الرأي

ابتكار رؤية مستقبلية أصيلة منتجة للأمل

حبيب راشدين
  • 1167
  • 8
ح.م

ثمانية أشهر من الحَراك الراجل في الشوارع، والعراك المرتجل بالألسن في الفضاء الإعلامي: الأبيض والأزرق، لم تتقدم بنا خطوة واحدة نحو الإحاطة الجادة بالتحديات التي تواجه البلد والشعب، في زمن يعاد فيه توزيع الأوراق الرابحة على عجل بين الكبار على حساب صغار الدول الفاشلة، أو المرشحة للفشل الذي يسبق التفكيك.

لم ينجح الحراكُ في تحرير العقول للتفكير في سبل إصلاح العربة مع تدبير الحصان، فيما تشتغل الطواحن الهوائية في حسم مآل معادلة صفرية بين من يريد وضع العربة قبل الحصان، أو حتى بلا حصان، ومن يحرص على استحضار حصان كيفما اتفق، توكل إليه مهمة ترميم العربة إن شاء ومتى شاء.

الأسابيع الثلاثة القادمة من الحملة لن تكون كافية حتى للتعريف بالهوية السياسية للمتنافسين الخمسة، وقد صنَّفهم الشارع كنُطفٍ شاردة واردة من صلب نظام هرم من مائه المهين، حتى يؤمَل منها صناعة البديل لما أفسدته المراوحة ستة عقود داخل دائرة مغلقة، في بحر ثلاثة أسابيع من السياحة بين ساحات عامة قد يقاطعها حتى الأهل والأنصار، وشاشات رسمية قد طلَّقها عموم الجمهور بلا رجعة.

أغلب الظن أن مديري الحملات الانتخابية سوف يكتفون بتجربة المجرَّب من “الهملات” المستنسخة من إبداعات تسعينيات القرن الماضي، بسردٍ مملّ مقرف لجمل مفككة، من برامج تؤلف بالرتق من قصاصات أكثر من الفتق، تعد “الكل بالكل” من غير تقدير لما بين أيدينا من موارد ومؤهِّلات، ولا اعتبار لما بقي عندنا من عقل راشد، ما دام نظام الحكم والقوانين المنظمة لتولي الولايات الانتخابية لا تُلزم الفائز باحترام الوعود الانتخابية، ولأن صاحب “السلطة التأسيسية” لن تمتد سلطتُه ساعة واحدة بعد إغلاق صناديق الاقتراع.

ومن باب إبراء الذمة ليس إلا، نذكر بأن البلد في حاجة ـ قبل الحاجة إلى برامج تفصيلية لإدارة الشأن العام ـ إلى ابتكار “رؤية مستقبلية أصيلة” تنتش بذور الأمل لجيل شاب قد حرمه كبار “المعمِّرين” من الحق في الحلم: بهيمنة الظلم مع التمييز البغيض عند القصاص، وباستشراء الفساد مع تمييز منكر عند اقتسام المغارم والمغانم، وبتسيُّد الرداءة وتسفيه أحلام الكفاءات، بتحكيم قوانين المحسوبية بلا حرج، ثلاث آفات مستدامة، لا يعوَّل معها كثيرا على نجاح أي برنامج حكم، حتى لو اجتمعت لتأليفه عقولُ الأنس والجن، وكان بعضهم لبعض ظهيرا.

مقاييس بسيطة سوف تسمح للناخب بتمييز الغث والسمين في ما سيُعرض عليه من وجبات انتخابية، أكتفي بذكر مقياس الفرز الأول منها: بواجب الالتفات الفطن إلى ما يبديه المتنافسون من احترام لعقول الراشدين من الناخبين، يبدأ بترك التسويق المرتجل لوعود لا تمتلك البلد مواردها، ولا يمتلك صاحب الوعد صلاحيات الوفاء بها، والتوقف بعدئذ عند ما هو ممكن، ما دامت السياسة هي فن الممكن، بحمل البلاد ابتداءً على تجنيد المتاح من مواردها المادية والبشرية، وتهيئتها للتنافس باقتدار، وأخذ سهمها من الازدهار والرفاهية، وفق ما يسمح به التقسيم العالمي للعمل، الذي ليس لنا نصيبٌ معلوم في تدبيره.

 لسنا بكل تأكيد في حاجة ـ كما يزعم بعضهم ـ إلى تنويع اقتصاد البلد بما لا نمتلك أصلا موارده ومؤهِّلاته وفرص التنافس به، بقدر ما نحن في حاجة إلى اقتصاد موجَّه لتأمين الاكتفاء الذاتي في ما لا تستوفى السيادة إلا به، والمشاركة بما يفضل في التنافس مع الغير، بما تتفرَّد به البلد من موارد ومواهب، وقبل هذا وذاك إعداد البلاد والعباد لتقبُّل ثورة ناعمة في العقول والسلوك، توازن بعدل وإنصاف بين ما هو مطلوبٌ من الحاكم من تعفف طوعي عن الغلول والتربُّح بالمنصب، وما هو مطلوبٌ من المحكومين من واجب التشمير عن السواعد، والتخلص من آفة التوكل على “البقرة الحلوب”.

مقالات ذات صلة