع كثيرٍ من الفخر على ما أنفقته السلطة على البحث العلمي، وتمنيتُ لو تلاه شخصٌ آخر ممن يُحسَبون على هذه الهيئة أو غيرها من الهيئات كأكاديمية العلوم ومجلس البحث العلمي أو أي إطار متلهِّف للبروز في الوزارة.. لكان أفضل من أن يأتي على لسان الوزير الأول، لسبب بسيط هو أن هذا الرقم (57) مليار دينار (400) مليون دولار محبِط ومثبِّط، إذا ما قورن بأبسط ما تخصصه دول العالم للبحث العلمي.

إن الدول المتقدمة والناهضة والساعية للنمو تخصص للبحث العلمي ما مقداره من ميزانياتها السنوية (5%) إلى (10%) إلى (15%)، فماذا يعني تخصيص (%1) أو (2%) من الميزانية وهي في محصلتها تذهب إلى جيوب مختلسي ألقاب الباحثين ممن لم ينتِجوا ولن ينتجوا شيئا.. وهو ما بيّناه في مقالات شروقية سابقة سنوات 2016..2022م؟

وتتمة للمسألة، فقد حوى البيان الرسمي المتلوِّ والمنقول في الصحافة العمومية والمستقلة مجالاتِ وميادينَ ومحاورَ الإنفاق على مجالات البحث العلمي، ذاكرا عدد مخابر البحث العلمي المقدرة بـ(1661) مخبرا نهاية 2021م، فضلا عن (29) مركز بحث، و(43) وحدة بحث، و(24) محطة تجارب، فضلا عن الأرضيات التكنولوجية والمنصّات التقنية والحاضنات، مذكِّرا بارتفاع عدد الباحثين خلال العشريتين الماضيتين من (8000) باحث سنة 2000م إلى (40500) باحث نهاية 2021م، ثم عرض لآمال وآفاق السلطة وتمنِّياتها ورجائها من البحث العلمي المتطور، معرِّجا على أن مستوى الإنتاج العلمي وصل تعداده من حيث المنشورات إلى (86500) منشور علمي، ارتقى منها عدد (219) إلى مؤشر (هيرش) المخصص لتقييم إنتاجية وتأثير الباحث في المجتمع.. وهذه هي الأبحاث الحقيقية المستوفية للشروط العلمية العالمية، أما الباقي فسنقدِّم نبذة عن صورته الحقيقية القاتمة لاحقا، لأنها مجرد أبحاث خفيفة وسريعة ومستنسَخة ولا جديد فيها..  تُعدُّ لتحصيل منافع ومراتب دنيوية رخيصة جدا، يستهجنها أشباهُ الباحثين في حصالات الأمشاج والخلطات الكلامية المبهمة.. وهذا ما بيَّنته سابقا في مقالاتي عن مشاريع البحث التي هي وجهٌ قذر لنهب المال العامّ، تهدف إلى تلويث ورشوة أشباه وحطام الباحثين اللاهثين وراء المنافع التافهة والمبالغ البسيطة.. وهم الذين عبّوا تلك الميزانية على قلتها وتواضعها، فيما لم يستفد الباحثون الحقيقيون منها -وأنا واحدٌ من هؤلاء المهمّشين- من ريوع وخشاش البحث العلمي الوهمي أو الحقيقي.. فقد أنتجتُ في السنوات الأربع الأخيرة عشرة كتب علمية أكاديمية درَّستُها للطلاب ووضعتُها في المنصة دون أدنى مقابل مادي أو أدبي، كما زوَّدتُ قسم الدكتوراه في الدعوة في جامعة حمّة لخضر بالوادي بثلاثة كتب دمجتها كمرجع في منهجية البحث الدعوي للمتسابقين في تخصص دكتوراه الدعوة الإسلامية.. دون أدنى رسالة شكر وتنويه، فأيُّ باحثٍ وبحث علمي هذا الذي تتكلمون عنه؟!

الدول المتقدمة والناهضة والساعية للنمو تخصص للبحث العلمي ما مقداره من ميزانياتها السنوية (5%) إلى (10%) إلى (15%)، فماذا يعني تخصيص (%1) أو (2%) من الميزانية وهي في محصلتها تذهب إلى جيوب مختلسي ألقاب الباحثين ممن لم ينتِجوا ولن ينتجوا شيئا؟!

وقبل أن نذهب إلى تبيان حركة البحث العلمي البائسة في الجامعة الجزائرية نودُّ فقط التنبيه إلى أن هذا المبلغ (57) إذا قُسِّم على عدد الباحثين المقدر عددهم حسب الإحصاءات الرسمية بـ(40500) باحث، يكون مقدار ما ناله كل باحث طيلة السنوات السبع مبلغ مليون وأربعمائة ألف (1400000) دينار للباحث الواحد، أي: ما يعادل ويقابل كتابين ألفتُهما ونشرتهما في سلسلتين علميتين تابعتين لوزارة الشؤون الدينية (روافد، الأمة) في دولتي الكويت (التغيير بالقراءة، عدد 77، 2014م) وقطر (حاجة الدعاة لعلم المقاصد وفقه الواقع، عدد 180، 2018م). وهذا أمرٌ مخجل ومحبِط عندما نتحدث عن ميزانية البحث العلمي في دولة كبيرة وغنية وعظيمة كالجزائر. في الوقت الذي طبعت فيه وزارة الشؤون الدينية كتابا مسروقا من كتابي (مدينة تبسة وأعلامها) وغيره، دونما اعتذار أو إصلاح للخطإ تجاهي كضحيّةٍ تعرَّض لسرقةٍ علمية وأخلاقية وقانونية.. فأي بحث علمي هذا الذي تتحدثون عنه؟!

ومع كلِّ هذا وذاك، تعالوا نعرض لواقع البحث العلمي في الجزائر وبالنظر فقط في جانب البحوث في العلوم الإنسانية والاجتماعية والإسلامية؛ فثمة كلياتٌ تضم المئات من الأساتذة لا يُنتجون سوى تكديس المعارف المنهجية المنقولة من المدرستين الأنجلوساكسونية أو الفرنكوفونية فقط، وإن أنتجوا فجلُّ ما أنتجوه وينتجوه إلى الغد هو دراساتٌ تطبيقية لا تعدو كونها تحصيل حاصل كحساب عدد المتسربين من الدراسة أو المطلقين والمطلقات والمخلوعين والمخلوعات والمخدَّرين والمخدرات والمنحرفين والمنحرفات..

وأختم مقالي بالتنبيه إلى أن مجمل ما عرضه البيان الرسمي حول البحث العلمي منوِّها بعدد المخابر البحثية، فهي والله من حيث العدد كثيرة جدا، ولكنها من حيث الإنتاج العلمي الحقيقي ذي المستوى العالمي ليست على شيء يُذكر.. وأنا متأكدٌ من كلامي في تخصص العلوم الإنسانية والاجتماعية والإسلامية وأنه لو نُصِّبتْ لجان تحقيق للتأكد من حقيقة ما يكتبه الباحثون ورؤساء المخابر والوحدات في تقاريرهم بغرض استيفاء الشروط وقبض المنح والمكافآت، وستكون الحصيلة فارغة جدا، إن لم تكن غير موجودة أصلا، وإنما هي مجرد حبر كاذب على ورق آثم بقلم خائن وشخص مخادع لقبض مال حرام..

وفيما له صلة بعدد الباحثين المقدر بـ(40500) باحث نهاية 2021م، فلا يغرنّك يا سعادة الوزير الأول عددهم، فالكثيرُ منهم –ولا أعمِّم- كالغثاء والزبد الذي يذهب جفاءً، لأنهم باختصار: لا يقرأون.. ولا يكتبون… وفيما يخص محك ومؤشرات قياس نوعية البحوث وتأثيراتها.. فهي غير معمول بها في فضاءاتنا البحثية نهائيا وتخضع للزبونية وللعصبوية وللجهوية وللمقايضات الرخيصة وغير العلمية.. وفيما له صلة بالمجلات ورئاسة تحريرها وتحكيمها والملتقيات وحتى رئاسة الجلسات وقراءة البيان الختامي فهي لا تخضع للمعايير التي أعرفها في دول المشرق والخليج العربي، ولا ترتقي للتحكيم العلمي الدقيق والمطلوب..  وكذلك توزيع وإسناد المناصب النوعية (مسؤول الشعبة، التخصص، المسار..) وما ينجرُّ عنها من نفقات ومكافآت مقابل تولي المناصب النوعية، فهو حقلٌ ملوث بالجهوية والشللية والصحوبية والولاء والإذعان.. حتى اختيار وانتخاب أعضاء ورؤساء اللجان العلمية والمجلس العلمي تخضع للاعتبارات نفسها، بل لأسوأ منها.. ولا يختلف عنها في الدنس والسقوط محورُ المِنح والتربصات في الخارج والساعات الإضافية ومقابل المذكّرات الوهمية.. والمستنقع البحثي يا سعادة الوزير الأول المحترم جدا في نظري.. عميقٌ وكبير وآسن وموحل، لأنَّ الباحثَ والبحث الحقيقي وصفاتِه العلمية والتكوينية والمنهجية والأخلاقية والدينية والوطنية في موقع ومقام نواب النبوة والرسالة المقدسة، وهؤلاء ليسوا ولم يكونوا منه يوما ما.. والمهمّ عندي: أللهم اشهد أني بلغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!