الرأي

إنه مستقبل طلابنا… فلا تقتلوا أحلامهم!

من المؤشرات المبشرّات في السنوات الأخيرة بالجزائر إقبال التلاميذ النوابغ في شهادة البكالوريا على التوجه نحو التخصصات التقنية الدقيقة في الجامعة، وعلى رأسها الإعلام الآلي والإلكترونيك والرياضيات والذكاء الاصطناعي والهندسة بمختلف فروعها، حيث أضحت الوجهة الدراسية المفضلة للأوائل وطنيّا، على خلاف العرف الذي ساد لفترة طويلة باختيارهم الالتحاق بالشُّعب التقليديّة، ممثلة في العلوم الطبية بكل فروعها.

ومثل هذه الملاحظة ليست أبدا انتقاصًا من أهمية المعرفة الطبيّة، خاصة في بلد مثل الجزائر، لا تزال بحاجة ماسّة إلى موارد بشرية مؤهلة ومتخصصة في تغطية الخدمة الصحيّة، بل لإبراز أهميّة الاندماج الفاعل في اكتساب علوم المستقبل، والتي سيكون لها تأثير بالغ في رسم مصير البشريّة قاطبة، وتحديد آفاق القوى العالميّة وإعادة تشكيلها على النطاق الدولي، ضمن إطار اقتصاد المعرفة والتحوّل الكوني نحو عالم الروبوتات.

لقد كان قرار السلطات العليا بتدشين مدرستين عُلييْن في الرياضيات والذكاء الاصطناعي، وقبلها أقطاب أخرى، خطوة ذكية في الاتجاه الصحيح، عبّرت عن رؤية استشرافية في مستوى رهانات الزمن والجغرافيا، على أمل أن تحظى المبادرة بالمتابعة الجادّة على كافة المستويات، لتكون إضافة نوعيّة في صرح المؤسسة الجامعية الجزائرية، بما يستجيب لمتطلبات التنمية الوطنية في أبعادها المستقبلية الدقيقة، ويتيح لها مواكبة التطورات الرهيبة والسريعة من حولنا، عبر الاستثمار المعرفي في المواهب العقلية الجزائريّة الناشئة.

ندرك تمامًا أن هذا المشوار الطموح لن يكون سهلاً، ولن يتوقف عند حدود تهيئة مؤسسة تعليمية وبحثية لاحتضان الطلبة المتفوقين، بتوفير خيرة المكونين وأحْدث المستلزمات التكنولوجية والفنيّة في هذه التخصصات، بل يتعدى المشروع إلى آفاق المناخ الإبتكاري المرهون هو الآخر بواقع الجامعة في علاقتها بمحيطها الخارجي والأداء الاقتصادي عمومًا، حيث لا يمكن أن نتصوّر صناعة مخترعين وعلماء بالانكفاء في مدرجات التلقين أو مخابر الجامعة، بمعزل عن فضاءات احتواء تتكفل برعاية الأفكار الإبداعيّة وتجسيدها في منتجات ماديّة قابلة للتسويق والتنافس، ولاشكّ أنّ الجهات الوصيّة قد وضعت ذلك نصب أعينها في خطتها الحكوميّة الواعدة.

أمّا المسألة الثانية التي وددنا لفْت النظر إليها في الموضوع، والتي لا تقلّ أهميّة عن الفكرة نفسها، فهي ذلك التحوّل الإيجابي في تفكير المجتمع، وفي المقدمة منه التلاميذ وأولياء أمورهم، بفعل الانفتاح الذي أحدثته التكنولوجيا الرقمية والتواصل مع العالم الخارجي.

لقد عانى نجباء البكالوريا خلال سنوات خلت في تحديد مستقبلهم العلمي الجامعي، بفعل ضيق الأفق المهني في الجزائر من جهة، والرؤية المنغلقة للمحيط الاجتماعي من جهة أخرى، فلم تكن الخيارات أمامهم مفتوحة، ولا التفكير في ضبطها حرّا واستشرافيّا، بل ظل رهينة الضغوطات الأسريّة المرتبطة هي الأخرى بظروف المعيشة ودوافعها العاجلة، وأحيانا برؤيتها القاصرة في دواعي التباهي دون طمع ماليّ، ما دفع الكثير من طلابنا إلى تجاوز طموحاتهم الحقيقية نحو دراسة تخصصات جامعية بديلة، وإن لم تكن على رأس الرغبات الكامنة، بهدف تلبية تطلع العائلة أو ضمان لقمة العيش بعد نيل الشهادة.

إن ذاك الوضع غير السويّ ضيع على بلادنا طاقات طلابيّة كثيرة، تبددت قدراتها العلميّة وأحلامها المعرفيّة تحت إكراهات المادّة والسلطة الاجتماعية، حيث آثرت الاستسلام للأمر الواقع، بالانتساب إلى كليات مشبعة بالآلاف من نظرائهم، دون أن تكون لهم الفرصة على التميّز الخارق، فتخرجوا بشهادات عادية مثل غيرهم، ثم التحقوا بوظائفهم اليومية في حياة من الروتين المعطّل، ناهيك على أن نسبة معتبرة منهم تُخفق سنويّا في التكيّف مع الطور الجديد، بسبب التحوّل من تعليم عام إلى تكوين متخصّص.

غير أن المستقبل الآن، بتلك النماذج التي أتينا على ذكرها أعلاه، يدفع إلى التفاؤل العريض بتغيير الذهنيّات الاجتماعية، بالانتقال من الحجر على طموح التلميذ وتقرير حُلمه بالنيابة دون إرادة ذاتيّة، إلى مرافقته عائليّا، في حدود الرعاية والتوجيه، نحو تحقيق التطلع الشخصي دون وصاية إلزاميّة، وهو ما يفتح الآفاق واسعة على المدى المتوسط لاكتشاف المواهب التخصصيّة في الجامعة الجزائريّة، من خلال تنوّع المسارات التعليمية التي يسلكها اليوم هؤلاء المتفوقون، متحرّرين من عقدة الخوف تجاه المستقبل المهني.

مقالات ذات صلة