-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إلى جنات الخلود عمي عثمان

إلى جنات الخلود عمي عثمان

ترجل أمس الثلاثاء  05/جادى الأولى/1444هـ 29/11/2022م من قافلة فرسان العروبة والإسلام والوطنية ممن بقي شامخا من حلبة رجال الجزائر الأفذاذ.. ممن لم تغيرهم المناصب والمسؤوليات والمواقع.. وممن بقيت تسري في دمائهم روحُ وصفاء وتضحية عظماء الجزائر..  ممن رآهم وخالطهم وعمل معهم من مصاف الرعيل الأول من رجال ثورة نوفمبر المجيدة ومن قادة الدولة الجزائرية الفتية.. فارس وحارس وحامي وقيّمُ اللغة العربية في الجزائر عمي عثمان الوطني الغيور والمتواضع.. كما نحب أن ننعته بتبسة.. السفير والدبلوماسي والأديب الكاتب الدكتور المتميز.. الذي ذاع صيته في أنحاء العالم وأرجاء العالمين العربي والإسلامي والفضاء الإفريقي.. سليل مدرسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وحزب الشعب وحركة انتصار الحريات الديمقراطية ومدرسة ومناضلي ومجاهدي جبهة التحرير الوطني العتيدة أيام عزها ومجدها..

رحل الأب الحنون، والعم العطوف، والمسؤول المثال، الذي يُعدّ فخرا للجزائر يوم أن كانت المسؤولية تكليفا وعملا وتضحية وتفانيا في خدمة الأمة.. رحل السفير الهادئ الرزين الغيور على أبناء أمته.. يوم أن كان يدير السفارة الجزائرية بدمشق بكل اقتدار ومسؤولية وتواضع.. كما كنا نراه ونشاهده ونتعامل معه.. رحل أبو المساكين والأسر الفقيرة.. رحل إلى رب رحيم سيتقبله مع الصالحين.

وقد وُلد السفير الدكتور عثمان سعدي بدوار (تازبنت) من أعمال بلدية (بير مقدم) من أحواز دائرة الشـريعة بولاية تبسـة سـنة 1930م في عرش قبيلة أولاد مسعود من قبيلة النمامشة، وتابع دراسـته في المرحلة الابتدائية في المدارس الفرنسـية في بلدتي خنشلة وتبسـة، ثـم أقام عند خاله بتبسة الذي وفر له فرصة الالتحاق بعد ذلك للدراسة في مدرسة تهذيب البنين والبنات بتبسـة فنال منها الشـهادة الابتدائية، ثم رشح بعدها للدراسة في معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة سنة 1947م  وتخرّج منه سنة 1952م.

وقد أرسلته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لمتابعة دراسته في جامعة القاهرة في أول بعثة علمية ترسلها الجمعية إلى المشرق العربي سنة 1952م، بعد هجرة الشيخ البشير الإبراهيمي واستقراره بمصر سنة 1952م، وحصل على شهادة الليسانس في الأدب العربي من جامعة القاهرة سنة 1956م.

ولما اندلعت الثورة التحريرية المباركة انضم إليها كغيره من الطلبة المسلمين الجزائريين، ومثَّلها خير تمثيل في العديد من المحافل والندوات والمؤتمرات الدولية باسم الطلبة المسلمين الجزائريين، وتدرَّب على فنون القتال في معسكرات التدريب بمصر والتحق بصفوف الثوار في ليبيا وتونس، ولكن حاجة الثورة إليه لتمثيلها في الخارج جعلتها تحتفظ به أمينا دائما لها للمكتب العسكري بالقاهرة، ثم في باقي دول المشرق العربي الأخرى، وهناك تزوج من فلسطينية تدعى (مكرم) كانت تدرس معه بجامعة القاهرة، وظلت معه إلى أن توفيت سنة 1999م بالجزائر العاصمة، وقد أنجبت له بنتين وولدا. وقد تحدّث عنها في مذكراته رحمه الله بكثير من الاحترام والتقدير والإجلال.

تقلَّب في العديد من المناصب السياسية بعد الاستقلال فكان سفيرا للجزائر بالعراق، ثم سفيرا لها في سورية، وخلال عمله سفيرا في العراق درس وأعدّ أطروحة الماجستير في الأدب العربي، تحت عنوان [الثورة الجزائرية في الشعر العراقي]، كما أعد رسالة دكتوراه الدولة في الأدب العربي خلال فترة تواجده سفيرا للجزائر في سورية 1974-1977م تحت عنوان [الثورة الجزائرية في الشعر السوري]، ثم قفل راجعا إلى أرض الوطن، وترشّح ليكون نائبا عن ولاية تبسة ونجح في الانتخابات وصار نائبا في المجلس الشعبي الوطني سنة 1977م، وانتضى قلمه للدفاع عن حمى العروبة والانتماء العربي الأصيل للشعب الجزائري، ومازال إلى اليوم يدافع عن اللغة العربية وعن التعريب بالجزائر، ومازال واقفا كالطود ضد أطماع التيار الفرنكوفوني والبربري والشيوعي في الجزائر.

ولأجل كل هذه الغايات النبيلة فقد أسس الجمعية الوطنية الجزائرية الدفاع عن اللغة العربية، وألَّف العديد من الكتب اللغوية والثقافية والتاريخية، كما كتب العديد من المقالات الحضارية والتاريخية يردّ فيها دعاوى البربريـة في الجزائر.

وقد كان عضوا في اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني وقد انتخب نائبا في المجلس الشعبي الوطني عن ولاية تبسة سنة 1977م حتى سنة 1982م، وتجددت عهدته الانتخابية في المرحلة الثانية 1983-1987م، وشارك في الانتخابات التشريعية بتبسة سنة 1991م ولكنه لم ينل الأصوات الكافية، وكنت عضوا في لجنته التحضيرية.

وتقاعد مبكرا بعد أن تبدلت سياسة النظام الحاكم في الجزائر، التي استغنت عن خدمات أصحاب الاتجاهات العربية والإسلامية والوطنية من أمثاله، ولكنه ظل يكتب ويدافع عن تاريخ وعروبة الجزائر. [1]

يذكر الأستاذ الدكتور الدبلوماسي عثمان سعدي مرحلة تتلمذه على يد الشيخ عبد المجيد حيرش بمعهد عبد الحميد بن باديس فيقول: ((.. أنني تتلمذت عليه في معهد عبد الحميد بقسنطينة بين 1947 و1951، وكان المعلّم القدير المتمكن من المادة التي كان يعلّمنا وهي النحو والصرف، كان يتابع الحركة الأدبية بالوطن العربي، ويقرأ ما يُنشر بمجلة الرسالة التي يديرها بمصر الزيات، وكان يردد لنا ما يدور من معارك أدبية بها، كان متعصبا لمصطفى صادق الرافعي يردد ما كان يقوله عن موقف طه حسين من الشعر الجاهلي يقول الرافعي: “إسفنجة جاءت لشرب البحر، وشمعة تضيء في عز الظهر، والشيخ طه في فهم الشعر، ثلاثة مضحكة لعمري”. كان يحب ترديد هذه المقولة، وإن كنت من صف طه حسين الذي جدد في نقد الأدب العربي..)).

ويضيف الدكتور عثمان قائلا: ((..  وأذكر بهذه المناسبة أنني تتلمذت على طه حسين مدة ثلاث سنوات كطالب في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وكان يكلف في بعض دروسه طالبا بقراءة نص أدبي وإذا أخطأ يناقشه في الخطأ، وأذكر أنه كلفني أمام الطلبة بقراءة نص فنطقت جملة فقلت (لم يَرُدِّ) وكان الشائع لم يرُدَّ، فقال لي: أعِد نطقَ الجملة، فأعدتها ثلاث مرات، فقال لي: لماذا كسرتَ الدال؟ فأجبته:  “تجوز يا مولاي ثلاث لغات في الجملة لم يرد بفتح الدال ولم يرد بكسره، ولم يردد بفك الإدغام”، فقال: أين تعلمت هذا؟ فأجبته تعلمته بالجزائر وعلمني إياها شيخي عبد المجيد حيرش”. فما كان من طه حسين إلا أن قال:أنتم المغاربة تُحسنون اللغة العربية أفضل منا نحن المشارقة“...)).

ويضيف واصفا علاقته بشيخه فيقول: ((.. كان عبد المجيد حيرش يكنّ لي حب الأب للابن، فعندما حدث صدامٌ بيني وبين أحد المشايخ المتعصبين لحزب البيان وكنت أنا سياسيا منتميا لحزب الشعب، مثَلتُ أمام مجلس التأديب الذي طالب بعضُ أعضائه بفصلي، فما كان من عبد المجيد حيرش والياجوري والعربي التبسي مدير المعهد إلا أن رفضوا الفصل، قائلين: لا نفرض الانتماء السياسي على الطلبة، نحن نحاسبهم على الدراسة والانضباط التربوي لا السياسي..)).

يصف الأستاذ الدكتور عثمان سعدي الشيخ عبد المجيد حيرش فيقول: ((.. الشيخ عبد المجيد حيرش من الأعلام الذين حافظوا على بقاء اللغة العربية، فبفضلهم من تلاميذ عبد الحميد بن باديس وأعضاء جمعية العلماء تكوَّن في مدارس الجمعية الآلافُ من الشبان والشابات الجزائريين باللغة العربية، وجدتْ فيهم الجزائر المستقلة العناصرَ التي أسِّس عليها تعريبُ المدرسة الجزائرية. رحم الله الشيخ عبد المجيد حيرش وسيكافئه الله على جهاده في سبيل الإسلام والقرآن ولغة القرآن..)).

وقد ترك السفير عثمان سعدي الكثير من المؤلفات أشهرها (عروبة الجزائر عبر التاريخ) ومذكراته التي كتبها وطبعها في ثلاثة أجزاء وهي:  (1– في ظلال قرطا. 2- وشم على الصدر. 3– في ظلال الكنانة وتحت أضواء الدبلوماسية.)     

رحل الأب الحنون، والعم العطوف، والمسؤول المثال، الذي يُعدّ فخرا للجزائر يوم أن كانت المسؤولية تكليفا وعملا وتضحية وتفانيا في خدمة الأمة.. رحل السفير الهادئ الرزين الغيور على أبناء أمته.. يوم أن كان يدير السفارة الجزائرية بدمشق بكل اقتدار ومسؤولية وتواضع.. كما كنا نراه ونشاهده ونتعامل معه.. رحل أبو المساكين والأسر الفقيرة.. رحل إلى رب رحيم سيتقبله مع الصالحين.

وهو السفير والدبلوماسي المحترم والمثقف الأديب واللغوي الكاتب الرقيق والشجاع عثمان سعدي لمن لا يعرفه من هذه الأجيال التي لا تقرأ ولا تفكر.. لقد كان رحمه الله خير وأفضل من مثّل الجزائر عند استلامه منصب سفير الجزائر بالعراق وسفير الجزائر بسورية، ولعلني أنقل شيئا عن ما عاشته أسرتي في ظلاله وعطفه عندما تركنا والدي لوحدنا في سوريا سنوات 1973-1975م. وكان السفير عثمان سعدي قد قدِم إليها سفيرا فوق العادة من العراق بعد رحيل السفير (العربي سعدوني) رحمه الله، فكان خير عون لأسرتي، فقد تكفَّـل برعايتنا وتغطية حاجياتنا رحمه الله تعالى. وكنت أذهب إليه بداية كل شهر إلى مقر السفارة الجزائرية بالمهاجرين بشارع أبو رمانة فيخرج من مكتبه ويستقبلني ويمسح دموعي ويمرّر يده على شعري ويكلمني بأطيب الكلام وأرقه ويشجعني على أن أتم دراستي بنجاح وأنه سيتكفل بنا حتى نعود إلى الجزائر آمنين مطمئنين، ثم يُخرج من جيبه مبلغا محترما جدا من المال ويعطيني إياه وكان يقدر يومها بـ(350) ليرة سورية، وهو مبلغٌ محترم جدا ويكفينا لنعيش كأسرة مكوَّنة من عشرة أفراد طيلة شهر كامل عيشة كريمة ومحترمة، حتى أنهينا دراستنا وتكفَّل بنقلنا إلى الجزائر بطائرة خاصة لا تحمل سوى أسرتنا فقط وذلك يوم 05/07/1975م، وذلك بعد أن جهَّزَنا وقدَّم لنا الإعانات والمساعدات، وظل يطمئن علينا حتى بعد عودتنا إلى الجزائر.. وكثيرا ما كنت ألتقيه في الملتقيات والمؤتمرات فيسعد بي وبلقائي ويفرح لأنه ساهم رحمه في إنقاذ أسرة جزائرية من الضياع والغربة والاغتراب.. وكنت أقابله بكثير من الاحترام والتقدير ومازلت دائما وكلما تحدثت إليه بالهاتف.

وقد توفي رحمه الله بالجزائر العاصمة بعد صراع طويل مع المرض والوحدة يوم الثلاثاء  05/جادى الأولى/1444هـ 29/11/2022م. فليرحمه الله في الخالدين. 

صورة للشيخين البشير الإبراهيمي والفضيل الورتيلاني بالقاهرة مع الطلبة الجزائريين ويبدو الأستاذ عثمان سعدي بالنظارات السوداء يمين الصورة.

[1] عثمان سعدي، نبذة عن حياته وأعماله بيد المؤلف، مطبوعة انتخابية أعدت للمشاركة في الدعاية الانتخابية سنة 1991م.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!