-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

…إلى مثقف سوري تحت الرصاص

أمين الزاوي
  • 6697
  • 1
…إلى مثقف سوري تحت الرصاص

أصدقائي من الكتاب والمثقفين السوريين، في البدء السلام…. كما يخيفكم، يخيفني التطرف بكل أشكاله ومضامينه، ويخيفني استثمار الدين في السياسة، واستغلال الإيمان البسيط الفطري لدى العامة لجرها نحو طريق الانتحار الإيديولوجي، ولكن علينا الإقرار بأن ثقافة التطرف الديني نشأت وترعرعت وتدعّمت في أحضان تطرف آخر عاشه العالم العربي منذ الاستقلالات الوطنية، تطرف باسم الوطنية تارة وباسم الاشتراكية أخرى وباسم القومية ثالثة وباسم الدفاع عن فلسطين التي لم يطلق أحد رصاصة لأجلها منذ أربعين سنة، في أحوال أخرى. التطرف صورة للقمع المؤسساتي ورحم خصب لإنتاج قمع مضاد.

  

أيها الأصدقاء المبدعون

خوفي على دمشق من العتمة، آت من خوفي على مثقفيها من الاغتيال ومزيد من الزنازين وجغرافيات جديدة للمنافي والمساومة، ولنا نحن في الجزائر جرح ورأسمال من الدموع والفقدان والتشرد والجنون والانهيارات.

 مخيفة العتمة يا صديقي الشاعر، ولكنها الحياة لا حياة فيها إلا بالموقف المُقاوِم.

مخيفة الفوضى القاتلة التي تكبر في الغضب الكبير، وفيها يختبئ لصوص الحروب، والمتربصون بالشمس وأعداء حرية الإبداع، ولكنه نداء الشعب المتعب من سنوات الظلم والعبودية المعاصرة.

أنتم، أيها الأصدقاء من الكتاب والفنانين يا أحفاد عبد الرحمن الكواكبي، ليس غريبا عليكم مثل هذا الاستبداد ضد المثقفين والمفكرين، فقد عَلَّمَتْكُم حياةُ المثقف الشيخ الكواكبي بكل فصولها في العناد والإصرار والتشرد والسجن والنفي إلى اغتياله الغامض، إلى كتابه الذكي”طبائع الاستبداد”، علمتكم (وعلمتنا معكم) بأن الأنظمة العربية جميعها رضعت حليب الاستبداد، استبداد بكل الألوان وبكل الروائح والخطب، منذ بداية تشكل الدولة الوطنية.

المواطن إما راكع أو سجين أو مهان أو مغتال أو منفي، ذاك قدر المواطن العربي منذ ثورة عبد الناصر ولواحقها المختلفة المزروعة في بلدان عربية في الشرق ومغاربية في المغرب.

الثقافة الوحيدة العريقة والمعتقة لدى الأنظمة العربية هي “الاستبداد” والفساد.

في هذا العالم العربي الغريب يكبر المثقف النقدي العنيد واقفا خلف متراس، يشيخ واقفا أمام قاضي التحقيق، يهرم مُوقَفا التوقيف المؤقت الذي يدوم السنين في قاعات مخافر الشرطة، يولد ويموت حائرا ومتهما بين فتاوى التحريم والتحليل التي تشبه فصول العام المتداخلة.

صديقي الفنان سميح شقير، يا حفيد سلطان باشا الأطرش، سلاما لقلبي أمك وأبيك وهما يفتفتان ما تبقى من حبات رمانة الحياة، في تلك القرية على بعد أمتار من ضريح المقاوم سلطان باشا الأطرش.

حين التقيت بك في باريس، كنت، في رقتك وشفافيتك، كعصفور من سلالة نادرة تبحث عن ركن للسلام، عن مكان يحمي حنجرتك من حد نصل الطغاة الذين تفننوا في قطع الحبال الصوتية لفناني الشعب، يا صديقي الفنان سميح شقير، يا حفيد اسمهان، سلاما للحنجرة التي تردد “يا حيف، يا حيف” إلى أن يزول “الحيف” ونلتقي في الصيف

صديقي الروائي نبيل سليمان، أيها الطفل المشاغب الذي لا يكبر إلا في حب الحياة، لا يشيخ لأنه لا يعرف الكذب والنفاق والمساومة، الكذب والسمسرة يسوسان الروح، صديقي الروائي نبيل سليمان، يا صاحب “مدارات الشرقو”جرماتي” و”ثلج الصيف” و…  وصاحب النكتة، تراني كلما أحمل الهاتف لأكلمك أتردد، خوفا عليك من عيون تترقب كل كلام وتتآمر على كل حديث، ولأن لي هذا اللسان السليط الذي لا أستطيع طيّه ووضعه في جيبي أخاف عليك منٍّي، أخاف على قلبك الذي انكسر وسط الطريق، ولا يزال يقاوم، أخاف على مصعده من التوقف أو العطب قبل الربيع القديم، صديقي الروائي نبيل سليمان، قبل عشر سنوات تقريبا، كنتَ أول المبادرين إلى تشكيل ندوة للحوار الثقافي الديمقراطي في بيتك، فاعتدى عليك “الشبيحة” واتهموك بالتآمر على أمن الدولة، وأنت الذي لا يعرف سوى الكتابة وصناعة الفرح وحب الأصدقاء الموزعين في بلدان كثيرة وحب الوطن.

أحييك يا ميشيل كيلو مثقفا قبل السياسي، مثقفا من فصيلة الروحانيين بالتجربة والمحنة، أحييك قارئا للأدب وعاشقا للمسرح والفن والعمارة، وأنت الذي كانت لنا معا حوارات مطوّلة حين قرأت مجموعتي القصصية الأولى “ويجيء الموج امتدادا” وكنتَ وقتها موظفا بوزارة الثقافة، أحببتَ في كتابي الأول هذا لغتي الجزائرية الغامضة التي امتلأت بها حوارات شخوص قصص المجموعة، لكنك قلت لي: هي لغة جمالها الكبير في أنها طردت الاستعمار الفرنسي، اللغة التي تطرد المستعمر قادرة أن تكتب الشعر والقصة وبها تتغنى أجمل الحناجر.

أفكر في حارات دمشق وفي مكتباتها وأتساءل: في وابل الخوف هذا، في شلال الدم، وفيضان الأحقاد وسُمِّ السلطة، ما أخبارك أيها الفيلسوف يا طيب تيزيني، ما أحوالك وما أحوال مشروع “النهضة الجديدة” التي دعوت إليها، كيف يتجلى الضباب يا أستاذي، أراك حاملا محفظتك كما وأنك لم تغادر مدرسة حمص بعد، وها هي مدرسة حمص مستمرة!!

أيها الطويل الواقف في العالي حبة أخيرة في عنقود دالية الحوش الدمشقي الكبير، طويلا في كل شيء أيها المفكر، يا صادق جلال العظم، منذ أربعين سنة أو يكاد وأنت تواجه بشراسة ودون خوف أو تردد أمراض “ذهنية التحريم” التي صادرت كل حرية وكل اختلاف وكل تنوع، منذ أن مُنِع كتابُك “في نقد الفكر الديني” في سبعينات القرن الماضي، وأنت تحمل بقلق الفيلسوف رسالة نبوية معاصرة حول حرية التفكير وحرية النقد وسلطان العقل وعبادة الاجتهاد، رسالة ضد النقل والكسل، ما أخبارك أيها الفيلسوف، يا غيلان الدمشقي.

يمينا أرى وشمالا أرى، فلا أرى سوى وجع مدينة كانت لك ذات سنوات فرسا وامرأة ولغة وغواية فأقول لك: نم هنيا أيها الشاعر الطفل يا ممدوح عدوان، فلا ورد في البلد، ولا مسرح إلا مسرح الموت ولا نساء جميلات في شارع الحمراء ولا قصائد في القصائد ولا سجائر ولا عرق… بوم على المدينة يا صديقي، والمدينة مقبرة، كثير من أصدقائك يغارون منك لا لشيء إلا لأنك رحلت مبكرا وفي حضنك بقايا من بقايا الشام بأبوابها وأفرانها وحواريها وخوفها وحلمها وياسمين حاراتها… لا شيء من ذلك اليوم يا آخر المحظوظين في موته/ الخراب على الأبواب

صديقي الروائي المبدع خليل صويلح، أيها الوراق الهادئ الماشي على نار، الجالس على طرف مقهى شعبي، كيف أحوالك في هذه الأهوال؟ سرك في صمتك، بوحك في نصوصك إذ يخونك الكلام دائما، أنت الوحيد من قبيلة الكتاب من تتجرأ الأسرارُ على إفشاء سرِّها إليك، حذار أن تحرق النارُ أوراقك التي تخبئها لبناء دهشة رواية قادمة.

البخاري، يا محمد، أيها الموريتاني النحيل، النحيف، يا شَبَهَ الهواء، يا حفيد الأمين الشنقيطي جئت دمشق منذ ثلاثين عاما، ودون سابق إنذار سقطت في عِشْقٍ بَسْطامِيٍّ لحواريها ولغتها وغموضها ونقاشات مثقفيها والنخب القادمة إليها من أركان الدنيا الأربعة، مغاربيين وفلسطينيين وخليجيين ومصريين وإفريقيين، لقد نصبك المثقفون في الأحياء المسلمة كما المسيحية، لا يهم، جميعا نصبوك مختارا عليهم“!!  حب المدن يبدأ كاللعبة ثم يتحوّل إلى قضية قَدَر، منذ أن دخلت دمشق قادما من نواكشوط لم تغادرها، لم ترحل عنها إلى مدينة أخرى لم تبدلها إلى أن رحلت إلى العالم الآخر، كنت تراها تسقط، تذبل، تتهاوى يوما بعد يوم، فمتَّ حسرة عليها وفيها، متَّ حزنا على نسائها الحزينات، الخائفات، على شوارعها التي سكنها العسكر والمخابرات واللصوص وقبل سنوات كانت سكنا لبائعي الياسمين وغزل البنات، نم يا صديقي أيها الموريتاني النحيل الشفاف في ترابها الذي ستطلع منه، ما في ذلك شك، ذات صباح نخلة تدر الشعر واللبن والخيل وسوالف الجميلات.

صديقي سعيد البرغوثي الفلسطيني، ما أحوال النكتة عند عتبة الجار في الطابق السفلي أو العلوي، نكتة عن جار لم يعد يقوى على قول النكتة، نكتة عن تحضير فنجان قهوة أو كأس شاي أحمر وقد نفذت قنينة الغاز في المطبخ وارتفعت درجة الحرج في اليوم الثالث.

ما أحوالك أيها الشاعر يا شوقي بغدادي، وحي بن عكنون بأعالي الجزائر العاصمة، بمدرستها العليا للمعلمين، تذكرك وتتذكرك، يا عاشق للجزائر، التي لها سرت لثورتها في منتصف الخمسينات على رأس مظاهرات بساحة المرجة بوسط دمشق، وفيها قلت شعرا كثيرا وجميلا، وجئتها بعد الاستقلال فسقطت في عشقها، ولم تخدعك بلاد جميلة بوحيرد، عشق أثار غيرة زوجتك الرقيقة عليك منها، امرأة تغار من مدينة، إننا نحبك أيها الشاعر فما أحوالك يا شوقي بغدادي

حيدر حيدر يا توأم “الفهد” (مجموعة قصصية نشرت العام 1968) لا تترك الأعشاب تنبت على اللسان (وليمة لأعشاب البحر رواية نشرت العام 1984)، أيها السليط البسيط، الواضح المركب، يا سلطان اللغة والبلاغة الجديدة، عنابة أو بونة مدينة البوني تتذكرك، تنتظر منك حكاية أخرى، من الحكايا التي تثير القلق، فلا أدب بدون قلق، أنت كاتب ضد الطمأنينة الكاذبة، عنابة أو بونة وتقيم لك في القلوب تمثالا خالدا كما أقامت واحدا من قبل على رأس جبلها لسانت أوغسطين، ما أحوالك وما عطر أوراقك في زمن يرتفع عطر البارود فوق كل عطر أيها الحكيم الضاج.

صديقي الفنان علي فرزات، من أصابعك النبوية تطلع فجيعة حكاية أصابع الخطاط أبو علي محمد بن علي بن الحسين ابن مقلة في بغداد ويطلع دم حنظلة (ناجي العلي) المراق غدرا في شوارع لندن، فاقرأهما حين تسود ساعات العصر في وجهك أو تتأخر الساعات الأخيرة من الليل الأخير كي يصل النوم إلى عينيك، لا نوم في مثل هذه الأيام، واضحك في وجه الجلاد فالجلادون يخافون رصاص الضحك الذي يُرسله نورا الكاريكاتورُ، فذاك هو البارود النبوي الوحيد الذي به بُشِّر الفنانون من مثلك.

سلاما أيها الأصدقاء، جميعا عليكم السلام.  

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • جعفر

    إلى كاتبنا الكبير أمين الزاوي, يا عزيزي المبدع لا تيأس إنك تكتب للاميين فما عسى أن يقوله أمي لا يعرف إلا ما سمعه من مشايخه الذين يحرمون كل إبداع و تفكير و علم لإنهم عاجزين على فهمه و لكي لا يصبحون في مؤخرة القطار فكل ما لا يفهمونه يحرمونه. إنني أشفق على هؤولاء الجهلة الذين لا يعلمون قيمة الكلمة الآولى التي جاءت في القرآن الكريم (إقرأ) و لكن كيف يفهمون و هم أميين, فحاصروا العلم في الفقه لا غير. يا كاتب التعليق مسكين أنت و الله.