الرأي

إنّما أُكلت يوم أكل الثّوار الأبيض

في مثل هذه الأيام منذ مئة عام ابتلي المغرب الأقصى الشقيق بما سبق للجزائر وتونس ان ابتليتا به، وهو وقوعه تحت الاستعمار الفرنسي الصليبي، الذي أذل العباد، واغتصب البلاد، وأهان المقدسات، وما الاستعمار الفرنسي بالملوم، ولكن الأولى باللوم هم أسلافنا، فما جاءنا هذا الاستعمار الدّنيس إلا بما اكتسبت أيدينا، وما ربك بظلاّم للعبيد.

لقد سعت فرنسا الشّرهة للاستيلاء على الجزائر منذ سنة 1572م، إشباعا لنزعة صليبية متأصّلة في النفسية الفرنسية، فاحتلال الجزائر “كان حلقة من الصليبية الأولى (1)“، وهو “قرن من الصيبية نجم، لا جيش من الفرنسيين هجم (2)“، كما كان ذلك الاحتلال إشباعا لطمع مادي خسيس متجذّر في الشخصية الفرنسية.

تمكنت فرنسا من احتلال الجزائر، ثم راحت تتربص بجيران الجزائر عن يمين وشمال، فاحتلت تونس في سنة 1881، ثم احتلت المغرب الأقصى في سنة 1912.

إننا إذ نذكر بهذا الحادث (الذكرى المئوية لاحتلال المغرب الأقصى) فلكي نذكر النّاسين، وننبّه الغافلين في المغرب العربي إلى أن النزعة الاستعمارية والأحقاد الصليبية، والأطماع المادية ماتزال، ولن تزال، مهيمنة على النفسية الفرنسية، وإنه ليمكن تصّور زوال الجبال من أماكنها ولا يمكن تصّور زوال هذه الأحقاد والأطماع من نفوس أغلب الفرنسيين، وبالتالي فليؤمن أبناء المغرب العربي إيمانا لا ريب فيه أن فرنسا ساعية بشتى الوسائل ومختلف السبل للعودة إلى هذه المنطقة، وهذا إذا سايرنا الذين “يعتقدون” أنها غادرتها، وإنه لا ينجينا من عودتها – أو مجيء غيرها – إلى منطقتنا هو تغيير سياساتنا نحو بعضنا، وهي سياسات تستهدف إلحاق الضرر ببعضنا بمزايدة كثير من سياسيينا على بعضهم في موالاة فرنسا وخدمتها.

إن مسئولي المغربين الأدنى والأقصى، عندما نكبت الجزائر بأخبث استعمار، لم يكونوا على شيء، لا من حيث الواجب الديني الذي يفرض فرضا شرعيا نصرة المسلم لأخيه المسلم إذا اعتدى عليه عدو، ولا من حيث الوعي السياسي الذي يحتم على الجار أن يبادر إلى مساعدة جاره إذا هاجمه وحش، لأن ذلك الوحش لن يتوقف عند التهام الجار.. وهذا ما تفيد به تلك القصة الرمزية عن الثيران الثلاثة، حيث أغمض ثوران عيونهما عن ثالثهما الذي كان أسد يفترسه، فلما انتهى الأمر إلى وقوع الثور الأخير بين مخالب لأسد وأنيابه، أرسل تلك الحكمة القائلة: “إنما أكلت يوم أكل الثور…”.

لو وقف النظامان التونسي والمغربي إلى جانب الجزائر، وهي تواجه الوحش الفرنسي ببسالة كبيرة، لما أمكنه أن يتغلب عليها، ثم يتفرغ إليهما، ولكن الأنانية، والجبن، وفقدان الوازع الديني جعل باي تونس وسلطان المغرب لا يتحركان لمساندة جارهما (3)، وظنّا أن مسالمتهما لفرنسا، بل ومساعدتهما لها سينجيانهما من عدوانها الوحشي.

إنني أعلم أن الشعبين التونسي والمغربي ساعدا الجزائريين وآووهم بقدر الاستطاعة، وأصابهما من حكامهما ومن فرنسا أذى كثير..

وتحت يدي فتاوى ونصوص نثرية وشعرية لمغاربة يدعون حكامهم إلى الاستعداد لمواجهة العدو الفرنسي، ويستثيرون حميّة الشعب لمساعدة الجزائريين في محنتهم؛ ومما قاله محمد بن محمد بن إدريس الفاسي (4):

يا ساكني الغرب، الجهاد الجهاد فالكفر قد شارككم في البلاد

واسطة المغرب قد حازها والأمر جد والبلاء في ازدياد

حوى الجزائر ووهرانها وراع حاضرا بذاك وباد

إنّ الخداع عنده سنّة والنكث دينه متى ما أراد

سلوا الجزائر وما قد لقوا من غدره بعد عهود شداد

وندّد الشاعر محمد بن محمد بن عبد الله غريط المكناسي بالمتقاعسين عن الاستعداد للجهاد، وعن مدّ الجزائريين بما يؤدون به واجب الجهاد، فقال:

ما لي أرى جفن أهل الغرب وسنانا من بعد ما أخذ الرّومي تلمسانا

كأنهم ما دروا ماذا يريد بهم عدوّ دينهم، لا نال إمكانا

كأنّ أهل جزائر وغيرهم ليسوا لنا باعتبار الدين إخوانا

يا معشر المسلمين استيقظوا وخذوا من العدا حذركم سرا وإعلانا

فليس يؤمن غدرهم وإن بعدوا فكيف إذا أصبحوا للحد جيرانا

إن الأسباب التي أدت إلى احتلال المغرب هي بالدرجة الأولى أسباب داخلية، يبوء بإثمها أكثر المغاربة حكاما وعلماء وعامة، وأكثر هذه الأسباب مايزال منتشرا في أوطاننا مغربا ومشرقا، ومنها:

) الصراع على الحكم خاصة بين السلطان عبد العزيز وأخيه الأمير عبد الحفيظ ما أدى إلى انقسام المغاربة إلى “عزيزيين” و”حفيظيين”، وصار كل واحد يستصرخ فرنسا لنجدته..

) الانغماس في الشهوات والملذات، حيث كان السلطان عبد العزيز، الذي اعتلى “العرش” وسنّه أربع عشرة سنة، منهمكا في اشباع غرائزه.. وقد نبّهه الشاعر المصري حافظ إبرهيم إلى ذلك بقوله:

عبد العزيز ذكّرتنا أمما كانت جوارك في لهو وفي طرب

ذكّرتنا يوم ضاعت أرض أندلس الحرب في الباب والسلطان في اللعب

فاحذر على التخت () أن يسري الخراب له فتخت () سلطانة أعدى من الجرب (6).

كما كان الأمير عبد الحفيظ الذي انقلب على أخيه “لا يستعمل – كما جاء في بعض المراجع – الماء إلا للوضوء، فلا يشرب، ولا يقدم لضيوفه غير الشمبانيا (7)“..

) انتشار كبير للرشوة وبيع للوظائف..

) استفحال الظلم، ما أدى بكثير من المغاربة إلى طلب ما يسمى “الحماية”، وهي أن يلجأ المغربي إلى قنصلية أجنبية أو مجرد شخص أوربي ليحميه، فلا تستطيع الدولة أن تمسه، أو أن تستخلص منه ضرائب، أو أي واجب نحو وطنه..

) تحجر الفقهاء، وإلهاء الناس بما لا جدوى منه دينيا أو دنيويا، وادعاء “الكرامات”، حيث زعم شخص يسمى أحمد الهيبة وهو يهز سبحته أنه “بهذه السبحة أفتح القاهرة ودمشق (8)“.. ولسنا ندري ما الذي أنساه سبتة ومليلية وجعله يمد عينيه و”سبحته” إلى القاهرة ودمشق؟

) انتشار العملاء داخل المغرب من مغاربة وغيرهم، ومن أشهر هؤلاء الجواسيس الذين كانوا سمّاعين لفرنسا قدور ابن غبريط، الذي “كان بوّابا في قنصلية فرنسا في تلمسان، واستخدمته زوجة القنصل في أعمال البيت والذهاب بالأطفال إلى المدرسة...(9)“.

) انتشار الجهل والأمية، خاصة إهمال العلوم الكفائية..

إن تأخر احتلال المغرب إلى سنة 1912 ليس مردّه إلى قوة المغرب، الذي كان هو أيضا “الرجل المريض”؛ ولكن هذا التأخر عائد إلى انهماك فرنسا في مواجهة المجاهدين الجزائريين، وإلى تنافس شديد بين الدول الأوروبية على المغرب، وبعد اتفاقيات فيما بينها واسترضاءات خلص لفرنسا لتستكمل بها امبراطوريتها في المغرب العربي..

إن عدو الأمس مايزال – كما يقول الشاعر حافظ إبراهيم:

إن في الغرب أعينا راصدات كحّلتها الأطماع بسهد

وهو ينتظر الفرص لينقض على المنطقة، فلا يغتر بعضنا بأنه “صديق” له، وأنه يلعب “الڤولف” معه، ولا يغتر بعضنا بأن هذا المسؤول الأجنبي قد قام بزيارة “ودية” له، أو وجّه له دعوة لزيارة “ودية”.

إنه لا منجاة لنا جميعا من سوء المصير إلا بإخلاصنا لأوطاننا، واتحادنا في بعضنا، وتؤازرنا، ونصرة بعضنا، ورحم الله شهداء المغرب العربي الذين جاهدوا في سبيل الله – عز وجل – ولتحرير هذه المنطقة الطاهرة من أرض الإسلام.

هوامش:

1-2) آثار الإمام الإبراهيمي. ج3ص 163 و164.

3) عبد الله العروي: مجمل تاريخ المغرب. ص 533.

4) محمد المنوني: مظاهر يقظة المغرب .. ج1. صص 32 33.

5) المرجع نفسه. ص 34.

) التخت الأول كرسي الحكم، والتخت الثاني الفرقة الموسيقية، وسلطانة هي مطربة مصرية بعث “جلالة السلطان” و”أمير المؤمنين” وفدا إلى القاهرة لاستقدامها إلى المغرب.. كما يبعث حكام اليوم وفودا وطائرات خاصة لاستقدام….

6) ديوان حافظ إبراهيم، الهيئة العامة المصرية للكتاب.. ص320.

7) جمال ڤنان: المقاومة المغربية، نشرة وزارة المجاهدين.. ص 135.

8) إبراهيم السّولامي: الشعر الوطني المغربي (عهد الحماية) ص 29.

9) أنظر مقدمة علي تابليت لرسالة “عقود الجواهر في حلول الوفد المغربي بالجزائر” لمحمد أبن الخوجة. ص9

مقالات ذات صلة