الرأي

ابتكار أحزاب ديمقراطية لبناء الدولة المدنية

حبيب راشدين
  • 1260
  • 5
ح.م

واجبٌ فتح قنوات الحوار مع من بقي في الحَراك ومن غادره لأكثر من سبب، ينبغي أن لا يعفى رئيسُ الجمهورية من مسؤولية تسخير ما لديه من صلاحيات لصالح ترميم المشهد السياسي المفكك، وحمل الأحزاب الموروثة عن العهد السابق على مراجعةٍ محمودة لهياكلها، ولممارساتها، وتجديد قياداتها بطرق ديمقراطية، مع إنتاج خطابٍ سياسي جديد، والانفتاح الصادق على مجتمع شبابٍ متوثب للمشاركة في إدارة الشأن العام.

أعراض الشيخوخة المبكرة التي ظهرت على الأحزاب الناجية من العهد الاستئصالي تفاقمت بسرعة هندسية في العهدة الأولى للرئيس المقال، وتحوَّلت إلى كائنات رخوية بلا روح، تُساق كما تساق بهيمة الأنعام، تتاجر ببضاعة فاسدة على فتات ريع السلطة، قبل أن يجهز عليها الحراك، وينهي مهامها كما أنهى مهام العصابة المختطِفة للقرار، وهي اليوم جاهزة لواحد من المآلات الثلاثة التي استشرفها الشاعر عمر أزراج عمر لجبهة التحرير في تسعينيات القرن الماضي: بأن تتعدَّد أو تتجدَّد أو تتبدَّد.

وحيث أنه ليس من مسؤولية الرئيس الجديد أن يتحمَّل وزر الحل والتفكيك بقرار إداري أو بمرسوم رئاسي، فإن أفضل الخيارات المتاحة له، هي أن يبادر إلى مراجعةٍ سريعة للقانون العضوي المنظِّم للأحزاب، يسمح بإصابة أكثر من عصفور بحجر واحد: ترحيل قيادات مترهِّلة عاجزة عن مسايرة التغيير، ودمقرطة الحياة السياسية داخل مؤسسات الأحزاب، وانفتاحها على وافدين جدد من شباب الحراك، وحتى من الكتلة الصامتة المقاطِعة للنشاط الحزبي منذ الاستقلال.

تعديل قانوني الأحزاب والانتخابات لا يحتاج بالضرورة إلى تعديل الدستور، الذي يفتقر إلى شركاء في المشهد السياسي تكون لهم شرعية التمثيل، والرغبة في التغيير، شرطان غائبان اليوم في أغلب الكيانات الحزبية بجميع أطيافها ومشاربها، وليس بواردٍ أن يتمكن شباب الحَراك من بناء كيانات حزبية في بحر ستة أشهر، ولا في أكثر من ذلك، وبوسع الرئيس الجديد أن يمكِّنهم من فرصة المشاركة في صناعة التغيير عبر إلزام الكيانات الحزبية المعتمَدة بفتح مؤسساتها القاعدية لتجديد قواعدها النضالية، وإعادة بناء مؤسساتها القيادية المحلية والوطنية عبر انتخاباتٍ تشرف عليها الهيأة المستقلة، تسمح للوافدين الجُدد عليها بانتزاع القيادة بطرق ديمقراطية.

لقد سبق لي في الأسابيع الأولى من بداية الحراك أن وجَّهت دعوة إلى الشباب بضرورة اكتساح المؤسسات القاعدية للتجمع الوطني ولجبهة التحرير، بدل الدعوة القاصرة إلى حل أحزاب السلطة، ما دامت الوسيلة الوحيدة المتاحة لانتزاع السلطة بطرق سلمية هي الأحزاب، وما دام إسقاط النظم غير واردٍ بأدوات الثورات المخملية التي تفتقر إلى المخالب والأنياب، وما يصلح في حق حزبي السلطة يصلح في حق بقية الأحزاب، المطالَبة اليوم باستحقاق استعادة الشرعية والمصداقية لمؤسساتها، قبل المطالبة بنصيبها من السلطة التمثيلية أو التنفيذية.

وكيفما كان الإجماع الذي سوف يُنجز مستقبلا حول دستور جديد، وحول طبيعة نظام الحكم، ومعالم إعادة توزيع السلطات والفصل بينها، فإن بناء الدولة المدنية يمرّ حتما عبر التنافس الآمن بين أحزاب تمثيلية، تؤطر وتمثل بحق أهم القوى الاجتماعية الحية المهتمّة بالشأن العام، وهي ثلاث عائلات لا أكثر كانت حاضرة في المشهد السياسي منذ نشوء الحركة الوطنية زمن الاحتلال، مثلها بلا منازع: حزب الشعب، وجمعية العلماء المسلمين، واللفيف المفروق من القوى اليسارية والليبرالية، ودعاة الاندماج في ثقافة المحتل.

نفس القوى ما زالت حاضرة في المشهد تحت عناوين متجددة منذ الاستقلال وحتى بعد بداية التعددية، وبوسعنا أن نمنحها فرصة إعادة التشكيل والهيكلة، وتجديد قياداتها بطرق ديمقراطية ملزِمة، يفرضها عليها قانون الأحزاب الجديد، كما يحميها ويحمي مناضليها من عبث وتسلط قوى المال الفاسد المُفسد للحياة السياسية، ويمنحها فرصة التمثيل الحقيقي لقواعدها الاجتماعية، قبل التطلع إلى التمثيل الوطني عبر الاستحقاقات الانتخابية الوطنية القادمة.

ها هنا مشروعٌ إصلاحي منتج لفرص التغيير، هو في متناول الرئيس الجديد، غير مقيَّد باستحقاق تعديل الدستور، يمكن تمريرُه عبر غرفتي البرلمان كما مُرِّر التعديل الأخير لقانون الانتخابات والهيأة المستقلة للانتخابات، وقد يشكل عربونا عن صدق نيّة الرئيس في الإصلاح، ويشفع للبرلمان القائم ما سلف من الخضوع المهين للعصابة المختطِفة للقرار.

مقالات ذات صلة